بعد أن حاول أعداء السنة التشكيك في عدالة الصحابة ، كخطوة أولى لتمهيد
السبيل ، وفتح الباب للطعن والتشكيك في أفرادهم وآحادهم - طالما أن عدالتهم
وديانتهم قد سقطت - ، جاءوا إلى بعض الصحابة الذين عرفوا بكثرة الحديث والرواية عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجهوا سهام النقد إليهم ، ورموهم بكل نقيصة ، سعياً
منهم إلى نزع الثقة فيهم ، وبالتالي إهدار جميع مروياتهم ، وعدم اعتبار أي قيمة
لكتب السنة التي أخرجت هذه الأحاديث ، وأجمعت الأمة على تلقيها بالقبول ، وهذا هو
ما يريدون التوصل إليه .
ولا يوجد أحد من الصحابة تعرض لحملات جائرة مسعورة ، بمثل ما تعرض له
الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه ، وهي حملات ليست جديدة في الحقيقة ، فقد
أطلق بعض أهل الأهواء ألسنتهم فيه منذ القدم لتسويغ بدعتهم وانحرافهم ، فنقل
الإمام ابن قتيبة في كتابه " تأويل مختلف الحديث " ، الكثير مما رمي به
أبو هريرة في القديم من قبل النظَّام و الإسكافي وأمثالهما من أهل البدع والأهواء
الذين لهم مواقف معروفه من أكثر الصحابة ، حتى جاء بعض المستشرقين من أمثال "
جولد زيهر " ، فوقعوا على أقوال المتحاملين فأخذوا وزادوا ، وأبدؤوا وأعادوا
، ثم طلعوا علينا بآراء مبتسرة وأحكام جائرة ، تلقفها بعض أبناء جلدتنا فأعادوا
صياغتها وتعليبها ، وقدَّموها للناس على أنها حقائق علمية ، ونتائج موضوعية لم
يسبق التوصل إليها .
فأما " أحمد أمين " فقد وزع طعونه على أبي هريرة في مواضع متفرقة
من " فجر الإسلام " ، وكان حديثه عنه حديث المحترس المتلطَّف المحاذر من
أن يجهر في حقه بما يعتقده من سوء ، ولكن أسلوبه ، وتحريفه لبعض الحقائق في تاريخ
أبي هريرة ، وحرصه على التشكيك في صدقه ، وادعاء شك الصحابة فيه ، والتركيز على
عرض الأمور التي يسيء ظاهرها لأبي هريرة ، وإغفال الجوانب الأخرى التي تبين مكانته
بين الصحابة والتابعين ، وأئمة الحديث ، وثناءهم عليه ، وإقرارهم له بالصدق والحفظ
والإتقان ، مما هو ألصق وأشد تعلقاً بموضوع البحث أكثر من أي شيء آخر ، كل ذلك
أبان قصده ، وكشف الستار عن مراده .
وأما " أ بو رية " - عامله الله بما يستحق - فقد كان أفحش ،
وأسوأ أدباً من كل من تكلم في حق أبي هريرة من المعتزلة والرافضة ، والمستشرقين
قديماً وحديثاً ، مما يدل على سوء نية وخبث طوية ، حيث عرض لترجمته في كتابه
" أضواء على السنة المحمدية " ، فيما يربو على خمسين صفحة لم يدع منقصة
، ولا مذمة إلا ألصقها به ، وألف كتاباً مستقلاً ضمنه كل إفك وبهتان ، وملأه بكل
جارح من القول ، وتهجم فيه على أبي هريرة وغيره من الصحابة ، ورماهم بالكذب
والاختلاق ، وسمى كتابه " شيخ المضيرة أبو هريرة " ، وهو عنوان يقطر
حقداً وسخرية وتنقصاً لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا الكتاب يرجع
إليه ويعتمد عليه كل من لا خلاق له ممن يطعن في الصحابة ويسبهم ، وتدور مطاعنه ،
في احتقاره ، وازدراء شخصيته ، واتهامه بعدم الإخلاص في إسلامه ، وعدم الصدق في
حديثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحبه لبطنه وللمال ، وتشيعه لبني أمية
إلى غير ذلك من الإفك والبهتان .
