أبوهريرة رضي الله عنه .... الصحابي المفترى عليه 2
 

ذكر ابن سعد في الطبقات أن أبا هريرة رضي الله عنه حدَّث ذات مرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديث ( من شهد جنازة فله قيراط ) ، فقال ابن عمر : " انظر ما تحدث به يا أبا هريرة فإنك تكثر الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ بيده فذهب به إلى عائشة ، فقال : أخبريه كيف سمعتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ، فصدَّقَت أبا هريرة ، فقال أبو هريرة : يا أبا عبد الرحمن والله ما كان يشغلني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غرس الوَدِيِّ ، ولا الصفق بالأسواق ، فقال: ابن عمر : " أنت أعلمنا يا أبا هريرة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحفظنا لحديثه " وأصله في الصحيح .

وأخرج ابن كثير في تاريخه عن أبي اليسر عن أبي عامر قال : كنت عند طلحة بن عبيد الله ، إذ دخل رجل فقال : يا أبا محمد ، والله ما ندرى هذا اليماني أعلم برسول الله منكم ؟ أم يقول على رسول الله ما لم يسمع ، أو ما لم يقل ، فقال طلحة : " والله ما نشك أنه قد سمع من رسول الله ما لم نسمع ، وعلم ما لم نعلم ، إنا كنا قوماً أغنياء ، لنا بيوتات وأهلون ، وكنا نأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار ثم نرجع ، وكان هو مسكيناً لا مال له ولا أهل ، وإنما كانت يده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يدور معه حيث دار ، فما نشك أنه قد علم ما لم نعلم ، وسمع ما لم نسمع " وقد رواه الترمذى أيضاً .

كل ذلك يؤكد على أن صدق أبي هريرة لم يكن أبداً محل نزاع أو شك عند الصحابة ولا من بعدهم من التابعين .

وأما ما ورد من أن عمر نهاه عن التحديث ، وقال له : " لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس " ، فإنه على افتراض صحة هذه الرواية ، فقد كان ذلك في ظرف معين ، فعندما رأى أبو هريرة رضي الله عنه أن من الواجب عليه أن يحدث الناس بما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خروجاً من إثم كتمان العلم ، ألجأه ذلك إلى أن يكثر من رواية الحديث ، فربما سرد في المجلس الواحد الكثير من الأحاديث ، وكان عمر رضي الله عنه ، يرى أن يشتغل الناس بالقرآن ، وأن يقلوا الرواية عن رسول الله في غير أحاديث العمل ، وأن لا يحدث الناس بأحاديث الرخص لئلا يتكلوا عليها ، إلى غير ذلك من الأمور ، ومن أجل ذلك قال لأبي هريرة ما قال ، لأنه كان أكثر الصحابة رواية للأحاديث ، فلم يقل ذلك تكذيباً له ولا شكاً في حديثه - وقد ذكر هذا التوجيه الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية - ، كما ذكر أنه أذن له في التحديث بعد ذلك . انظر سير أعلام النبلاء (2/601).

وهذا التوجيه إنما هو على فرض صحة هذه الرواية وثبوتها ، ولكن دون ذلك - كما قال المعلمي في الأنوار الكاشفة - مفاوز وقفار تنقطع فيها أعناق المطي ، وقد ذكر ما يثبت عدم صحة الخبر .

وأما ما يروونه من أن عمر رضي الله عنه ضربه بالدرة ، وقال له : " أكثرت يا أبا هريرة من الرواية ، وأَحْرِ بك أن تكون كاذباً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكل ذلك كذب مفضوح ، لا يوجد في أي مصدر معتمد ، وإنما هي أخبار مستقاة من مصادر أقل ما يقال عنها ، إنها مصادر غير معتمدة في البحث العلمي ، ككتب الأدب التي تروي التالف والساقط من الأخبار ، أو كتب أهل الأهواء التي عرف أصحابها ببغض أبي هريرة والافتراء عليه ، وليس لها أي قيمة علمية .

إذاً فإكثار أبي هريرة من الرواية كان مرجعه إلى طول الملازمة ، وعدم الشواغل ، والتفرغ للعلم والتعليم والفتيا ، وتأخر الوفاة ، وعدم الاشتغال بشؤون الحكم والولاية ، فهل يجوز بعد ذلك أن تتخذ كثرة روايته ، وحفظه للحديث مجالاً للطعن في صدقه وأمانته ؟!.

ولم تقف مطاعنهم عند هذا الحد ، فقد افتروا عليه بأنه كان متشيعاً لبني أمية ، يأخذ من معاوية الأعطيات من أجل وضع الأحاديث في ذم علي رضي الله عنه ، مع أن التاريخ والروايات والأخبار كلها تشهد بأن أبا هريرة رضي الله عنه كان محباً لآل البيت ، يعرف قدرهم ومكانتهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يناصبهم العداء قط ، وهو الذي روى الكثير في مناقبهم وفضائلهم ، وبوجه خاص فضائل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، ومن أشهرها حديث الراية يوم خيبر ، وروى في فضائل الحسن و الحسين أكثر من حديث ، وهو الذي كشف عن بطن الحسن رضي الله عنه ، وقال : أرني أقبل منك حيث رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم يقبل - ، وكان أبو هريرة رضي الله عنه ممن نصر عثمان يوم الدار كما نصره علي وابنه الحسن و الحسين .

