ومما يدل أيضاً على أن الصحابة لم يكونوا يتلقفون كل ما يصدر عن أهل
الكتاب دون نقد وتمحيص تلك المراجعات العديدة ، والردود العلمية على بعض أهل
الكتاب ، في أمور أنكروها ، وردوا عليهم خطأهم فيها .
ومن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ذكر يوم الجمعة فقال : (( فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو
قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه الله إياه )) ، فقد اختلف السلف في
تعيين هذه الساعة ، وهل هي باقية أم رفعت ؟ وإذا كانت باقية فهل هي في جمعة واحدة
من السنة ، أو في كل جمعة منها ؟ .
وقد سأل أبو هريرة رضي الله عنه كعب الأحبار عن ذلك فأجابه كعب بأنها في
جمعة واحدة من السنة ، فرد عليه أبو هريرة قوله هذا ، وبين له أنها في كل جمعة ،
ولما رجع كعب إلى التوراة ، وجد أن الصواب مع أبي هريرة فرجع إليه ، كما في الموطأ
.
كما سأل أبو هريرة أيضاً عبد الله بن سلام عن تحديد هذه الساعة قائلاً له
: " أخبرني ولا تَضِنَّ عليَّ " ، فأجابه عبد الله بن سلام بأنها آخر
ساعة في يوم الجمعة ، فرد عليه أبو هريرة بقوله : " كيف تكون آخر ساعة في يوم
الجمعة ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يصادفها عبد مسلم
وهو يصلِّي " ، وتلك الساعة لا يصلَّّى فيها ؟ .... أخرجه أبو داود وغيره .
ومن ذلك أيضاً ما رواه ابن جرير عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عباس
أنه قال : " المفدي إسماعيل ، وزعمت اليهود أنه إسحق وكذبت اليهود " .
ولما بلغه أن نوفاً البكالي - وهو ربيب كعب الأحبار - ، يزعم أن موسى بني
إسرائيل ليس بموسى الخضر : قال : " كذب " حدثنا أبي بن كعب عن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - وساق الحديث الذي عند البخاري في قصة موسى مع الخضر .
وذكر ابن كثير في تفسيره أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ،قال لكعب
منكِراً : " أنت تقول : " إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا ؟ "
فقال له كعب : " إن كنت قلت ذلك ، فإن الله تعالى قال : {وآتيناه من كل شيء
سببا }( الكهف 84) ، قال ابن كثير معلقاً : " وهذا الذي أنكره معاوية رضي
الله عنه على كعب هو الصواب ، والحق مع معاوية في ذلك الإنكار " .
فهذا كله وغيره يؤكد على أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا مغفلين
مخدوعين يصدقون كل ما يلقى إليهم ، بل كانوا يتحرون الصواب ، ويردون على أهل
الكتاب أقوالهم التي تستحق الرد والمراجعة .
فهل يعقل بعد هذا ، وبعد ما عرفناه من عدالة الصحابة وحرصهم على امتثال
أوامر الله ورسوله ، وعدم تسليمهم لأهل الكتاب كل ما يروونه من إسرائيليات ، أن
نقول بتهاونهم ، ومخالفتهم لتعاليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضلاً عن
رميهم بالغفلة وعدم الفطنة ، اللهم إنا نبرأ إليك من ذلك .
وأما يتعلق بالمحور الثاني من هذا الموضوع فإن أي باحث منصف لا ينكر أن
الكثير من الإسرائيليات قد دخلت في الإسلام عن طريق أهل الكتاب الذين أسلموا ،
وأنهم نقلوها بحسن نية ، ولا ينكر أيضاً أثرها السيئ في كتب العلوم ، وأفكار
العوام من المسلمين .
ولكن الذي لا يسلم به أن يكون عبد الله بن سلام و كعب الأحبار و وهب بن
منبه وأضرابهما - ممن أسلموا وحسن إسلامهم - كان غرضهم الدس والاختلاق والإفساد في
الدين .
