ضرورة الوصل بين الحديث والفقه
 

وإذا كانت السنة مصدراً أساسياً للفقه، كان من الواجب على الفقهاء أن يتعمقوا في علم الحديث، كما على المحدثين أن يتقنوا علم الفقه، وكان من الفجوات العلمية التي يجب أن تسد: الفجوة بين المشتغلين بالفقه، والمشتغلين بالحديث، وهذا ما ناديت به منذ سنين طويلة.

فالغالب على المشتغلين بالفقه أنهم لا يتقنون فنون الحديث، ولا يتعمقون في معرفة علومه، ولا سيما علم الجرح والتعديل، وما يترتب عليه من توثيق الرواة أو تضعيفهم.

ولهذا تنفق عندهم أحاديث لا تثبت عند أئمة هذا الشأن من صيارفة الحديث، ومع هذا يثبتونها في كتبهم، ويحتجون بها لما يقرون من أحكام في الحلال والحرام، والإيجاب والاستحباب.

بل قد يستدلون أحيانا بأحاديث لا خُطُم لها ولا أزمّة، مما يذكر في الكتب ولا يعرف له أصل ولا سند! حتى شاع عند بعض علماء الحديث قولهم: هذا من أحاديث الفقهاء! يعنون: أنه ليس له أصل معروف.

والغالب على المشتغلين بالحديث أنهم لا يجيدون معرفة الفقه وأصوله، والقدرة على استنباط أحكامه، واستخراج كنوزه ودقائقه، والاطلاع على أقوال أئمته، وتعدد منازعهم ومشاربهم وأسباب اختلافهم، وتنور اجتهاداتهم.

هذا مع أن كل فريق- من الفقهاء والمحدثين- في حاجة ماسة إلى علم الآخر، ليكمل به ما عنده، فلا بد للفقيه من الحديث، فإن جل أحكام الفقه ثابتة بالسنة، ولا بد للمحدث من الفقه، حتى يعي ما يحمله، ولا يكون مجرد ناقل، أو يفهمه على غير وجهه.

هذا أمر لاحظه علماؤنا السابقون، ونددوا بمن أهمله، حتى روي عن بعض الأعلام مثل سفيان بن عينية، أنهم قالوا: لو كان الأمر بيدنا لضربنا بالجريد كل محدث لا يشتغل بالفقه، وكل فقه لا يشتغل بالحديث!

ومن الغريب أن كتب الفقه فيها كثير من الأحاديث الضعيفة، مع أن من المتفق عليه: أن الحديث الضعيف لا يُعمل به في الأحكام، على حين قَبِلَه الأكثرون في الفضائل والترغيب والترهيب.

بل يوجد في كتب الفقه الضعيف الشديد الضعف، والموضوع، وما لا أصل له بالمرة.

وهذا ما حفز بعض كبار المحدثين المشتغلين بالفقه، لتأليف كتب في (تخريج الأحاديث) التي يستشهد بها الفقهاء، ويذكرونها في كتبهم (معلقة) أي بدون أسانيد.

كما فعل الإمام ابن الجوزي في كتابه (التحقيق في تخريج التعاليق) وقد هذبه من بعده ابن عبد الهادي في كتابه (تنقيح التحقيق).

كما ألَّف بعض الحفاظ كتباً في تخريج أحاديث كُتب فقهية، لها شهرة وانتشار، مثل كتاب (نصب الراية لأحاديث الهداية) للحافظ جمال الدين الزيلعي (ت 762هـ) وقد طُبع مراراً في أربعة مجلدات، كما اختصره الحافظ ابن حجر في كتابه (الدراية في تخريج أحاديث الهداية) بعد أن أضاف إليه بعض الفوائد العلمية، ونشر جزء واحد. وكتاب (الهداية) من أمهات الكتب في الفقه الحنفي.

ومثل ذلك كتاب ابن حجر في تخريج أحاديث (فتح العزيز في شرح الوجيز) وهو الشرح الكبير للرافعي على الوجيز للغزالي، فقد خرجه جماعة منهم ابن حجر في كتابه الشهير (تلخيص الحبير). وشرح الرافعي من أمهات الكتب في الفقه الشافعي.

وقد استدل بعض الفقهاء بأحاديث ثبت لمن بعدهم ضعفها، فهم معذورون في الاستدال بها، ولكن الذين انكشف لهم ضعفها لا عذر لهم في استمرار الاحتجاج بها. وينبغي أن يترك الحكم المبني عليها، ما لم تكن هناك أدلة أخرى للحكم المذكور، من نصوص الشرع أو قواعده العامة ومقاصده الكلية.

ومن قرأ كتب (تخريج الحديث)- التي أشرنا إليها- للكتب الفقهية المشهورة في المذاهب المتبوعة يتبين له ذلك بجلاء، كما يظهر ذلك في مثل (نصب الراية لأحاديث الهداية) للزيلعي، و(تلخيص الحبير في تخريج أحاديث شرح الرافعي الكبير) لابن حجر، و(إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل) للألباني، و(منار السبيل) من كتب الفقه الحنبلي، و(الهداية في تخريج أحاديث البداية)- والمراد بالبداية: بداية المجتهد لابن رشد- لأحمد بن الصديق الغماري.

