المزاح والدعابة في السنة
 

هل في هذا الدين فسحة لمزاح أو دعابة وهل فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك أو فعل أصحابه من بعده؟ وما هو القدر الجائز من غيره؟ هذا ما سنتناوله معكم في بحثنا هذا اليوم بإذن الله تعالى.

ونبدأ وبنقل طرف مما ذكره أهل اللغة من معاني المزاح.

المزاح لغة:

قد عرّف أهل اللغة المزاح بأنه: (الدعابة )، (ونقيض الجد )، قال ابن منظور : المزح (الدعابة)، وفي المحكم: المزح نقيض الجد، وهو من مزح يمزح مزحاً ومزاحاً ومزاحه وقد مازحة فمازحه ومزاحاً والاسم المُزاح بالضم والمزاحة أيضاً والمِزاح بالكسر مصدر مازحه وهما يتمازحان وفي لسان العرب: ( المزح من الرجال: الخارجون عن طبع الثقلاء المتميزون من طبع البغضاء).

أما المزاح شرعاً: فقد عرفه الزبيدي بقوله: هو المباسطة إلى الغير على جهة التلطف والاستعطاف دون أذية (ليخرج بذلك الاستهزاء والسخرية).

وقد قال الأئمة: أن الإكثار منه والخروج عن الجد مخل بالمروءة والوقار، كما أن التنزه عنه بالمرة والتقبض مخل بالسنة والسيرة النبوية والمأمور باتباعها والاقتداء بها وخير الأمور أوسطها.

* حكم المزاح في الشرع:

إذن يمكن أن نقول أن المزاح الخالي من الموانع التي تعكر صفو الخواطر مندوب إليه، وهو خلق كريم حث عليه الشارع الحكيم.

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون المتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون».

وحقيقة أن المسلم الذي يضم إلى الجد روح الدعابة ومفاكهة الحديث وعذوبة المنطق وطرافة الحكمة؛ لا شك أنه يملك القلوب بجاذبية حديثه ويأسر النفوس بلطيف معشره وكريم مداعبته.

فالمزاح سنة، وقد فعله الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الذين تربوا في مدرسته، فقد كانوا يتمازحون فيما بينهم ولكن إذا جد كانوا هم الرجال .

روى البخاري في الأدب المفرد بسنده إلى بكر بن عبد الله قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال)

يتبادحون : أي يترامون به، يقال : بدح يبدح إذا رمي.

* محل المزاح المندوب:

والمزاح المندوب غالباً ما يكون ويجري بين الأهل والأقارب والإخوان والأصدقاء.

والغرض من المزاح (وللمزاح أغراض عظيمة) يكون بقصد تطييب نفس المخاطب ومؤانسته، يقول ابن حجر (وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله على ندره لمصلحة تطييب نفس المخاطب وموانسته وهو سنه مستحبة)

ويقول الماوردي: (والعاقل يتوخى بمزاحه حالين لاثالث لهما وهما:

1/ أحدهما: إيناس المصاحبين والتودد إلى المخاطبين وهذا يكون بجميل القول ومستحسن الفعل.

2/ والثاني: أن ينفي بالمزاح ما طرأ عليه وحدث به من هم).

* وصية في المزاح:

وقد أوصى أحد السلف ابنه بوصيه بليغة ينبغي لكل مازح استحضارها لئلا تزل قدمه، فقال: لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا تمازح الدنيء فتهون عليه).

ولم يكن مزح رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج عن هذين الحالين السابقين حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً)، قال المناوي رحمه الله: قوله: (ولا أقول إلا حقا) لعصمتي في القول والعمل، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يمزح لأن الناس مأمورون بالتأسي به والاقتداء بهديه، فلو ترك اللطافة والبشاشة ولزم العبوس لأخذ الناس من أنفسهم بذلك على ما في مخالفة الغريزة من المشقة والعناء فمزح ليمزحوا).

* المزاح لماذا؟

والحقيقة أن في هذا رحمة من الله بهذه الامة، فحياة المسلم لو كانت كلها على سمت واحد لما رأيت أحدا يأنس بأخيه.

لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على بث روح المحبة والإلفة بينهم رضي الله عنهم أجمعين.

فعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق).

* المزاح المنهي عنه:

أما المزاح المنهي عنه فهو ما فيه إفراط يسبب قسوة القلب ويشغل عن ذكر الله والتفكر في مهمات الدين، ويؤدي في كثير من الأحيان إلى الإيذاء والحقد وسقوط المهابة والوقار.

