(التدوين في عصر التابعين)
 

لقد تلقى التابعون علومهم على يدي الصحابة، وخالطوهم وعرفوا كل شيء عنهم، وحملوا الكثير الطيب من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريقهم، وعرفوا متى كره هؤلاء كتابة الحديث ومتى أباحوه، فقد تأسوا بهم وهم الرعيل الأول الذين حفظوا القرآن والسنة، فمن الطبيعي أن تتفق آراء التابعين وآراء الصحابة حول حكم التدوين، فإن الأسباب التي حملت الخلفاء الراشدين والصحابة على الكراهة هي نفسها التي حملت التابعين عليها، فيقف الجميع موقفاً واحداً ويكرهون الكتابة ما دامت أسباب الكراهة قائمة، ويجمعون على الكتابة وجوازها عند زوال تلك الأسباب، بل إن أكثرهم يحض على التدوين ويشجع عليه. ولن نستغرب أن نرى خبرين عن تابعي أحدهما يمنع الكتابة والآخر يبيحها، ولن نعجب من كثرة الأخبار التي تدل على الكراهة في مختلف أجيال التابعين – كبارهم وأوسطهم وصغارهم- والأخبار التي تدل على الإباحة- ما دمنا نوجه كل مجموعة من هذه الأخبار وجهة تلائم الأسباب التي أدت إليها، ونرى أن سبيل الصحابة المتأخرين وكبار التابعين إباحة تقييد الحديث بشروط تمتنع معها كراهته المأثورة عندهم عن النبي وكبار الصحابة، فقد امتنع عن الكتابة من كبار التابعين عبيدة بن عمرو السلماني المرادي (- 72هـ )، وإبراهيم بن يزيد التيمي (-92هـ )، وجابر بن زيد

(-93هـ )، وإبراهيم النخعي (-96هـ )، ولم يرض عبيدة أن يكتب عنده أحد ولا يقرأ عليه أحد، وقد نصح إبراهيم فقال له: (لا تخلدن عني كتاباً)، وقبل وفاته دعا بكتبه فأحرقها وقال: (أخشى أن يليها قوم يضعونها غير مواضعها)، وكره إبراهيم النخعي أن تكتب الأحاديث في الكراريس، وتشبه بالمصاحف، وكان يقول: (ما كتبت شيئاً قط)، حتى إنه منع حماد بن سليمان من كتابة أطراف الأحاديث، ثم تساهل في كتابتها، قال ابن عون: (رأيت حماداً يكتب عن إبراهيم، فقال له إبراهيم: ألم أنهك؟ قال: إنما هي أطراف.

ونسمع عامراً الشعبي (17- 103هـ ) يردد عبارته المشهورة: (ما كتبت سوداء في بيضاء، ولا سمعت من رجل حديثاً فأردت أن يعيده علي).

وقد ازدادت كراهة التابعين للكتابة عندما اشتهرت آراؤهم الشخصية، فخافوا أن يدونها طلابهم مع الحديث، وتحمل عنهم، فيدخله الالتباس.

ويمكننا أن نستنبط أن من كره الكتابة وأصر على ذلك إنما كره أن يدون رأيه، وفي هذا يقول أستاذنا الدكتور يوسف العش: (وأما من ورد عنهم الامتناع عن الاكتاب من هذا الجيل، فيؤول امتناعهم بما لا يخالف ما انتهينا إليه، فهم جميعاً فقهاء وليس بينهم محدث ليس بفقيه، والفقيه يجمع بين الحديث والرأي، فيخاف تقييد رأيه واجتهاده إلى جانب أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوضح هذا بأمثلة تثبت ما ذهب إليه فيقول: (إننا نجد في الواقع أخباراً تروي كراهتهم لكتابة الرأي، كاعتذار زيد بن ثابت عن أن يكتب عنه كتاب مروان.. وجاء رجل إلى سعيد بن المسيب – وهو من الفقهاء الذين روي امتناعهم عن الاكتاب- فسأله عن شيء فأملاه عليه، ثم سأله عن رأيه فأجابه، فكتب الرجل، فقال رجل من جلساء سعيد: أيكتب يا أبا محمد رأيك؟ فقال سعيد للرجل: ناولنيها، فناوله الصحيفة فخرقها، وقيل لجابر بن زيد: إنهم يكتبون رأيك، قال: تكتبون ما عسى أرجع عنه غداً.