ولقد لاحظت- وأنا أبحث في (فقه الزكاة)- عدداً من الأحاديث يستدل بها علماء الفقه داخل المذاهب المتبوعة، وهي مجروحة عند أئمة الحديث، مثل:

«ليس في الخضروات صدقة».

«لا يجتمع عشر وخراج».

«ليس في المال حق سوى الزكاة».

والحديث الأخير اشتهر عند الفقهاء، وذكره بعض كبارهم، مثل الماوردي، في(الأحكام السلطانية) والشيرازي، في(المهذب) وابن قدامة، في(المغني).

وقد قال عنه النووي في (المجموع): حديث ضعيف جداً لا يعرف.

وقبله قال البيهقي في (السنن): يرويه أصحابنا في التعاليق، وليست أحفظ فيه إسناداً.

وأصل الحديث عند الترمذي وابن ماجه والطبري في تفسيره: «في المال حق سوى الزكاة»، ثم وقع خطأ قديم في بعض نسخ ابن ماجه، وزيد في أول الحديث كلمة «ليس» وشاع الخطأ واستمر، كما أشار إلى ذلك الحافظ أبو زرعة بن الحافظ زين الدين العراقي في (طرح التثريب في شرح التقريب،جـ4 ص18) وبيّنه العلامة أحمد شاكر في تخريجه لتفسير الطبري (الأثر: 2527) وأقام عليه من الأدلة ما يشفي الغليل.

وفي كثير من كتب الفقه وأبوابه أحاديث من هذا النوع، الذي لا يعرف له سند عند الحفاظ، وهو الذي يقول عنه الحافظ الزيلعي في (نصب الراية): غريب. وهو اصطلاح خاص به، يفيد أنه لم يجد له سنداً. ويقول عنه الحافظ ابن حجر في (الدراية): لم أجده. أو: لم أره مرفوعاً، ونحو ذلك من الألفاظ.

ويكثر هذا في بعض الأبواب إلى حد يلفت النظر.

كنت أطالع أحاديث كتاب (الذبائح) في (الدراية) فوجدت فيه أكثر من عشرين حديثاً، بعضها صحيح، وبعضها ضعيف، وبعضها لم يعرفه الحافظ أو لم يجده!

ومن ذلك حديث: «سنّوا بهم (أي المجوس) سنّة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم»، قال: لم أجده بهذا اللفظ. يريد: بزيادة (غير ناكحي نسائهم. إلخ).

وحديث: «المسلم يذبح على اسم الله، سمى أو لم يسم»، قال: لم أجده بهذا اللفظ.

وحديث ابن مسعود: «جردوا التسمية»، قال: لم أجده.

وحديث:«الذكاة ما بين اللبة واللحيين»، قال: لم أجده.

وحديث:«افر الأوداج بما شئت»، قال: لم أجده.

وحديث:«أن النبي r نهى أن تنخع الشاة إذا ذبحت». قال المصنف: أي تبلغ بالسكين النخاع، قال الحافظ: لم أجده.

وحديث:«أنه نهى عائشة عن الضبّ حين سألته عن أكله»، قال لم أجده.

وحديث:«أنه نهى عن بيع السرطان»، قال: لم أجده.

إلى أحاديث أخرى.

وليس هذا مقصوراً على كتب (أهل الرأي) كما يسمونهم، بل يشمل كتب سائر المذاهب، فيوجد فيها الضعيف وما لا أصل له أيضاً، وإن كانت النسبة قد تختلف بين مذهب ومذهب.

والناظر في (تلخيص الحبير) للحافظ ابن حجر، الذي خرّج فيه أحاديث شرح الرافعي لوجيز الغزالي- وهما من أئمة الشافعية- يجد مصداق ذلك بوضوح، فقد ضعَّف كثيراً من الأحاديث المحتج بها في الكتاب، وإن كان هو شافعياً أيضا، ولكن الحق أحق أن يتبع.

وقد كتب في ذلك الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت:458) إلى الإمام أبي محمد عبد الله بن يوسف الجويني- ولد إمام الحرمين- (ت:438هـ) ينتقده بأدب في بعض أوهام حديثية وقعت له في كنابه (المحيط) ومن ذلك: أول حديث فيه، وهو النهي عن الاغتسال بالماء المشمّس، وهو حديث لا يصح.

ومن إنصاف البيهقي: أنه أنكر على المحدثين من أصحابه الشافعية تساهلهم في ترك التمييز بين ما يصح الاحتجاج به من الأخبار وما لا يصح، وفي الرواية عن الضعفاء والمجهولين.. إلى آخر ما قال في رسالته الرصينة الركينة.

وأغرب من ذلك: أن كتب (أصول الفقه) نفسها لا تخلو من الأحاديث الواهية والموضوعة والتي لا أصل لها، مثل حديث «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتدتهم اهتديتم» فهو ضعيف جداً، بل حكم الشيخ الألباني بأنه موضوع.

«ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن»، فهو من كلام ابن مسعود، وليس حديثاً مرفوعاً. «اختلاف أمتي رحمة»، وغيرها مما يجده من يقرأ كتب الأصول المعروفة للدارسين.

  • أهم المصادر والمراجع:

-          كيف نتعامل مع السنة الشريفة: د. يوسف القرضاوي.

-          معرفة السنن والآثار: الإمام البيهقي.