فعبد الله بن سلام كان من خيار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،
ومن علماء أهل الكتاب الذين جمعوا علم التوراة وعلم الإنجيل ، ولا يوجد من أئمة
الإسلام ، وعلماء الحديث الذين نقدوا الرجال من ناله بتهمة ، أو مسَّه بتجريح ، بل
وجدناهم يعدلونه ويوثقونه ، ولهذا اعتمده البخاري وغيره من أهل الحديث ، مما يدل
على مبلغ علمه وسلامة دينه .
كيف وقد شهد له - صلى الله عليه وسلم - بالجنة كما في البخاري عن سعد بن
أبي وقاص ، قال : ما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لأحد يمشي على الأرض
: إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام قال : وفيه نزلت هذه الآية :{ وشهد شاهد
من بني إسرائيل على مثله .... }الآية ( الاحقاف 10) .
ومعاذ الله أن يكون عبد الله بن سلام دسيسة على الإسلام والمسلمين ، وأن
يكون قد أسلم خِداعاً لينفث سمومه ، ولو كان كذلك لكان رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أول المخدوعين فيه يوم أن جاءه مسلماً ، وقصته معروفة مشهورة مع قومه من
اليهود .
ثم معاذ الله لو خُدِع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه أول الأمر ،
أن يظل مخدوعاً وأن يتخلى الله عن نبيه فلا ينبهه على ذلك ، في الوقت الذي يتنزل
عليه القرآن صباح مساء ، ويكشف له كثيراً من أحوال المنافقين وخباياهم .
وأما ما صح عنه من بعض الروايات الإسرائيلية فلا تغض من شأنه وعلمه ، فإنها
على قلتها لا تعدو أن تكون من قبيل ما أذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في
روايته ، ولا يمكن أن تخدش في عدالته ، أو تضعف الثقة فيه ، وإلا لما اعتمده
البخاري وغيره من أهل الحديث .
وما نسب إليه كذباً من إسرائيليات بقصد ترويجها فليس ذنبه بل ذنب من نسبها
إليه ، وكم وضع الوضاعون من أحاديث ونسبوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
، وهو خير منه ، فما حط ذلك من قدره ، ولا غض من مقامه .
وأما كعب الأحبار فهو من التابعين الأخيار ، وقد أخرج له البخاري و مسلم
وغيرهما ، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام ، واتفقت كلمة نقاد
الحديث على توثيقه ، فترجم له النووي في تهذيبه بقوله : " اتفقوا على كثرة
علمه وتوثيقه " أهـ ، ولذا لا تجد له ذكراً في كتب الضعفاء والمتروكين.
والمتتبع لحياة كعب في الإسلام ، ومقالات أعلام الصحابة فيه ، ومن تحمل
منهم عنه وروى له ، ومن أخرج له من شيوخ الحديث في مصنفاتهم ، يجد ما يدحض هذه
الفرية ويرد هذه التهمة ، ويشهد للرجل بقوة دينه ، وصدق يقينه ، وأنه طوى قلبه على
الإسلام المحض ، والدين الخالص ، لا على أنه دسيسة يهودية تستر بالإسلام - كما زعم
الزاعمون - .
ولا يعكر عليه قول معاوية في حقه - كما في الصحيح - : " إن كان من
أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب ، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه
الكذب " .
فهذا الكلام لا يخدش في ثقة كعب وعدالته ،بل إن في ذلك تزكية من معاوية وثناء عليه
بأنه أصدق المحدثين عن أهل الكتاب ، وقول معاوية : " وإن كنا مع ذلك لنبلو
عليه الكذب " ، لا يراد منها اتهامه بالكذب ، وإنما المقصود أن في بعض
الأخبار التي ينقلها بأمانة ما لا يطابق الواقع ، فالكذب حينئذ مضاف إلى تلك الكتب
التي ينقل عنها لا إلى كعب ، وهو نحو قول ابن عباس في حقه " بدل من قبله فوقع
في الكذب " .
