لا تغضب ولك الجنة
 

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: «لا تغضب» فردَّدَ مراراً، قال: «لا تغضب» رواه البخاري.

أهميته:

قال الجرداني: إن هذا الحديث حديث عظيم، وهو من جوامع الكلم، لأنه جمع بين خيري الدنيا والآخرة.

وانظر إلى ما جاء في أهمية الحديث الثالث عشر.

لغة الحديث:

«رجلاً»: قيل: هو أبو الدرداء رضي الله عنه، فقد أخرج الطبراني عنه: قلت: يا رسول الله، دلني على عمل يدخلني الجنة؟ . قال: «لا تغضب ولك الجنة». وقيل: هو جارية بن قدامة رضي الله عنه، فقد أخرج أحمد عنه أنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله، قل لي قولاً وأقللْ عليَّ لعلي أعقله؟ قال: «لا تغضب». فأعدتُ عليه مراراً، كل ذلك يقول: «لا تغضب». ولا مانع من تكرار الحادثة وتعدد السائل.

«أوصني»: دلني على عمل ينفعني.

«لا تغضب»: اجتنب أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه، أو: لا تعمل بمقتضى الغضب، والغضب ثوران في النفس يحملها على الرغبة في البطش والانتقام.

«فردد مراراً»: كرر طلبه للوصية أكثر من مرة.

فقه الحديث وما يرشد إليه:

1- خلق المسلم: المسلم إنسان يتصف بمكارم الأخلاق، يتجمل بالحلم والحياء، ويلبس ثوب التواضع والتودد إلى الناس، وتظهر عليه ملامح الرجولة، من الاحتمال وكف الأذى عن الناس، والعفو عند المقدرة، والصبر على الشدائد، وكظم الغيظ إذا اعتدي عليه أو أثير، وطلاقة الوجه والبشر في كل حال من الأحوال.

وهذا ما وجه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الصحابي المستنصح، عندما طلب منه أن يوصيه بما يبلغه المقصود ويحقق له المطلوب. بتلك العبارة الموجزة الجامعة لكل خير، المانعة لكل شر: «لا تغضب».

2- الشوق إلى الجنة والبحث عن طريقها: هذه وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوجهها إلى هذا السائل، الذي أراد أن يسلك طريق الجنة، وطلب من معلمه ومرشده وقائده إلى الفردوس الأعلى ورضوان الله عز وجل، أن يوصيه ويختصر له في الوصية حتى يحفظها، ويفهم النصيحة ويدرك التوجيه، فيجيبه إلى طلبه ويبلغه غايته بتلك الوصية الخالدة: «لا تغضب». أي تخلق بالأخلاق الرفيعة، أخلاق النبوة، أخلاق القرآن، أخلاق الإيمان، فإنك إذا تخلقت بها وصارت لك عادة، وأصبحت فيك طبعاً وسجية، اندفع عنك الغضب حين وجود أسبابه، وعرفت طريقك إلى مرضاة الله عز وجل وجنته.

3- الحلم وضبط النفس سبيل الفوز والرضوان: إذا غلب الطبع البشري، وثارت فيك قوى الشر، أيها المسلم الباحث عن النجاة، فإياك أن تعطي نفسك هواها، وتدع الغضب يتمكن منك فيكون الآمر والناهي لك، فترتكب ما نهاك الله عنه، بل جاهد نفسك على ترك مقتضى الغضب، وتذكر خلق المسلم التقي والمؤمن النقي، الذي وصفك الله تعالى به بقوله: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ133/الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 133- 134]. وعندها تصون نفسك من غضب الله عز وجل بعد أن كبحت جماحها فتصنف في زمرة المتقين، وتكون من أهل الجنة الخالدين.

روى الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا يباعدني من غضب الله عز وجل؟ قال: «لا تغضب».

وقال الحسن البصري: أربع من كن فيه، عصمه الله من الشيطان وحرمه على النار: من ملك نفسه عند الرغبة، والرهبة، والشهوة، والغضب.

