الحديث الحادي عشر: الأخذ باليقين والبعد عن الشُّبهات
 

عن أبي محمدٍ الحسن بن عليّ بن أبي طالب، سِبْطِ رسول الله r وريحانته رضي الله عنهما، قال: حفظتُ من رسول الله r: «دع ما يريبك إلى ما لا يربيك». رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

* أهمية الحديث:

هذا الحديث من جوامع الكلم ومن الحكم النبوية البليغة، فهو بكلماته القليلة قعَّد قاعدة عظيمة في ديننا الإسلامي، وهي ترك الشبهات والتزام الحلال المتيقن، ولذا قال ابن حجر الهيتمي في نهاية شرحه له: (هذا الحديث قاعدة عظيمة

من قواعد الدين، وأصل في الورع الذي عليه مدار المتقين، ومنجٍ من ظلم الشكوك والأوهام المانعة من نور اليقين).

* شرح ألفاظ الحديث:

«دع ما يربيك»: دع ما تشك فيه من الشبهات، والأمر للندب.

«إلى ما لا يريبك»: إلى ما لا تشك فيه من الحلال البيّن.

* فقه الحديث وما يرشد إليه:

1- ترك الشبهات: إن ترك الشبهات في العبادة والمعاملات والمناكحات وسائر أبواب الأحكام، والتزام الحلال في كل ذلك، يؤدي بالمسلم إلى الورع، وهو عميم النفع في قطع وساوس الشيطان، كثير الفائدة عظيم الجدوى في الدنيا والآخرة، وقد سبق في الحديث السادس أن من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، وإن الحلال المتيقن لا يحصل للمؤمن في قلبه منه شك أو ريب، بل تطمئن النفس إليه وتجد السعادة في الحصول عليه، أما الشبهات فيرضى بها الإنسان ظاهراً، ولو كَشَفْنَا ما في قلبه لوجدنا القلق والاضطراب والشك، ويكفيه هذا العذاب النفسي خسارة معنوية، والخسارة الكبرى والهلاك الأعظم أن يعتاد الشبهات ثم يجترئ على الحرام؛ لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.

2- أقوال السلف وأفعالهم في ترك الريبة إلى يقين الورع: ولسلفنا الصالح أقوال وأفعال واضحة في التزام الحلال المحض، والبعد عن الشبهات، والتحلي بالورع، فمن أقوالهم:

قول أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: تمام التقوى ترك بعض الحلال خوفاً أن يكون حراماً. وقول أبي عبد الرحمن العمري الزاهد: إذا كان العبد ورعاً، ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه. وقول الفضيل: يزعم الناس أن الورع شديد، وما ورد عليَّ أمران إلا أخذت بأشدهما، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وقول حسان بن أبي سنان: ما شيء أهون من الورع، إذا رابك شيء فدعه.

ومن أفعالهم: أنَّ يزيد بن زريع تنزه عن خمسمائة ألف من ميراث فلم يأخذه، وكان أبوه يلي الأعمال للسلاطين، وكان يزيد يعمل الخوص ويتقوَّت منه إلى أن مات، رحمه الله تعالى. وكان المسور بن مخرمة قد ابتاع طعاماً كثيراً، فرأى سحاباً في الخريف فكرهه، فقال: ألا أراني كرهت ما ينفع المسلمين؟ فآلى أن لا يربح فيه شيئاً، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له عمر: جزاك الله خيراً. وقيل لابن أدهم: ألا تشرب من ماء زمزم؟ فقال: لو كان لي دلو شربت. إشارة إلى أن الدلو من مال السلطان وهو مشتبه.

وقد يقول قائل: إن في هذه الأقوال والأفعال مبالغة وورعاً زائداً، ونقول: إن الأمة في كل عصر بحاجة إلى القدوة الصالحة، والنموذج الإسلامي المتمثل في حاكم أو عالم، لتقف عند حدود الحلال الطيب، وتزهد في الحرام الخبيث، ولو انتفت من حياة الأمة مثل هذه الأقوال والأفعال في التحرج من الشبهات، فإن الناس سيخوضون في الشبه والحرام ويرتعون فيه بجرأة عجيبة؛ لأنهم فقدوا المرشد الحكيم الناصح، وافتقدوا النموذج القدوة.

3- تعارض الشك واليقين: إذا تعارض الشك مع اليقين، أخذنا باليقين وقدمناه وأعرضنا عن الشك، وهذا المعنى ورد في القاعدة الثانية من القواعد الفقهية التي نصت عليها مجلة الأحكام الشرعية، ونصها: ((اليقين لا يزول بالشك))، ومثال ذلك: إنسان توضأ يقيناً ثم شك هل انتقض وضوؤه؛ اعتبر متوضئاً، ومستند ذلك: ما رواه مسلم عن النبي r قال: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أَخْرَجَ أم لا، فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً».

4- التوقف عند الشبهات لمن استقامت أحواله: ونحن عندما ندعو إلى التدقيق في الشبهات والتوقف عنها إنما ندعو من استقامت أحواله كلها، وتشابهت أعماله في التقوى والورع، أما من يخوض في المحرمات الظاهرة، ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبه، فإن ورعه هذا ثقيل ومظلم، ويجب علينا أن ننكر عليه ذلك، وأن نطالبه بالكف عن الحرام الظاهر أولاً؛ ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق: يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين، وسمعت النبي r يقول: «هما ريحانتاي من الدنيا».

وسأل رجل بشر بن الحارث عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها، فقال: إن كان بَرَّ أمه في كل شيء ولم يبقَ من برها إلا طلاق زوجته فليفعل، وإن كان يبرها بطلاق زوجته ثم يقوم بعد ذلك إلى أمه فيضربها فلا يفعل.

واستأذن رجل أحمد بن حنبل أن يكتب من محبرته فقال: اكتب، هذا ورع مظلم. وقال لآخر: لن يبلغ ورعي ولا ورعك هذا. وهذا قاله الإمام أحمد تواضعاً فإنه كان لا يكتب من محابر أصحابه: فكان في حق نفسه يستعمل هذا الورع، وكان ينكره على غيره ممن لم يصل إلى مقام التقوى والورع في جميع أحواله.

5- الصدق طمأنينة والكذب ريبة: وقول النبي r في رواية الترمذي «إن الصدق طمأنينة والكذب ريبة» فيه إشارة إلى تحري القول الصادق الفصل، عندما يحتاج الإنسان إلى جواب سؤال أو فتوى مسألة، وعلامة الصدق أن يطمئن به القلب، وعلامة الكذب أن تحصل به الشكوك فلا يسكن القلب له بل ينفر منه.

6- ويرشدنا الحديث إلى أن نبني أحكامنا وأمور حياتنا على اليقين.

7- الحلال والحق والصدق طمأنينة ورضا، والحرام والباطل والكذب ريبة وقلق ونفور.

* * *

* أهم المصادر والمراجع:

- الوافي في شرح الأربعين النووية: د. مصطفى البغا / محي الدين مستو.

- الرياض الندية في شرح الأربعين النووية: الإمام ابن دقيق العيد / العثيمين / الإمام النووي.

- الجواهر اللؤلؤية في شرح الأربعين النووية: محمد عبدالله الجرداني.

- شرح الأربعين النووية: الإمام النووي.