يقول الشيخ بدر الدين الغزي: (وقد ورد في ذم المزح ومدحه أخبار فحملنا ما ورد في ذمه على ما إذا وصل إلى حد المثابرة والإكثار، وعلى هذا يحمل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعده فتخلفه).

* نماذج لمزاحه صلى الله عليه وسلم:

أ/ مزاحه صلى الله عليه وسلم مع أهل بيته؛ زوجاتهونسائه، وفي هذا المبحث بعض ملاطفاته ومزاحه المليء بالتربية، وهذا نتيجة حتمية لما عرف عنه صلى الله عليه وسلم من الخيرية لأهله ولأمته عامة:

فعن عائشة رض الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي).

ومن الخيرية بعد أداء الوجبات؛ الصفح والإلفه وحسن المعاشرة وطلاقة الوجه.

واليك بعضاً من تلك الأخلاق :

1/ روى البخاري ومسلم بسنديهما إلى عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: (يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام، فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته).

قال النووي : (فيه أي هذا الحديث فضيلة ظاهرة لعائشة رض الله عنها، وفيه دليل الجواز والترخيم).

قال الحافظ ابن حجر: (في هذا الحديث منقبة عظيمة لعائشة رضي الله عنها) رغم أنف الطائفة التي تحاول أن تنتقص من قدر عائشة.

ولا شك أن ترخيمه صلى الله عليه وسلم لاسم عائشة من باب المزاح والملاطفة للأهل.

2/ ومن طيب معاشرته صلى الله عليه وسلم لأهله والمبالغة في حسنها وطيبها قوله لعائشة: (كنت لك كأبي زرع لأم زرع).

وهذا جزء من حديث طويل اقتصرنا على محل الشاهد منه أورده البخاري في النكاح (باب حسن المعاشرة مع الأهل ) من حديث عائشة قالت: (جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن أن لا يكتمن من إخبار أزواجهن شيئا) كما ذكر مسلم في الفضائل باب ذكر حديث أم زرع.

قال القرطبي معلقاً على هذا الحديث: (الصحيح أنه كله من قول عائشة رضي الله عنها لا قول النبي صلى الله عليه وسلم لها (كنت لك كأبي زرع لأم زرع).

قال النووي :

1/ (في هذا الحديث من الفوائد مثل حسن عشرة المرء أهله بالتأنيس والمحادثة بالأمور المباحة ما لم يفضي ذلك إلى ما يمنع.

2/ وفيه المزح أحيانا وبسط النفس به ومداعبه الرجل أهله وأعلامه لمحبته لها ما لم يؤد ذلك إلى مفسدة.

3/ وجواز الانبساط بذكر طرف لأخبار ومستطابات النوادر تنشيطاً للنفوس.

4/ ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم لأهله حتي ولو كان ذلك في حالة الشكوى والمرض (مثل ما أورده الإمام أحمد بن حنبل في المسند من طريق محمد بن إسحق بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: (رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعاً في رأسي وأنا أقول: وارأساه، فقال: (بل أنا يا عائشة وارأساه)، ثم قال: (ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك)، قلت: لكأني بك والله لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بدا بوجهه الذي مات فيه.

4/ ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم وملاطفته لأهله ما رواه أبو داوود بسنده إلى هشام ابن عروة عن أبيه وأبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها: (أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك السبقة).

5/ ومن مزاحه مع أهل بيته ما رواه النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع صوت عائشة عالياً فلما دخل تناولها ليلطمها وقال: لا أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يحجزه وخرج أبو بكر مغضباً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج أبو بكر: (كيف رأيتني أنقذتك من الرجل). قال فمكث أبو بكر أياماً ثم استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهما قد اصطلحا فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم(قد فعلنا).

* في مزاحه صلي الله عليه وسلم مع الصغار (الأطفال والصبيان):

وحقيقة من تأمل هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مزاحه ودعابته مع الصبيان يجد أنموذجا فريداً، فهو كونه صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً وقائداً ومعلماً ومربياً لهذه الأمة لم ينس الصبيان علماء المستقبل، فقد كان أرحم الناس بالصبيان والعيال.

ومن ذلك :

1/ عن أنس بن مالك قال: (ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم). وفي رواية: (بالعيال والصبيان).

قال النووي: ( فيه بيان كريم خلقه صلى الله عليه وسلم ورحمته للعيال والضعفاء وفيه فضيلة رحمه العيال والأطفال وتقبيلهم).