وكل هذه الأقوال رويت عن علماء، حدَّث المؤرخون عنهم أنهم كرهوا اكتاب الناس، وهي تدل دلالة صريحة على أن الكراهة ليست في كتابة العلم أي الحديث، بل في كتابة الرأي، وإن الأخبار التي وردت في النهي دون تخصيص إنما قصد بها الرأي خاصة. ويشابه هذا الأمر ما حدث في أمر كراهة الرسول والصحابة الأولين: من التباس الحديث بالقرآن، أو الانكباب عليه دونه، فما كانوا يخشونه من الحديث أصبح خشية التابعين الأولين من الرأي والتباسه بالحديث.

ويقوي هذا الرأي عندنا ما ورد عن هؤلاء التابعين من أخبار يحثون فيها على الكتابة، ويسمحون لطلابهم أن يكتبوا عنهم، وقد نشطت الكتابة عندما فرق طلاب العلم بين النهي عن كتابة الرأي والنهي عن كتابة الرأي مع الحديث، ونرى التابعين ينكبون على الكتابة في حلقات الصحابة، بل إن بعضهم كان يحرص على الكتابة حرصاً شديداً، فهذا سعيد بن جبير (-95هـ )كان يكتب عن ابن عباس، فإذا ما امتلأت صحفه كتب في نعله حتى يملأها.

وعنه قال: (كنت أسير بين ابن عمر وابن عباس، فكنت أسمع الحديث منهما فأكتبه على واسطة الرحل حتى أنزل فأكتبه، ورخص سعيد بن المسيب (-94هـ ) لعبد الرحمن بن حرملة بالكتابة حينما شكا إليه سوء حفظه، ونرى عامراً الشعبي بعد أن كان يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء يردد قوله: (الكتاب قيد العلم)، وكان يحض على الكتابة ويقول: (إذا سمعتم مني شيئاً فاكتبوه ولو في حائط)، ومع هذا فقد روي أنه لم يوجد له بعد موته إلا كتاب بالفرائض والجراحات، وإذا كانت كتبه التي تركها قليلة ولا تدل على نشاطه العلمي – فإننا نعزو هذا إلى قوة حافظته لأنه كان يعتمد على الحفظ أكثر من اعتماده على الكتابة، وهذا لا ينافي قط إملاءه لطلابه وحثهم على الكتابة. ويقول الضحاك بن مزاحم (-105هـ ): (إذا سمعت شيئاً فاكتبه ولو في حائط)، كما أنه أملى على حسين بن عقيل مناسك الحج.

وانتشرت الكتب حتى قال الحسن البصري (-110هـ ): (إنَّ لنا كتباً كنا نتعاهدها). وكان عمر بن عبد العزيز (61- 101هـ ) يكتب الحديث.

روي عن أبي قلابة قال: (خرج علينا عمر بن عبد العزيز لصلاة الظهر ومعه قرطاس، ثم خرج علينا لصلاة العصر وهو معه، فقلت له: يا أمير المؤمنين، ما هذا الكتاب؟ قال: حديث حدثني به عون بن عبد الله فأعجبني فكتبته...)، وهذا يدل على أن الكتابة قد شاعت بين مختلف الطبقات ولم يعد أحد ينكرها في أواخر القرن الأول الهجري وأوائل القرن الثاني. وقد كثرت الصحف والكتب في ذلك الوقت حتى لنرى مجاهد بن جبر (-103هـ ) يسمح لبعض أصحابه أن يصعدوا إلى غرفته فيُخرِج إليهم كتبه فينسخون منها.

ويطلب هشام بن عبد الملك من عامله أن يسأل رجاء بن حيوة (-112هـ ) عن حديث، فيقول رجاء: (فكنت قد نسيته لولا أنه كان عندي مكتوباً).

وكان عطاء بن أبي رباح (-114هـ ) يكتب لنفسه ويأمر ابنه أحياناً أن يكتب له، وكان طلابه يكتبون بين يديه، وقد بالغ في حض طلابه على التعلم والكتابة، فعن أبي حكيم الهمداني قال: (كنت عند عطاء بن أبي رباح ونحن غلمان، فقال: يا غلمان، تعالوا اكتبوا، فمن كان منكم لا يحسن كتبنا له، ومن لم يكن معه قرطاس أعطيناه من عندنا).

