الحديث العاشر: الطيبُ الحلال شرطُ القبولُ
 

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله r :« إنَّ الله طيبٌّ لا يقبل إلا طيباً، وإنَّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾ [المؤمنون:51]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السَّفرَ أشعث أغبر يمدُّ يديه إلى السماء يا ربُّ يا ربُّ، ومطعمه حرامٌ، ومشربه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغُذي بالحرام، فأنى يُستجابُ له» رواه مسلم.

* أهمية الحديث:

هذا الحديث من الأحاديث التي عليها قواعد الإسلام ومباني الأحكام، وعليه العمدة في تناول الحلال وتجنب الحرام، وما أعم نفعه وأعظمه في إيجاد المجتمع المؤمن الذي يحبُّ فيه الفرد لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره لأخيه ما يكره لنفسه، ويقف عند حدود الشرع مكتفياً بالحلال المبارك الطيب، فيحيا هو وغيره في طمأنينة ورخاء.

* لغة الحديث:

« إن الله طيب»: أي طاهر منزه عن النقائص، والطيب من أسماء الله تعالى الحسنى.

« لا يقبل إلا طيباً»: لا يقبل من الأعمال والأموال إلا ما كان خالصاً من المفسدة، أو حلالاً.

« أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين»: سوَّى بينهم في الخطاب بوجوب أكل الحلال.

« أشعث»: جعد شعر الرأس لعدم تمشيطه.

« أغبر»: غيّر الغبار لون شعره لطول سفره في الطاعات كحج وجهاد.

« يمد يديه إلى السماء » : يرفع يديه إلى السماء داعياً وسائلاً الله تعالى.

« فأنى يُستجاب له »: كيف ومن أين يُستجاب لمن كانت هذه صفته.

* فقه الحديث وما يرشد إليه:

1- الطيب المقبول: إن قول النبي r « إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً» يشمل الأعمال والأموال والأقوال والاعتقادات:

فهو سبحانه وتعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً طاهر اً من المفسدات كلها كالرياء والعجب.

ولا يقبل من الأموال إلا ما كان طيباً حلالاً، فقد حث r على الصدقة من الكسب الحلال الطيب وقال: «ولا يقبل الله إلا طيباً» أي لا يقبل الله من الصدقات إلا ما كان طيباً حلالاً.

ولا يصعد إليه من الكلام إلا ما كان طيباً، قال الله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر:10]، وقسم الله تعالى الكلام إلى طيب وخبيث، فقال سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ﴾ [إبراهيم:24] ﴿وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ [إبراهيم:26].

ولا يفوز عنده عز وجل إلا المؤمنون الطيبون، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ﴾ [النحل:32]، ويسلم الملائكة عليهم عند دخولهم الجنة ويقولون ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزمر:73].

وقال ابن رجب في نهاية هذا المعنى العام لقوله r :« ولا يقبل إلا طيباً»: المؤمن كله طيب قلبه ولسانه وجسده بما يسكن في قلبه من الإيمان، وظهر على لسانه من الذكر، وعلى جوارحه من الأعمال الصالحة التي هي ثمرة الإيمان وداخلة في اسمه.

2- كيف يكون العمل مقبولاً طيباً: إن من أعظم ما يجعل عمل المؤمن طيباً مقبولاً طيبُ مطعمه وحلّه، وفي الحديث دليل على أن العمل لا يقبل إلا بأكل الحلال، وأن الحرام يفسد العمل ويمنع قبوله؛ لأن النبي r قال- بعد تقريره

« إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً» - : « وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾ وقال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾. ومعنى هذا: أن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال وبالعمل الصالح، فما كان الأكل حلالاً فالعمل صالح، فإذا كان الأكل غير حلال فكيف يكون العمل مقبولاً؟.

وقد أخرج الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «تليت عند رسول الله r هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً﴾ [البقرة:168] فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله! ادعُ الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال النبي r: يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل الله منه عملاً أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به». وروى أبو يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا يقبل الله صلاة امرئ في جوفه حرام.

3- انتقاء القبول: قد يفيد نفي القبول في بعض الأحاديث النبي r نفي الصحة، ومثاله حديث « لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ». فالقبول هنا هو ترتب الغرض المطلوب من الصلاة على الطهارة ويراد به سقوط الفرض من الذمة.