بل إن الروايات التاريخية الصحيحة تدل على أنه رضي الله عنه كانت له مواقف صلبة مع بعض الولاة من بني أمية كما في موقفه مع مروان بن الحكم - الذي كان والي المدينة آنذاك ، فقد اصطدم معه حين تدخل مروان في منع دفن الحسن عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأغلظ له في الكلام قائلاً : " تدَخَّلُ فيما لا يعنيك " ، ولما أراد أن يتخذ مروان من إكثار أبي هريرة للحديث ، سبيلاً إلى إسكاته أجابه بجواب صريح قوي ، حتى تمنى مروان أنه لم يكن أثاره ، وكانت بينهما وحشة استمرت إلى قرب وفاة أبي هريرة ، وكان مما قاله : " إنى أسلمت وهاجرت اختياراً وطوعاً ، وأحببت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حباً شديداً ، وأنتم أهل الدار ، وموضع الدعوة ، أخرجتم الداعى من أرضه ، وآذيتموه وأصحابه ، وتأخر إسلامكم عن إسلامي إلى الوقت المكروه إليكم ، فندم مروان على كلامه له واتقاه " .

وروى البخاري عن عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد قال أخبرني جدي قال : كنت جالسا مع أبي هريرة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ومعنا مروان قال أبو هريرة : سمعت الصادق المصدوق يقول : ( هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش ) وفي رواية ( غلمة سفهاء ) ، فقال أبو هريرة : " لو شئت أن أقول بني فلان ، وبني فلان لفعلت ، وكان ذلك كما قال الحافظ في الفتح في زمن معاوية رضي الله عنه ، وفي ذلك تعريض ببعض أمراء بني أمية .

بل روي عنه ما هو أصرح من ذلك مما يدل على شجاعته ، وعدم مداهنته ، فثبت عنه أنه كان يتعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان ، ويشير إلى خلافة يزيد بن معاوية لأنها كانت سنة ستين للهجرة ، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة ، كما ذكر ذلك الحافظ بن حجر في الفتح .

ولكنه مع ذلك كله كان منصرفاً إلى بث السنة وخدمة العلم ، أبى أن يخوض في الفتنة التي وقعت بين علي و معاوية رضي الله عنهما ، كما أبى أن يخوضها عدد من كبار الصحابة ، اجتهاداً منهم بأن هذا هو الموقف الأسلم ، والأبرأ للذمة .

فهل هذه مواقف رجل متهم في دينه وإسلامه ، متشيع لبني أمية كما يريد أن يصوره الأفاكون المبطلون ، عليهم من الله ما يستحقون .

ومما شغب به أهل الأهواء على أبي هريرة حديث الوعائين ، وهو حديث أخرجه البخاري عنه وفيه يقول : " حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاءين فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم ".
فقالوا لو صح لترتب عليه أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كتم شيئاً من الوحي عن جميع الصحابة سوى أبي هريرة وهذا لا يجوز بإجماع المسلمين ، وكيف يخص أبا هريرة بعلم ، دون سائر الصحابة ممن هم أرفع منه منزلة وقدراً .

وقد أجاب أهل العلم عن المقصود بهذا الحديث فقالوا : المراد بالوعائين نوعان من الأحاديث التي تلقاها عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ، فأما النوع الأول : فهو ما يتعلق بأحاديث الأحكام والآداب والمواعظ ، وهذا هو الذي بلَّغه خشية إثم الكتمان ، وأما الآخر فهو ما يتعلق بالفتن والملاحم وأشراط الساعة ، وما سيقع للناس ، والإشارة إلى ولاة السوء ، مما لا يتوقف عليه شيء من أصول الدين أو فروعه ، فهذا هو الذي آثر ألا يذكر الكثير منه حتى لا يكون فتنة للسامع ، أو يسبب له التحديث به ضرراً في نفسه أو ولده أو ماله .

ولعل مما يؤكد ذلك رواية ابن سعد في الطبقات والتي يقول فيها : " لو حدَّثتكم بكل ما في جوفي لرميتموني بالبعر ، فقال الحسن : " صدق والله ، لو أخبرنا أن بيت الله يهدم ويحرق ما صدقه الناس " .

وهذا هو الذي ذكره أهل العلم في توجيه هذا الأثر ، قال الإمام ابن كثير في " البداية والنهاية " : " وهذا الوعاء الذي كان لا يتظاهر به ، هو الفتن والملاحم ، وما وقع بين الناس من الحروب والقتال ، وما سيقع ، التي لو أخبر بها قبل كونها ، لبادر كثير من الناس إلى تكذيبه ، وردوا ما أخبر به من الحق " أهـ .