ونشطت الحركة العلمية وازدادت معها الكتابة والقراءة على العلماء، ويدل على هذا ما روي عن الوليد بن أبي السائب قال: رأيت مكحولاً ونافعاً وعطاء تقرأ عليهم الأحاديث، وعن عبيد الله بن أبي رافع قال: (رأيت من يقرأ على الأعرج – عبد الرحمن بن هرمز (-117هـ ) حديثه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: هذا حديثك يا أبا داود؟ قال: نعم..).

وها هو ذا نافع مولى ابن عمر (-117هـ ) يملي العلم على طلابه، وطلابه يكتبون بين يديه. ويصور لنا قتادة بن دعامة السدوسي (-118هـ ) بإجابته لمن يسأله عن كتابة الحديث- موقف هذا الجيل من التابعين من الكتابة بعد أن فشت فيهم وانتشرت وأصبحت من ضروريات كل طالب علم، فيقول: (وما يمنعك أن تكتب، وأخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب: ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى﴾ [طه: 52]).

وكثرت الصحف المدونة، حتى إن خالداً الكلاعي (-104هـ ) جعل علمه في مصحف له أزرار وعرا.

وعلى رأس المائة من القرن الأول للهجرة أمر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز كبار العلماء بجمع الحديث وتدوينه، ثم بعث به إلى كل أرض له عليها سلطان، وهذا هو التدوين الرسمي – من قبل الدولة- الذي أجمع عليه المؤرخون، وسنبسط القول فيه بعد قليل.

وقد يظن الباحث أن كراهة الكتابة قد ولَّت وانهزمت أمام إباحتها، ولم تعد هذه الإباحة مجرد رأي بل انتقل الرأي إلى التطبيق فعلاً، وتبنت الدولة الإشراف على الكتابة، ولكنا لا نلبث أن نسمع أصوات من يكره الكتابة تعلو من جديد، وكان بعض هؤلاء من نفس جيل التابعين الثاني (أواسطهم) ومن صغارهم، فقد راعهم أن يروا الحديث في كراريس ودفاتر، وأن يعتمد طلاب الحديث والعلماء على الكتب ويهملوا الحفظ، فتمسكوا بالآثار التي لا تبيح الكتابة، وأبوا أن ينكب أهل الحديث على دفاترهم ويجعلوها خزائن علمهم، ولم يعجبهم أن يخالَف سبيل الصحابة في الحفظ والاعتماد على الذاكرة، وحق لهم أن يكرهوا الاتكال على الكتب لأن في الاتكال على المكتوب وحده إضعافاً للذاكرة وانصرافاً عن العمل به.

وها هو ذا الضحاك بن مزاحم الذي أباح الكتابة سابقاً والذي أملى مناسك الحج حين زال خوفه من أسباب الكراهة – ها هو ذا يقول: (يأتي على الناس زمان تكثر فيه الأحاديث حتى يبقى المصحف بغباره لا يُنظر فيه)، وفي رواية عنه: (يأتي على الناس زمان يُعلَّق فيه المصحف حتى يعشعش عليه العنكبوت، لا يُنتفع بما فيه، وتكون أعمال الناس بالروايات والأحاديث). لقد تصور عاقبة هذا الإقبال على الكتابة وجعل الحديث في دفاتر وكراريس، فأعلن إنكاره مدوياً: (لا تتخذوا للحديث كراريس ككراريس المصاحف).

ويمكننا أن نحمل قول الزهري: (كنا نكره كتاب العلم، حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء، فرأينا ألا نمنعه أحداً من المسلمين). على ما بيناه، لأننا نعرف أن الإمام الزهري كان يكتب الحديث وهو في دور طلب العلم، وكان يشجع أصحابه على الكتابة حتى إنه كان يكتب في ظهر نعله خشية أن يفوته الحديث.

وفعلاً عندما طلب منه الخليفة هشام بن عبد الملك أن يكتب لبنيه خرج وأملى على الناس الحديث وقال: (استكتبني الملوك فأكتبتهم، فاستحييت الله إذ كتبها الملوك ألا أكتبها لغيرهم).