وسنعرض لشيء من هذه المطاعن على جهة الإشارة ، لا على جهة الحصر
والاستقصاء ، والوقوف عند التفصيلات والأمثلة ، فذلك أمر يطول ، وقد كفانا مؤنة
ذلك الأئمة والعلماء الذين قيضهم الله عز وجل للدفاع عن هذا الصحابي الجليل ،
فردوا كل ما قيل في حقة من مطاعن وافتراءات ، وكشفوا نوايا هؤلاء المغرضين ،
وبينوا الحق من الباطل ، وميزوا الطيب من الخبيث ، في بحوث ودراسات علمية معروفة
ومتداولة ، قائمة على النزاهة في البحث ، بعيدة كل البعد عن الهوى والعصبية ، ويمكن
لكل طالب حق أن يرجع إليها ، ليعرف شهادة التاريخ الصادق ، ورأي صحابة رسول الله ،
وعلماء التابعين ، وأئمة المسلمين ، في هذا الصحابي الجليل ، ويقارن بعد ذلك بين
هذه الصورة المشرقة ، وبين الصورة التي أراد هؤلاء أن يظهروه بها .
فقد غضوا من شأنه ، وطعنوا في أصله ونسبه ، مدعين أنه لم يكن معروفاً في
أوساط الصحابة ، وأنه كان غامض الحسب ، مغمور النسب ، ولم يعرف إلا بكنيته ،
بدلالة أن الناس اختلفوا في اسمه واسم أبيه اختلافاً كثيراً ، مع أن الخلاف لا
يتجاوز عند التحقيق ثلاثة أقوال كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله ، ونحن نجد
عشرات الصحابة اختلف في أسمائهم إلى أكثر من ذلك ، وكثير منهم إنما اشتهروا بكناهم
لا بأسمائهم ، فلماذا هذا التشويش بالذات على أبي هريرة رضي الله عنه ، ومتى كان
الاختلاف في اسم الرجل يشينه أو يسقط من عدالته ؟؟.
وزعموا أنه كان مغموراً ، لم يذكر في طبقات الصحابة ، وليست له أي فضيلة
أو منقبة ، مع أن المعروف من ترجمته أنه كان ممن هاجر بين الحديبية والفتح في
العام السابع من الهجرة ، وأنه صاحَب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولازمه
ما يربو على ثلاث سنين ، ويكفيه ذلك فضلاً وشرفاً، وقد دعا النبي - صلى الله عليه
وسلم - له ولأمه أن يحببهما إلى عباده المؤمنين كما في الصحيح ، وكان عريف أهل
الصفة ، وهم أضياف الإسلام ، وأحباب النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد ذكره الإمام
مسلم فيمن لهم فضائل من الصحابة ، وعقد له الإمام النووي باباً في شرحه على مسلم ،
وذكر الحاكم في مستدركه جملة صالحة من مناقبه استغرقت بضع صفحات ، وأما البخاري
فهو وإن لم يعقد له ترجمة خاصة ، لكنه ذكر فضائله ضمن أبواب كتابه ، ومنها كتاب
العلم .
وطعنوا في صدقه وديانته ، وأنه إنما أسلم حباً في الدنيا لا رغبة في الدين
، وهي دعوى يكذبها كل من يطالع سيرته وترجمته ، وما كان عليه رضي الله عنه ، من
التقشف والانقطاع إلى العلم والعبادة ، وتبليغ أحاديثه - صلى الله عليه وسلم - .
ثم بحثوا عن كل عيب يمكن إلصاقه به ، حتى ولو كان من الأمور التي لا يعاب
المسلم بها ، ولا تعلق لها بالحديث والرواية .
فعيروه بفقره وجوعه ، ومتى كان الفقر عيباً يعير به الإنسان إلا في منطق
المتعالين المتكبرين ؟!
وعيروه بأميته ، وهل كانت أمية الصحابي سبباً للطعن فيه في أي عصر من عصور
الإسلام ؟!حتى تذكر من جملة المطاعن ، ونحن نعلم أن الكتبة من الصحابة قليل لا
يتجاوزون أصابع اليد الواحدة .