وبهذا التوجيه وجه أئمة النقد والرجال عبارة معاوية فقال ابن حبان في
الثقات : " أراد معاوية أنه يخطئ أحياناً فيما يخبر به ولم يرد أنه كان
كذاباً " ، وقال ابن الجوزي : " المعنى أن بعض الذي يخبر به كعب عن أهل
الكتاب يكون كذباً ، لا أنه كان يتعمد الكذب ، وإلا فقد كان كعب من أخيار الأحبار
" ، وقال ابن كثير في تفسيره : " يعني فيما ينقله ، لا أنه كان يتعمد
نقل ما ليس في صحفه ، ولكن الشأن في صحفه أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل
مصحف محرف مختلق ، ولا حاجة لنا مع خبر الله تعالى ورسول الله - صلى الله عليه
وسلم - إلى شيء منها بالكلية ، فإنه دخل منها على الناس شر كثير وفساد عريض "
أهـ .
وأما وهب بن منبه فهو من خيار التابعين وثقاتهم ، أخرج له البخاري و مسلم
، ولا يُعلم أحد من أئمة هذا الشأن طعن فيه بأنه وضاع ودسَّاس ، بل رأيناهم
يوثقونه ، فقد وثقه أبو زرعة و النسائي و العجلي ، وذكره ابن حبان في الثقات ،
وقال الذهبي : " كان ثقة صادقاً كثير النقل من كتب الإسرائيليات " .
ولسنا ننكر رواية كعب وو هب وغيرهما للإسرائيليات ، فذلك أمر تنطق به كتب
التفسير والحديث التي تعنى بسرد الإسرائيليات : ولكن يجب قبل أن نجازف بالحكم
عليهم أن نأخذ بعين الاعتبار أمرين هامين :
الأمر الأول : أن ما رووه من أخبار بني إسرائيل ، لم يسندوه إلى رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكذبوا فيه على أحد من المسلمين ، وإنما كانوا يروونه
على أنه من الإسرائيليات ، ويحكونه غير مصدقين له ، بل كان موقفهم منها كموقف
الصحابة رضي الله عنهم ، فما جاء على وفق شرعنا صدقوه ، وما خالفه كذبوه ، وما لم
يوافق أو يخالف شرعنا توقفوا فيه وردوا فيه علمه إلى الله عز وجل .
الأمر الآخر : أنه ليس كل ما ينسب إليهم صحيحاً ، فقد اختلق الوضاعون
عليهم أشياء كثيرة ، فاتخذوهم مطية لترويج الكذب وإذاعته بين الناس ، مستغلين
شهرتهم العلمية الواسعة بما في كتب أهل الكتاب ، ثم تناقل هذه الأخبار بعض القصاص
والمؤرخين والأدباء ، وبعض المفسرين على أنها حقائق ، من غير أن يتثبتوا من صحة
نسبتها إلى من عزيت له .
يقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله : " وبعض أهل عصرنا تكلم فيه - يقصد
وهب بن منبه - عن جهل ، ينكرون أنه يروي الغرائب عن الكتب القديمة ، وما في هذا
بأس ، إذ لم يكن ديناً ، ثم أنى لنا أن نوقن بصحة ما روي عنه من ذلك وأنه هو الذي
رواه وحدَّث به " .أهـ .
فهل بعد هذا كله نقبل كلام " جولد زيهر " ومن مشى في ركابه ،
ونعرض عن كلام أئمة الإسلام ، وجهابذة المحدثين والنقاد ، الذين وثقوا هؤلاء
الرواة ، وخرجوا أحاديثهم في كتبهم التي تلقتها الأمة بالقبول جيلاً بعد جيل ،
فضلاً عن أن نتهمهم بالمكر والدهاء والكيد للإسلام وأهله ، اللهم إنا نبرأ إليك من
ذلك .
* مراجع الموضوع :
- دفاع عن السنة: د. محمد محمد أبو شهبة .
- التفسير والمفسرون: د. محمد حسين الذهبي .
- الإسرائيليات في التفسير والحديث د. محمد حسين الذهبي .
- الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير: د .رمزي نعناعة .
- الحديث والمحدثون: محمد محمد أبو زهرة .