4- الغضب جماع الشر والتحرر منه جماع الخير: نلمس في الحديث: أن ذاك السائل المؤمن، حين قال له صلى الله عليه وسلم «لا تغضب» يدرك منه تلك النصيحة ويقبلها، ولكنه يعود فيكرر طلبه للوصية والنصح، وكأنه لم يقنع بها وظنها قليلة، وهو يحتاج إلى المزيد مما هو أبلغ منها وأنفع، حتى يدرك غايته من دخول الجنة. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزده عليها، وإنما كررها له ثانياً وثالثاً وربما أكبر، كلما قال: أوصني، قال له «لا تغضب» مؤكداً أنها وصية كافية ونصيحة بالغة، إذا فهم فحواها وعمل بمقتضاها.

هناك يتنبه هذا المؤمن العاقل لتأكيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدرك غايته ويعرف قصده، فقد ورد – في رواية عن الإمام أحمد- عن السائل أنه قال: ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله. ومعنى ذلك: أنه إذا لم يغضب فقد ترك الشر كله، ومن ترك الشر كله فقد حصل الخير كله. فصلوات الله وسلامه عليك يا رسول الله، وجزاك الله تعالى عن الأمة خير ما يجزي به نبي مرسل، فقد وجهت إلى حسن الخلق، وحذرت من مفتاح كل شر.

روي أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: «حسن الخلق، هو أن لا تغضب إن استطعت».

5- الغضب ضعف والحلم قوة: سرعة الغضب والانقياد له عنوان ضعف الإنسان، ولو ملك السواعد القوية والجسم الصحيح. روى البخاري ومسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب». والصرعة هو الذي يغلب الرجال ولا يغلبه الرجال.

6- آثار الغضب المقيتة: الغضب خلق مذموم وطبع سيء وسلاح فتاك، إذا استسلم له الإنسان وقع صريع آثاره السيئة، التي تضر بالفرد نفسه أولاً، وبالمجتمع ثانياً.

أ- أما أضراره بالنفس، فهي: جسمية مادية، وخلقية معنوية، وروحية دينية، وتستطيع أن تدرك ذلك عندما تتصور الغضوب وقد تغير لونه وطفح دمه وانتفخت أوداجه وارتعدت أطرافه واضطربت حركته وتلجلج كلامه وانطلق لسانه بالفاحش من القول، يسب ويشتم، وربما قال الكلام المحرم الذي يخرج عن الإسلام أحياناً، كالتلفظ بالكفر والتعرض للدين ونحو ذلك. أضف إلى كل ما تقدم، وما يقوم به من تصرفات طائشة يهدر بها ماله أو يؤذي بها جسمه.

ب- وأما أضراره بالمجتمع: فهو يولِّد الحقد في القلوب، وإضمار السوء للناس، وهذا ربما أدى على إيذاء المسلمين وهجرهم، ومزيد الشماتة بهم عند المصيبة، وهكذا تثور العداوة والبغضاء بين الأصدقاء، وتنقطع الصلة بين الأقرباء، فتفسد الحياة وتنهار المجتمعات.

7- دفع الغضب ومعالجته: الغضب من طبع الإنسان وجبلته، ولكن المسلم المرتبط بالملكوت الأعلى يصون نفسه منه، ويدفع شره عنه، بالبعد عن أسبابه حتى لا يحصل، ومعالجته إذا حصل:

أ- أسباب الغضب: هي كثيرة ومتنوعة، منها: الكبر والتعالي والتفاخر على الناس، والهزء والسخرية بالآخرين، وكثرة المزاح ولا سيما في غير حق، والجدل والتدخل فيما لا يعني، والحرص على فضول المال أو الجاه. والمسلم مندوب إلى أن يتخلص من هذه الأخلاق الذميمة، ويتسامى عنها، ويهذب نفسه على خلافها.

ب- وأما معالجة الغضب، فيكون بأمور كثيرة أرشدنا إليها الإسلام، منها:

* أن يروض نفسه ويدربها على التحلي بمكارم الأخلاق، كالحلم والصبر والتثبت في الأمور، والتأني في التصرف والحكم. وقدوتنا في هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو يأتيه زيد بن سعنة قبل إسلامه، يختبر فيه صفة النبوة، وأنه يسبق حلمه غضبه، ولا تزيده شدة جهل الجاهل إلا حلماً، فيطالبه بدين له عليه لم يبلغ أجله بعد، بكل فظاظة وغلظة، فيقابله صلى الله عليه وسلم بكل رحابة صدر، وابتسامة ثغر، وينتهر عمر رضي الله عنه الرجل، فيقول له صلى الله عليه وسلم معلماً ومؤدباً له وللرجل: «أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا يا عمر، تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي».