وجعلوا من لطافة أخلاقه ، وطيب معشره مدخلاً للنيل منه ، فوصفوه بأنه كان
مزاحاً مهذاراً ، مع أنه خلق أكرمه الله به ، وحببه به إلى الناس ، ومتى كان
المزاح المباح ، والتلطف إلى الناس والتودد إليهم خلقاً معيباً عند كرام الناس ،
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقاً ، ومع ذلك كان يمازح
أصحابه ولا يقول إلا حقاً ، وكذلك كان الصحابة رضي الله عنهم ، فما هو الحرج في
المزاح إذا كان مباحاً لا إسفاف فيه ، ولا إيذاء لأحد ، وفيه من المعاريض التي
تدعو إلى إعمال الفكر والنظر ، وكل الذي ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه ، إنما هو
من هذا القبيل ، وأما المزاح الساقط ، المشتمل على المجازفة ورديء القول والفعل ،
فحاشا وكلا أن يكون أبو هريرة مما عرف به .
ثم لماذا يركز على هذا الجانب فقط من ترجمة أبي هريرة ، وتغفل الجوانب
الأخرى التي عرف واشتهر بها بين الناس ورواها كل من ترجم له ، أين هي أخبار عبادته
وصيامه وقيامه ، وتسبيحه وأوراده ؟!، أين هي أخبار كرمه وجوده ، وزهده وتقشفه
وإعراضه عن الدنيا ؟! ، لماذا لا تذكر هذه الأمور عند التعرض له ، لا شك أن وراء
الأكمة ما وراءها .
ورموه أيضاً بعدم الفقه وقلة الفهم ، وهو محض افتراء على التاريخ ، والواقع
أنه كان من فقهاء الصحابة ، ومن كبار أئمة الفتوى ، كما يذكر ذلك أهل التراجم
والطبقات فقد ذكره ابن سعد أنه ممن كانوا يفتون بالمدينة منذ مقتل عثمان إلى أن
توفي رحمه الله ، وهذا يعني أنه مكث يفتي الناس على ملأ من الصحابة والتابعين
ثلاثة وعشرين عاماً ، وكان يعارض أجلاء الصحابة كابن عباس في بعض المسائل ، وعده
ابن حزم في فقهاء الصحابة ، وكذا الحافظ بن حجر في الإصابة ، وجمع تقي الدين
السبكي جزءاً في فتاوى أبي هريرة ، وقال الإمام الذهبي في " تذكرة الحفاظ
" : أبو هريرة الدوسي اليماني ، الحافظ الفقيه ، صاحب رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - كان من أوعية العلم ، ومن كبار أئمة الفتوى ، مع الجلالة والعبادة
والتواضع " أهـ ، وعندما ذكر ابن القيم في " إعلام الموقعين "
المفتين من الصحابة ، وأنهم كانوا بين مكثر ومقل ومتوسط ، ذكر أبا هريرة من
المتوسطين مع أبي بكر الصديق ، و أبي موسى الأشعري ، و معاذ بن جبل ، و جابر بن
عبد الله ، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، فمن زعم بعد ذلك أن أبا
هريرة غير فقيه فهو العاري عن الفقه .
وقالوا : إنه لم يكن يكتب الحديث ، بل كان يحدث من ذاكرته ، مع أن ذلك شيء
لم ينفرد به أبو هريرة رضي الله عنه ، بل هو صنيع كل من روى الحديث من صحابة رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - عدا عبد الله بن عمرو بن العاص فقد كانت له صحيفة
يكتب فيها .