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في " فتح الباري " : " وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم ، وقد كان أبو هريرة يكنى عن بعضه ولا يصرح به ، خوفا على نفسه منهم ، كقوله : " أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان " ، يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية ، لأنها كانت سنة ستين من الهجرة ، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة ..... ثم قال : " ويؤيد ذلك أن الأحاديث المكتومة ، لو كانت من الأحكام الشرعية ما وسعه كتمانها ، لما ذكره في الحديث الأول من الآية الدالة على ذم من كتم العلم ، وقال غيره : " يحتمل أن يكون أراد مع الصنف المذكور ما يتعلق بأشراط الساعة ، وتغير الأحوال والملاحم في آخر الزمان ، فينكر ذلك من لم يألفه ، ويعترض عليه من لا شعور له به " أهـ .
وأيا كان تأويل الحديث فليس فيه ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصه بشيء من ذلك دون غيره من الصحابة .

كل ذلك نموذج لما قيل في هذا الصحابي الجليل ، وهو يكاد يرجع في أصوله ومعناه إلى ما قاله الأقدمون من أهل الأهواء ، بفارق واحد كما قال العلامة " أحمد شاكر " أن أولئك الأقدمين - زائغين كانوا أو ملحدين - كانوا علماء مطلعين ، أكثرهم ممن أضله الله على علم ، وأما هؤلاء المعاصرون فليس إلا الجهل والجرأة وترديد ألفاظ لا يفهمونها ، بل هم فيها مقلدون متبعون لكل ناعق .

وقد تعرض الحاكم رحمه الله في المستدرك لكل من تكلم في أبي هريرة رضي الله عنه ، وجعلهم أصنافاً ، وكأنما يرد على هؤلاء المعاصرين فقال رحمه الله : " وإنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم ، فلا يفهمون معاني الأخبار ، إما معطل جهمي يسمع أخباره التي يرونها خلاف مذهبهم - الذي هو كفر - فيشتمون أبا هريرة ويرمونه بما الله تعالى قد نزهه عنه ، تمويهاً على الرعاع والسفل ، أن أخباره لا تثبت بها الحجة .

وإما خارجي يرى السيف على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يرى طاعة خليفة ولا إمام ، إذا سمع أخبار أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف مذهبهم الذي هو ضلال ، لم يجد حيلة في دفع أخباره بحجة وبرهان ، كان مفزعه الوقيعة في أبي هريرة .

أو قدري اعتزل الإسلام وأهله ، وكفَّر أهل الإسلام الذين يتبعون الأقدار الماضية التي قدرها الله تعالى وقضاها قبل كسب العباد لها ، إذا نظر إلى أخبار أبي هريرة التي قد رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إثبات القدر لم يجد بحجة يريد صحة مقالته التي هي كفر وشرك ، كانت حجته عند نفسه : أن أخبار أبي هريرة لا يجوز الاحتجاج بها .

أو جاهل يتعاطى الفقه ويطلبه من غير مظانه ، إذا سمع أخبار أبي هريرة فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبه وأخباره ، تقليداً بلا حجة ولا برهان ، تكلم في أبي هريرة ، ودفع أخباره التي تخالف مذهبه ، ويحتج بأخباره على مخالفيه ، إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه .

وقد أنكر بعض هذه الفرق على أبي هريرة أخباراً لم يفهموا معناها ، أنا ذاكر بعضها بمشيئة الله تعالى " أهـ .

ثم أخذ الحاكم يذكر بعض الأحاديث التي استشكلت من أحاديث أبي هريرة ويجيب عنها .

فهذه كلمة الحق في رواية الإسلام أبي هريرة رضي الله عنه ، وهذا هو ما ذهب إليه أئمة الهدى ، وأعلام التقى ، وكبار فقهاء الإسلام ومحدثيه ، وإن صحابياً يظل يحدث الناس سبعاً وأربعين سنة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على مرأى ومسمع من كبار الصحابة والتابعين ، ويبلغ الآخذون عنه ثمانمائة من أهل العلم ، لا يعرف أن أحداً من الصحابة بلغ مبلغه في الآخذين عنه ، وكلهم يجمع على جلالته والثقة به ، وينطوي على ذلك تاريخ الإسلام أربعة عشر قرناً من الزمان ، وكلها شهادات حق وصدق في أحاديثه وأخباره ، ليأتي اليوم من يشكك فيه ، ويزعم أن المسلمين جميعاً أئمة وأصحاباً وتابعين ومحدثين كانوا مخدوعين فيه ، ولم يعرفوه على حقيقته ، وأنه كان يكذب ويفتري في الواقع ، فأي إزراء واستخفاف بعقول هذه الأمة وعلومها ودينها أعظم من هذا ، وصدق الله : { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن   تعمى القلوب التي في الصدور }( الحج 46) .

 

* المراجع :
- السنة ومكانتها في التشريع: د.مصطفى السباعي .
- دفاع عن السنة: د. محمد أبو شهبة .
- أبو هريرة راوية الإسلام: د. محمد عجاج الخطيب .
- موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية ، الأمين الصادق الأمين .
- الحديث والمحدثون: محمد أبو زهو .
- المستشرقون والحديث النبوي د. محمد بهاء الدين .
- الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة: عبدالرحمن بن يحيى المعلمي اليماني .

- موقع الشبكة الإسلامية.