وسيتبين لنا بعد قليل أن حرص الإمام الزهري على تنقيح السنة كان عاملاً كبيراً في تدوينه الحديث هو وبعض معاصريه.

وكان سعيد بن عبد العزيز يفخر بحفظه ويقول: (ما كتبت حديثاً قط)، ونرى الإمام الأوزاعي بعد أن كان يملي على طلابه ويصحح لهم ما يكتبونه عنه ليجيزهم بروايته، ينفر من الاعتماد على الكتاب ويتشاءم مما سيؤول إليه الحفظ، فلا يسره الميل عن طريق السلف الذين كانوا يتلقون الحديث من أفواه العلماء، فيقول: (كان هذا العلم شيئاً شريفاً إذ كان من أفواه الرجال يتلقونه ويتذاكرونه، فلما صار في الكتب ذهب نوره، وصار إليه غير أهله).

ونرى بعض من كره الكتابة في هذا العصر يعتمد عليها في حفظ الحديث ثم يمحو ما كتبه بعد أن يحفظه، وقد فعل غير واحد من السلف أمثال سفيان الثوري (-161هـ )، وحماد بن سلمة (-167هـ ) وغيرهما. ويروى في هذا عن خالد الحذاء (-141هـ ): (ما كتبت شيئاً قط إلا حديثاً طويلاً، فإذا حفظته محوته).

وكان كثير من التابعين يمحون كتبهم قبل وفاتهم، أو يوصون بكتبهم إلى من يثقون به ليفيد منها خشية أن تقع في غير مواضعها، فقد أوصى أبو قلابة بكتبه إلى أيوب، كما أوصى شعبة بن الحجاج ابنه بغسل كتبه بعد موته.

إن محاولة هؤلاء المانعين من الكتابة لم تخفف من نشاط الكتابة، ولم تقف أمام هذا الجيل الذي نشأ عليها، فقد كان تيار إباحة الكتابة أقوى بكثير من تيار كراهتها.

ونرى أيوب السختياني (-131هـ ) يرد على من يعيب تقييد الحديث فيقول: (يعيبون علينا الكتاب.. ثم يتلو:

﴿عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ﴾).

وما لبث التياران أن توحدا، وألحت الحاجة القاهرة إلى الكتابة على هؤلاء المانعين بأن يجاروا التيار العام ويعتمدوا في حفظ السنة على الحفظ والكتابة معاً.

يقول ابن الصلاح: (ثم إنه زال ذلك الخلاف وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته، ولولا تدوينه في الكتب لدُرس في الأعصر الآخرة).

ويقول الرامهرمزي: (والحديث لا يُضبط إلا بالكتاب ثم بالمقابلة والمدارسة والتعهد والتحفظ والمذاكرة والسؤال والفحص عن الناقلين والتفقه بما نقلوه، وإنما كره الكتاب من كَره في الصدر الأول لقرب العهد وتقارب الإسناد، ولئلا يعتمده الكاتب فيهمله ويرغب عن تحفظه والعمل به، فأما والوقت متباعد، والإسناد غير متقارب، والطرق مختلفة، والنقلة متشابهون، وآفة النسيان معترضة، والوهم غير مأمون، فإن تقييد العلم بالكتاب أولى وأشفى...).

ولم تكن ظاهرة الاختلاف هذه ناشئة عن انقسام العلماء إلى حزبين أو مدرستين إحداهما تبيح الكتابة والأخرى تمنعها، بل نشأت من تلك الأسباب التي بيناها، فإذا ما زالت أسباب المنع أباح العلماء الكتابة، وإذا قامت عاد أكثرهم فمنع الكتابة، وإذا ما خيف من الاتكال على الكتاب وإهمال الحفظ علت أصوات المنع ثانيةً تطالب بالاعتماد على الذاكرة، حتى أجمعت الأمة على الكتابة التي أصبحت من ضروريات حفظ الحديث لا يمكن الاستغناء عنها.

  • أهم المصادر والمراجع:

-          الوجيز في علوم الحديث: د. محمد الخطيب.

-          نزهة النظر شرح نخبة الفكر: الإمام ابن حجر العسقلاني.

-          انظر: قواعد التحديث من علوم الحديث: الشيخ جمال الدين القاسمي.

-          مقدمة ابن الصلاح: الإمام ابن الصلاح.