2/ ومن ذلك مارواه البخاري ومسلم بسنديهما إلى أبي البتاح قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: (كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟)، والنغير: تصغير النغر وهو طائر أحمر يجمع على نغران.

وهذا الحديث من الأحاديث التي أفردها العلماء بتآليف خاصة دفاعاً عن السنة المطهرة، ومن الكتب التي أفردت لهذا الحديث كتاب (فوائد حديث أبي عمر) لأبي القاص.

وذكر في مقدمه تأليفه أن سبب تأليفه أن بعض الناس عاب على أهل الحديث أنهم يوردون أشياء لا فائدة فيها ومثلوا بحديث أبي عمير هذا.

وقال رحمه الله أنه استخرج منه ستين وجهاً من الفقه من ضمنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء مازحه مما يدل على أنه كان يمازحه كثيراً، وإذا كان ذلك كذلك فهذا معناه:

أ/ أن الممازحة مع الصبيان مباحة.

ب/ وأنها مباحة إباحة سنة لا إباحة رخصة، لأنها لو كانت إباحة رخصة لما كان أكثر منها.

ح/ وفيه ما يدل على حسن الخلق.

د/ وفيه أنه يجوز أن يختلف حال المؤمن في المنزل عن حالة إذا برز فيكون في المنزل مزاحاً وإذا خرج كان أكثر سكينه ووقاراً.

ه/ وفيه أن كان من صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان يواسي بين جلسائه ويظهر ذلك في فعله صلى الله عليه وسلم عندما دخل على أم سليم، صافح أنساً ومازح أبا عمير الصغير، ونام على فراش أم سليم حتى نال الجميع من بركته.

(وهذا هو الحال الذي ينبغي أن يكون عليه الزعيم مع رعيته أو القيادي مع من يقود وحتى المستضيف مع ضيوفه).

3/ ومن ذلك أي ممازحته للصغار ما رواه الزهري عن محمود بن الربيع قال: (عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا بن خمس سنين من دلو) المج إرسال الماء من الفم من علي البعد.

وفي هذا الحديث من هدية صلى الله عليه وسلم ممازحة الأطفال جبراً لخواطر آبائهم وفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا مع محمود قد يكون مداعبة له كما كان ذلك من شأنه مع أولاد الصحابة (جمعاً بين القولين).

4/ وفي بيان حرص الصبيان على التقرب من النبي صلى الله عليه وسلم وملاقاتهم له في الطرقات: (روى ثابت عن أنس رض الله عنه قال: (أتي علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان قال: فسلم علينا فتبعثني إلى حاجة فأبطأت عن أمي، فلما جئت قالت: ما حسبك؟ قلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت : لا تحدث بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، قال أنس: والله لو حدثت به أحداً لحدثتك يا ثابت).

وقد أجمل القرطبي فوائد هذا الحديث بقوله:

1/ فيه دليل على تخلية الصغار ودواعيهم من اللعب والانبساط ولا يضيق عليهم بالمنع مما لا مفسدة فيه.

2/ وفيه دليل علي مشروعية السلام علي الصبيان وفائدته تعليمهم السلام وتمرينهم على فعله وإفشائه .

3/ وكتمان أنس سر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمه دليل على كمال عقله).

6/ ومن أساليبه صلى الله عليه وسلم في المزاح والدعابة للأبناء ترخيم أسمائهم أو تصغيرها: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خُلقاً، فأرسلني يوما لحاجة، قلت: والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم، قال: فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك فقال: (يا أنيس اذهب حيث أمرتك) قال: قلت نعم أذهب يا رسول الله، قال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته: لم فعلت كذا وكذا؟ ولا شيء تركته هلا فعلت كذا وكذا؟ يعني لم يعاتب وكان يصفح.

قال النووي: وفي هذا الحديث بيان كمال خلقه صلى الله عليه وسلم وحسن عشرته وخلقه وصفحه.

وقال القرطبي: (وقول أنس والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب) هذا القول صدر من أنس في حال صغره وعدم كمال تميزه فلم يؤدبه صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل بل داعبه وأخذ بقفاه وهو يضحك رفقاً به واستلطافا له، ثم قال (يا أنيس اذهب حيث أمرتك)، فقال له أنا أذهب وهذا كله مقتضى خلقه الكريم وحلمه العظيم.

  • أهم المصادر والمراجع:

-          النهاية في غريب الحديث والأثر: ابن الأثير.

-          المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم: الإمام القرطبي.

-          صحيح مسلم بشرح النووي: الإمام النووي.

-          فيض القدير: الإمام المناوي.