في آداب المحدِّث وطالب الحديث (1)
 

[1] آداب المحدِّث:

قال حجة الإسلام الغزالي في كتاب (الأدب في الدين) ما مثاله:

«آداب المُحَدِّث: يقصد الصدق، ويجتنب الكذب، ويحدّث بالمشهور، ويروي عن الثِّقات، ويترك المناكير، ولا يذكر ما جرى بين السلف، ويعرف الزمان، ويتحفظ من الزلل والتصحيف واللحن والتحريف، ويدع المُدَاعَبَةَ، ويُقِلُّ المُشَاغَبَةَ، ويشكر النعمة إذْ جُعِلَ في درجة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويلزم التواضع، ويكون معظم ما يحدّث به ما ينتفع المسلمون به من فرائضهم وسننهم وآدابهم في معاني كتاب ربهم عز وجل، ولا يَحمِل عِلمَه إلى الوزراء، ولا يَغْشَى أبواب الأمراء، فإن ذلك يُزْرِي بالعلماء، ويُذْهِبُ بَهاء عِلْمِهم إذا حملوه إلى ملوكهم ومياسيرهم، ولا يحدّث بما لا يعلمه في أصله، ولا يُقْرَأ عليه ما لا يراه في كتابه، ولا يتحدَّث إذا قُرئ عليه، وَيَحْذَرُ أَن يُدخِل حديثاً في حديث».

 

[2] آداب طالب الحديث:

«يَكْتُبُ المشهور، ولا يَكْتُبُ الغريب، ولا يَكْتُبُ المناكير، ويَكْتُبُ عن الثقات، ولا يغلِبُه شُهرة الحديث على قرينه، ولا يَشْغَلُهُ طلبه عن مُروءته وصلاته، يجتنب الغِيبَة، ويُنْصِتُ لِلسَّماع، وَيَلْزَمُ الصمتَ بين يَدَيْ مُحَدِّثِه، يُكْثِرُ التلفُّت عند إصلاح نسخته، ولا يقول: سمعتُ وهو ما سَمِع، ولا ينشره لطلب العُلُوِّ فيكتُبَ مِن غير ثِقَة، ويلزم أهلَ المعرفة بالحديث من أهل الدين، ولا يكتب عمن لا يعرف الحديث من الصالحين» انتهى.

[3] ما يفتقر إليه المحدِّث:

قال النوويُّ: «مما يَفْتَقِرُ إليه من أَنواع العلوم، صاحب هذه الصناعة، معرفةُ الفقه والأُصولين، والعربية، وأَسماءِ الرجال، ودقائقِ علم الأسانيد، التاريخِ، ومعاشَرَةُ أهل هذه الصنعة، ومُباحَثَتُهم مع حسن الفكر، ونباهة الذهن، ومداومة الاشتغال به، ونحو ذلك من الأدوات التي يُفْتَقَرُ إليها».

[4] ما يستحب للمحدّث عنه التحديث:

يُسْتَحب له إذا أراد حضور مجلس التَّحديث أن يتطهرَ بغُسل أو وضوء، ويتطيَّب، ويتبخَّر، ويستاك، كما ذكره ابن السمعاني، ويُسَرِّّح لحيتَه، ويَجلِسَ في صدر مجلسه متمكناً في جلوسه بوَقَارٍ وهَيْيَة. وقد كان مالك يفعل ذلك فقيل له، فقال: «أُحِبُّ أن أُعَظِّم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحدِّث إلا على طهارة متمكناً».

وكان يكره أن يحدِّث في الطريق، أَو وهو قائم (أسنده البيهقي). وأسْنَدَ عن قَتادَة قال: «لقد كان يَسْتَحِبُّ أن لا تُقْرَأ الأحاديثُ إلاَّ على طهارة». وعن ضِرَار بن مُرَّة قال: «كانوا يكرهون أن يحدِّثوا على غير طُهر». وعن ابن المسيَّب أنه سُئِل عن حديث وهو مضطجع في مرضه، فجلس وحدَّث به، فقيل له: وَددتَ أنك لم تَتعنَّ؛ فقال: «كَرِهْتُ أن أُحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مُضْطَّجِع». وعن بشر بن الحارث أن ابن المبارك سُئِل عن حديث وهو يمشي فقال: «ليس هذا من توقير العلم!» وعن مالك قال: «مجالس العلم تُحْتَضَرُ بالخشوع والسكينة والوَقار، ويُكره أن يقوم لأحد» فقد قيل: إذا قام القارئ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد، فإنه يُكْتَبُ عليه خطيئة، فإن رَفَعَ أحدٌ صوتَه في المجلس زَبَرَهُ - أي انْتَهَرَهُ- وزَجَرَهُ فقد كان مالك يفعل ذلك أيضاً ويقول: قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ [الحجرات: 2]؛ فمن رفع صوته عند حديثه فكأنما رفع صوته فوق صوته، ويُقْبِل على الحاضرين كلهم، فقد قال حبيب بن أبي ثابت: «إنَّ من السنة إذا حدث الرجل القوم، أن يُقْبِلَ عليهم جميعاً، ويَفْتَتِحَ مَجْلِسَه ويَخْتِمَه بتحميد الله تعالى والصلاةِ على النبي صلى الله عليه وسلم ودعاء يليق بالحال بعد قراءة قارئٍ حَسَنِ الصوت شيئاً من القرآن العظيم، فقد رَوَى الحاكم في (المُسْتَدرَك) عن أبي سعيد قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا تذاكروا العلم، وقرؤوا سورة، ولا يُسْرَدُ الحديثُ سَرْداً عَجَلاً يمنع فَهْمَ بعضِه؛ كما رُوِِي عن مالك أنه كان لا يستعجل ويقول: «أُحِب أن أفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم». وأورد البيهقي في ذلك حديث البخاري عن عروة قال: جلس أبو هريرة إلى جنب حجرة عائشة وهي تصلي، فجعل يحدّث، فلما قضت صلاتها قالت: «ألا تعجب إلى هذا وحديثه؟ إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إنّمَا كانَ يُحَدِّثُ حَدِيثاً لَوْ عَدَّهُ العادُّ أحْصَاهُ»، وفي لفظ عند مسلم: «إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ». وفي لفظ عند البيهقي عقيبه: «إنما كَانَ حدِيثُه فَصْلاً تَفْهَمُهُ القلوب» (كذا في التقريب، وشرحه التدريب).