وادعوا كذلك أنه ، لم يكن يقتصر في تحديثه على ما سمعه من رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - مباشرة ، بل كان يحدث عنه ، بما أخبره به غيره ، واعتبروا ذلك
منه تدليساً ، مع أن المعروف عند أهل العلم أن رواية الصحابي عن الصحابي وإسناده
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تسمى تدليساً ، بل تسمى إرسالاً ، وقد أجمع
أهل العلم على الاحتجاج بمرسل الصحابي وقبوله ، وأن حكمه حكم المرفوع ، لأن
الصحابي لا يروي إلا عن صحابي مثله ، والصحابة كلهم عدول ، فكون أبي هريرة يرسل
بعض الأحاديث التي سمعها من غيره من الصحابة هذا أمر لا يعيبه ولا ينقص من قدره ،
ولا يختص به وحده ، فقد كان ذلك شأن كثير من الصحابة الذين لم يحضروا بعض مجالسه -
صلى الله عليه وسلم - إما لاشتغالهم ببعض أمور المعاش ، وإما لحداثة أسنانهم كابن
عباس وغيره ، وإما لتأخر إسلامهم ، ويؤيد ذلك قول أنس بن مالك رضي الله عنه :
" ما كل ما نحدثكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعناه ولكن لم يكذب
بعضنا بعضاً " ، كما أن الأحاديث التي أرسلها هي شيء يسير مقارنة بما سمعه
مباشرة بدون واسطة ، وقد تتبع الحافظ العراقي ما رواه عن غيره فجمع عشرين حديثاً
فيها ما لا يصح .
وانتقدوا أيضاً كثرة أحاديثه - التي بلغت كما جاء في مسند بقي بن مخلد
5374- ، مع تأخر إسلامه حيث إنه لم يصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ثلاث
سنين ، مدعين أن بعض الصحابة قد انتقدوه على إكثاره ، وشكوا فيه .
وكل باحث متجرد يجزم بأن سبب هذه الكثرة إنما هي طول ملازمته للرسول - صلى
الله عليه وسلم - في جميع أحواله ، خلال هذه الفترة ، مع ما حباه الله من قوة
الحفظ والذاكرة ، ببركة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، أضف إلى ذلك تفرغه
التام من الشواغل والصوارف ، فقد كان من فقراء الصحابة ومن أهل الصفة ، ليس له أهل
ولا ولد ولا مال ، وكان يلازم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما يقيم به صلبه ،
ولا شك أن المتفرغ للشيء ، المهتم به ، المتتبع له ، يجتمع له من أخباره ، والعلم
به في زمن يسير ، ما لا يجتمع لمن لم يكن كذلك .
وبعد أن تفرق الصحابة في الأمصار على عهد الخلفاء الراشدين ، رأى أن من
الواجب عليه ، أن يبلغ ما حفظه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أمته ، وخاف
عاقبة الكتمان إن هو امتنع عن التحديث ، فتفرغ للعلم والرواية والتحديث ، وكان من
الطبيعي أن يثير إكثار أبي هريرة من الحديث استغراب بعض التابعين ، ولكن ما أن
يبين لهم سبب ذلك ، حتى يزول هذا الاستغراب والدهشة ، فقد جاء في الصحيحين عن سعيد
بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : يقولون : إن أبا هريرة قد أكثر ، والله
الموعد ، ويقولون ما بال المهاجرين والأنصار لا يتحدثون مثل أحاديثه ، وسأخبركم عن
ذلك : إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أَرَضيهم ، وإن إخواني من المهاجرين
كان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وكنت ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء
بطني ، فأشهد إذا غابوا ، وأحفظ إذا نسوا ، ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يوما : ( أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثي هذا ثم يجمعه إلى صدره فإنه لم ينس
شيئا سمعه ) ، فبسطت بردة علي ، حتى فرغ من حديثه ، ثم جمعتها إلى صدري ، فما نسيت
بعد ذلك اليوم شيئا حدثني به ، ولولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئا
أبدا : {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في
الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون *إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا
فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم }( البقرة 159- 160) .
ولا يوجد أبداً نص ثابت يفيد بأن الصحابة رضي الله عنهم شكوا فيه ، أو
صرحوا بكذبه ، أو منعوا من الاستماع إليه ، بل نصوص التاريخ الثابتة ، كلها تقطع
بإقرار الصحابة له بالحفظ ، واعترافهم بأنه كان أكثرهم اطلاعاً على الحديث ، وربما
استغرب أحدهم بعض أحاديثه ، ولكنه لا يلبث إلا أن يسلم له ، ويقبل منه ، ويعترف
بإحاطته وحفظه .