وقد يفيد نفي القبول في كثير من الأحاديث نفي الأجر والثواب، ومثاله حديث « لا تقبل صلاة المرأة التي زوجها عليها ساخط، ولا من أتى كاهناً، ولا من شرب خمراً أربعين يوماً». وحديث «لا يقبل إلا طيباً». وحديث «من صلى في ثوب قيمته عشرة دراهم حرام لم تقبل له صلاة» فالمقصود هنا نفي الكمال المستوجب للأجر والثواب في هذه الأعمال، مع أنها مقبولة من حيث سقوط الفرض بها من الذمة، ويميز بين النفيين بحسب الأدلة الخارجية.

4- كيف يخرج المسلم من الحرام: يتخلص المسلم من المال الحرام بعد العجز عن معرفة صاحبه أو العثور عليه بالتصدق به، والأجر لمالكه، روي عن مالك بن دينار قال: سألت عطاء بن أبي رباح عمن عنده مال حرام ولا يعرف أربابه ، ويريد الخروج منه؟ قال: يتصدق به، ولا أقول إن ذلك يجزئ عنه.

والمشهور عن الشافعي رحمه الله تعالى في الأموال الحرام أنها تحفظ ولا يتصدق بها حتى يظهر مستحقها.

وكان الفضيل بن عياض يرى أن من عنده مال حرام لا يعرف أربابه أنه يتلفه و يلقيه في البحر ولا يتصدق به، وقال: لا يتقرب إلى الله إلا بالطيب.قال ابن رجب: والصحيح الصدقة به، لأن إتلاف المال وإضاعته منهي عنه، وإرصاده أبداً تعريض له للإتلاف واستيلاء الظلمة عليه، وإنما هي صدقة عن مالكه، ليكون نفعه له في الآخرة حيث يتعذر عليه الانتفاع به في الدنيا.

5- أسباب إجابة الدعاء:

أ- إطالة السفر: ومجرد السفر يقتضي إجابة الدعاء، فقد روى أبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي r قال: « ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده».

وإذا طال السفر كان أقرب إلى إجابة الدعاء لأنه مظنة انكسار النفس بطول الغربة وتحمل المشاق، والانكسار من أعظم أسباب إجابة الدعاء.

ب- حصول التبذل في اللباس والهيئة: قال r في حديث مشهور «رب أشعث أغبر ذي طمرين، مدفوع بالأبواب؛ لو أقسم على الله أبره». وقد خرج النبي r إلى الاستسقاء متبذلاً متواضعاً متضرعاً.

ج- مد اليدين إلى السماء: وهو من آداب الدعاء، روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي r: «إن الله تعالى حيي كريم، يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين».

وكان النبي r يرفع يديه في الاستسقاء حتى يُرى بياضُ إبطيه، ورفع يديه يوم بدر يستنصر الله على المشركين حتى سقط رداؤه عن منكبيه.

د- الإلحاح على الله عز وجل: وذلك بتكرير ذكر ربوبيته سبحانه وتعالى، وهذا من أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء؛ روى البزار من حديث عائشة رضي الله عنها  عن النبي r «إذا قال العبد: يا رب، أربعاً، قال الله: لبيك عبدي، سل تعطه».

6- ما يمنع إجابة الدعاء: أشار r في هذا الحديث إلى أن التوسع في الحرام أكلاً وشرباً ولبساً وتغذية يمنع إجابة الدعاء؛ وقوله r «فأنَّى يُستجاب له؟» استفهام وقع على وجه التعجب والاستبعاد، وليس صريحاً في استحالة الاستجابة ومنعها بالكلية.

7- الدعاء مخ العبادة؛ لأن الداعي إنما يدعو الله عند انقطاع أمله ممن سواه، وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص، ولا عبادة فوقها.

8- ويرشد الحديث إلى الحث على الإنفاق من الحلال، والنهي عن الإنفاق من غيره.

9- أن من أراد الدعاء لزمه أن يعتني بالحلال في مأكله وملبسه حتى يُقبل دعاؤه.

10- يقبل الله من المؤمنين الإنفاق من الطيب وينميه، ويبارك لهم فيه.

* * *

* أهم المصادر والمراجع:

- الوافي في شرح الأربعين النووية: د. مصطفى البغا / محي الدين مستو.

- الرياض الندية في شرح الأربعين النووية: الإمام ابن دقيق العيد / العثيمين / الإمام النووي.

- الجواهر اللؤلؤية في شرح الأربعين النووية: محمد عبدالله الجرداني.

- شرح الأربعين النووية: الإمام النووي.