وأمر بأداء الدين إليه، وأن يزاد على حقه، مقابل الذعر الذي أصابه من قبل عمر رضي الله عنه، فكان ذلك سبب إسلامه رضي الله عنه، ونجاته من غضب الله عز وجل وناره. روى ذلك ابن حبان والحاكم والطبراني.

* أن يثبت نفسه ويضبطها إذا أغضب، ويتذكر عاقبة الغضب، وفضل كظم الغيظ والعفو عن المسيء: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 134].

روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كظم غيظاً، وهو يستطيع أن ينفذه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، حتى يخيره في أي الحور شاء».

وروى أحمد أيضاً: «ما كظم عبدٌ لله إلا مُلِئَ جوفُه إيماناً» وعند أبي داود: «ملأه الله أمناً وإيماناً».

* الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: 199].

روى البخاري ومسلم: استبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأحدهما يسبُّ صاحبَه مُغضباً قد احمرَّ وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم كلمةً، لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».

* تغيير الحالة التي هو عليها حال الغضب، فقد روى أحمد وأبو داود: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلسْ، فإن ذهب عنه الغضب، وإلا فليضطجعْ». وذلك لأن القائم متهيء للانتقام وأقرب إليه، والجالس والمضطجع أبعد عنه.

* ترك الكلام، لأنه ربما تكلم بكلام قوبل عليه بما يزيد من غضبه، أو تكلم بكلام يندم عليه بعد زوال غضبه، لأنه ما كان يحب أن يصدر منه. روى أحمد والترمذي وأبو داود: «إذا غضب أحدكم فليسكتْ». قالها ثلاثاً.

* الوضوء، وذلك أن الغضب يُثير حرارة في الجسم، فيميع الدم ويفور ويحدث سورة الجسم، والماء يبرده فيعود على طبعه، روى أحمد والترمذي: أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبة له: «ألا إنَّ الغضب جمرةٌ تتوقَّدُ في قلب ابن آدم».

هذا مع ملاحظة أن الوضوء عبادة فيها ذكر الله عز وجل، يخنس عندها الشيطان الذي يُذْكي نار الغضب في الإنسان، روى أحمد وأبو داود: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الغضبَ من الشيطان، وإنَّ الشيطانَ خُلق من النار، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ».

8- الغضب لله تعالى: الغضب المذموم، الذي يُطلب من المسلم أن يعالجه ويبتعد عن أسبابه، هو ما كان انتقاماً للنفس، ولغير الله تعالى ونصرة دينه. أما ما كان لله تعالى: بسبب التعدي على حرمات الدين، من تحد لعقيدة، أو تهجم على خُلُق أو انتقاص لعبادة، أو كان بسبب النيل من نفس مسلم أو عرضه أو ماله، فهو في هذه الحالة خلق محمود، وسلوك مطلوب. قال الله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ14/وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ [التوبة: 14- 15].

وفي الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم كان أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه. رواه البخاري.

والعذراء: البكر التي لم يسبق لها زواج. خدرها: سترها، وكانوا يجعلون للبكر ستراً في ناحية البيت تجلس وراءه حياء من لقاء الناس.

وورد: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يغضب لشيء، فإذا انتُهكتْ حرمات الله عز وجل، فحينئذ لا يقوم لغضبه شيء. رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

9- الغضبان مسؤول عن تصرفاته: إذا أتلف الإنسان حال غضبه شيئاً ذا قيمة لأحد، فإنه يضمن هذا المال ويغرم قيمته، وإذا قتل نفساً عمداً وعدواناً استحق القصاص، وإن تلفظ بالكفر حكم بردته عن الإسلام حتى يتوب. وإن حلف على شيء انعقد يمينه، وإن طلق وقع طلاقه.

10- وأفاد الحديث: حرص المسلم على النصيحة وتعرف وجوه الخير، والاستزادة من العلم النافع والموعظة الحسنة.

كما أفاد: الحث على الإقلال من القول، والإكثار من العمل، والتربية بالقدوة الحسنة.

***