الحديث الثاني عشر: الاشتغال بما يفيد
 

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: « من حُسْنِ إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».

حديثٌ حسنٌ رواه الترمذي وغيره هكذا.

* أهميته:

يخبرنا أبو هريرة رضي الله عنه، وهو الذي لازم النبي r واكتسب منه الأدب النبوي، بحديث قاله r، بيَّن لنا فيه بجملة مختصرة نافعة ما يجمع خير الدنيا وسعادة الآخرة، فكان بحق، كما قال العلماء: من جوامع كلمهrالتي لم يصح نظيرها عن أحد قبله، لأنه جمع نصف الدين، لأن الدين فعل وترك ، وقد نص على الترك.

وقال بعضهم: بل جمع كل الدين، لأنه نص على الترك ودل على الفعل.

وقال ابن رجب الحنبلي: وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الأدب.

وقال أبو داود: أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث، وذكر منها هذا الحديث.

وانظر ما جاء في أهمية الحديث الذي بعده.

* لغة الحديث:

«من حسن إسلام المرء» : من كمال إسلامه وتمامه، وعلامات صدق إيمانه، والمرء يُراد به الإنسان ، ذكراً كان أم أنثى.

«ما لا يعنيه»: ما لا يهمه من أمر الدين والدنيا من الأفعال أو الأقوال، يقال: عناه الأمر يعنيه، إذا تعلقت عنايته به وكان من غرضه ومقصوده.

* فقه الحديث وما يُرشد إليه:

1-إقامة المجتمع الفاضل: يحرص الإسلام على سلامة المجتمع، وأن يعيش الناس في وئام ووفاق، لا منازعات بينهم ولا خصومات، كما يحرص على سلامة الفرد وأن يعيش في هذه الدنيا سعيداً، يَألف ويُؤلف، يُكرم ولا يُؤذى، ويخرج منها فائزاً رابحاً، وأكثر ما يثير الشقاق بين الناس، ويفسد المجتمع، ويورد الناس المهالك تدخُّل بعضهم في شؤون بعض، وخاصة فيما لا يعنيهم من تلك الشؤون، ولذا كان من دلائل استقامة المسلم وصدق إيمانه تركه التدخل فيما لا يخصه من شؤون غيره.

2- الاشتغال بما لا يعني تضييع، وعنوان ضعف الإيمان: إن الإنسان يعيش في هذه الدنيا والناس حوله كثير، والمشاغل والعلاقات كثيرة ومتعددة ومتنوعة، والمسلم مسؤول عن كل عمل يقوم به، وعن كل ساعة يقضيها، وعن كل كلمة يتكلم بها، فإذا اشتغل الإنسان بكل ما حوله، وتدخل في شؤون لا تعنيه، شغله ذلك عن أداء واجباته، والقيام بمسؤولياته فكان مؤاخذاً في الدنيا ومعاقباً في الآخرة، وكان ذلك دليل ضعف إدراكه، وعدم تمكن الخلق النبوي من نفسه، وأن إسلامه أقرب إلى أن يكون إسلام الشفة واللسان.

روى الترمذي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: تُوفي رجل من الصحابة، فقال رجل: أبشر بالجنة، فقال رسول الله r: «أو لا تدري، فلعله تكلم فيما لا يعنيه، أو بخل بما لا ينقصه».

وروى ابن حبان في صحيحه: أنه r قال لأبي ذر رضي الله عنه: «بحسب امرئ من الشر ما يجهل من نفسه، ويتكلف ما لا يعنيه».

3- الإعراض عما لا يعني طريق السلامة والنجاة: وإذا أدرك المسلم واجبه، وعقل مسؤوليته فإنه يشتغل بنفسه، ويحرص على ما ينفعه في دنياه وآخرته، فيعرض عن الفضول ويبتعد عن سفاسف الأمور، ويلتفت إلى ما يعنيه من الأحوال والشؤون.

وإذا علمنا أن ما يعني الإنسان في هذه الدنيا من الأمور قليل بالنسبة لما لا يعنيه، علمنا أن من اقتصر على ما يعنيه سلم من كثير من الشرور والآثام، وتفرغ للاشتغال بمصالحه الأخروية، وكان ذلك دليلاً على حسن إسلامه، ورسوخ إيمانه، وحقيقة تقواه، ومجانبته لهواه، ونجاته عند ربه جل وعلا.

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله r : « إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها».

وذكر مالك في المؤطأ أنه بلغه: أنه قيل للقمان: ما بلغ بك ما نرى؟. يريدون الفضل، فقال لقمان: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني.

4- القلب المشغول بالله تعالى معرض عما لا يعنيه من شؤون الخَلْق: والمسلم الذي يعبد الله عز وجل كأنه يراه، ويستحضر في نفسه أنه قريب من الله تعالى والله تعالى قريب منه، يشغله ذلك عما لا يعنيه، ويكون عدم اشتغاله بما لا يعنيه دليل صدقه مع الله تعالى وحضوره معه، ومن اشتغل بما لا يعنيه دل ذلك منه على عدم استحضاره القرب من الله تعالى، وعدم صدقه معه، وحبط عمله، وكان من الهالكين.

روي عن الحسن البصري أنه قال: من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه.

5- ما يعني الإنسان من الأمور وما لا يعينه: والذي يعني الإنسان من الأمور هو: ما يتعلق بضرورة حياته في معاشه، من طعام وشراب وملبس ومسكن ونحوها، وما يتعلق بسلامته في معاده وآخرته، وما عدا هذا من الأمور لا يعنيه:

فمما لا يعني الإنسان الأغراض الدنيوية الزائدة عن الضرورات والحاجيات: كالتوسع في الدنيا، والتنوع في المطاعم والمشارب، وطلب المناصب والرياسات، وحب المحمدة والثناء من الناس، فمن دلائل صدق المسلم البعد عن ذلك، ولا سيما إذا كان فيها شيء من المماراة والمجاملة على حساب دينه.

الأفعال المباحة، مما لا يعود على الإنسان منه نفع في دنياه أو آخرته، كاللعب والهزل وما يخل بالمروءة، مما لا يعني، ويحسن بالمسلم تركها، لأنها مضيعة للوقت النفيس في غير ما خلق من أجله، والذي سيحاسب عليه.

الفضول في الكلام مما لا يعني، وقد يجر المسلم إلى الكلام المحرم، ولذلك كان من خُلُق المسلم عدم اللغط والثرثرة والخوض في كل قيل وقال. روى الترمذي عن معاذ رضي الله عنه قال: يا رسول الله، أنؤاخذ بكل ما نتكلم به؟ فقال- أي رسول الله r -: «ثكلتك أمُّك يا معاذ، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم». وروى أيضاً: أن رسول الله r قال: «كلام ابن آدم عليه لا له، إلا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وذكر الله تعالى».

6- ويرشد الحديث إلى: أن من صفات المسلم الاشتغال بمعالي الأمور، والبعد عن السفاسف ومحقرات الشؤون.

7- وفيه: تأديب للنفس وتهذيب لها عن الرذائل والنقائص، وترك ما لا جدوى منه ولا نفع.

* أهم المصادر والمراجع:

- الوافي في شرح الأربعين النووية: د. مصطفى البغا / محي الدين مستو.

- الرياض الندية في شرح الأربعين النووية: الإمام ابن دقيق العيد / العثيمين / الإمام النووي.

- الجواهر اللؤلؤية في شرح الأربعين النووية: محمد عبدالله الجرداني.

- شرح الأربعين النووية: الإمام النووي.