النهي عن كثرة المسألة والحث على امتثال الأوامر واجتناب النواهي
 

عن أبي هريرة، عبد الرحمن بنِ صخرٍ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتُوا منه ما استطعتم، فإنَّما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافُهمْ على أنبيائهم» (رواه البخاري ومسلم).

هذا الحديث بهذا اللفظ خرَّجه مسلم وحده من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، كلاهما عن أبي هريرة، وخرجاه من رواية أبى الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».

وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يسألونه عن حكم حوادث قبل وقوعها لكن للعمل بها عند وقوعها كما قالوا له: إنا لاقوا العدو غداً وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ وسألوه عن الأمراء الذين أخبر عنهم بعده وعن طاعتهم وقتالهم، فبهذا الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم» وهو يدل على كراهة المسائل وذمها، ولكن بعض الناس يزعم أن ذلك كان مختصاً بزمن النبي صلى الله عليه وسلم لما يخشى حينئذ من تحريم ما لم يحرم أو إيجاب ما يشق القيام به، وهذا قد أمن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ولن ليس هذا وحده هو سبب كراهة المسائل بل له سبب آخر وه الذي أشار إليه ابن عباس في كلامه الذي ذكرنا بقوله: ولكن انتظروا، فإذا نزا القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه، ومعنى هذا أن جميع ما يحتاج إليه المسلون في دينهم لا بد أن يبينه الله في كتابه العزيز ويبلغ ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم عنه فلا حاجة بعد هذا لأحد في السؤال، فإن الله تعالى أعلم بمصالح عباده منهم، فما كان فيه هدايتهم ونفعهم فإن الله تعالى لا بد أن يبينه لهم ابتداء من غير سؤال كما قال: ﴿يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ﴾[النساء:176] وحينئذ فلا حاجة إلى السؤال عن شيء ولا سيما قبل وقوعه والحاجة إليه، فالذي يتعين على المسلم الاعتناء به والاهتمام أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم يجتهد في فهم ذلك والوقوف العلمية بذل وسعه في الاجتهاد في فعل ما يستطيعه من الأوامر واجتناب ما ينهى عنه، فيكون همته مصروفة بالكلية إلى ذلك لا إلى غيره، ولهذا المعنى كان كثير من الصحابة والتابعين يكرهون السؤال عن الحوادث قبل وقوعها ولا يجيبون عن ذلك، قال عمرو بن مرة، خرج عمر على الناس فقال: أحرِّج عليكم أن تسألون عن ما لم يكن، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لا تسألوا عما لم يكن فإني سمعت عمر رضي الله عنه لعن السائل عما لم يكن، وكان زيد بن ثابت إذا سئل عن شيء يقول: كان هذا؟ فإن قالوا: لا، قال: دعوه حتى يكون، وقال الأوزاعي: إن الله أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط، فلقد رأيتهم أقل الناس علماً، وقد انقسم الناس في هذا الباب قسمين: فمن أتباع أهل الهديث من سد باب المسائل حتى قلَّ فهمه وعلمه لحدود ما أنزل الله على رسوله وصار حامل فقه غير فقهيه، ومن فقهاء أهل الرأي من توسع في توليد المسائل قبل وقوعها ما يقع في العادة منها وما لا يقع، واشتغلوا بتكلف الجواب عن ذلك وكثرة الخصومات فيه والجدال عليه، حتى يتولد من ذلك افتراق القلوب ويستقر فيها بسببه الأهواء والشحناء والعداوة والبغضاء، وهذا مما ذمه العلماء الربانيون ودلت السنة على قبحه وتحريمه، وأما فقهاء أهل الحديث العاملون به، فإن معظم همهم البحث عن معاني كتاب الله وما يفسره من السنن الصحيحة وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة صحيحها وسقيمها، ثم التفقه فيها وفهمها والوقوف على معانيها ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير والحديث ومسائل الحلال والحرام وأصول السنة والزهد والرقائق وغير ذلك، وهذا هو طريق الإمام أحمد ومن واقفه من علماء الحديث الربانيين، وفي معرفة هذا شغل الشاغل بما أحدث من الرأي ما لا ينتفع به ولا يقع وإنما يورث التجادل فيه كثرة الخصومات والجدال وكثرة القيل والقال، وكان الإمام أحمد كثيراً إذا سئل عن شيء من المسائل المحدثة المتولدات التي لا تقع يقول: دعونا من هذه المسائل المحدثة، وقال أحمد بن شبويه: من أراد علم القبر فعليه بالآثار، ومن أراد علم الخير فعليه بالرأي، ومن سلك طريقه لطلب العلم على ما ذكرناه تمكن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالباً لأن أصولها توجد في تلك الأصول المشار إليها، ولا بد أن يكون سلوك هذا الطريق خلاف أئمة أهل الدين المجمع على هدايتهم ودرايتهم كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ومن سلك مسلكهم، فإن من ادعى سلوك هذا الطريق على غير طريقهم وقع في مفاوز ومهالك وترك ما يجب العمل به، وملاك الأمر كله أن يقصد بذلك وجه الله عز وجل ولتقرب إليه بمعرفة ما أنزل على رسوله وسلوك طريقه والعمل بذلك ودعاء الخلق إليه، ومن كان كذلك وفقه الله وسدده وألهمه رشده وعلمه ما لم يعلم وكان من العلماء الممدوحين في الكتاب في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾ [فاطر:28] ومن الراسخين في العلم، وقد خرَّج ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم فقال: «من برَّت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه، ومن عفَّ بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم» ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه فنقول:

من لم يشتغل بكثرة المسائل التي لا يوجد مثلها في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بل اشتغل بفهم كلام الله ورسوله وقصده بذلك امتثال الأوامر واجتناب النواهي، فهو ممن امتثل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وعمل بمقضاه، ومن لم يكن اهتمامه بفهم ما أنزل الله على رسله واشتغل بكثرة المسائل قد تقع وتكلف أجوبتها بمجرد الرأي خشي عليه أن يكون مخالفاً لهذا الحديث مرتكباً لنهيه تاركاً لأمره، واعلم أن كثرة وقوع الحوادث التي لا أصل لها في الكتاب والسنة إنما هو من ترك الاشتغال بامتثال أوامر الله ورسوله واجتناب نواهي الله ورسوله، وفي الجملة: فمن امتثل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وانتهى عما نهى عنه وكان مشتغلاً بذلك عن غيره حصل له النجاة في الدنيا والآخرة، ومن خالف ذلك واشتغل بخواطره وما يستحسنه وقع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم من حال أهل الكتاب الذين هلكوا بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم وعدم انقيادهم وطاعتهم لرسلهم، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» قال بعض العلماء: هذا يؤخذ منه أن النهي أشد من الأمر، لأن النهي لم يرخص في ارتكاب شيء منه والأمر قيد بحسب الاستطاعة»، وقال الحسن: ما عبد العابدون بشيء أفضل من ترك ما نهاهم الله عنه، والظاهر أن ما ورد من تفصيل ترك المحرمات على فعل الطاعات إنما أريد به على نوافل الطاعات، وإلا فجنس الأعمال الواجبات أفضل من جنس ترك المحرمات، لأن الأعمال مقصودة لذاتها والمحارم مطلوب عدمها، ولذلك لا تحتاج إلى نية بخلاف الأعمال وكذلك كان جنس ترك الأعمال قد تكون كفراً كترك التوحيد وكترك أركان الإسلام أو بعضها، على ما سبق، بخلاف ارتكاب المنهيات فإنه لا يقتضي الكفر بنفسه، ويشهد لذلك قول ابن عمر رضي الله عنهما: لرد دانق من حرام أفضل من مائة ألف تنفق في سبيل الله، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» دليل على أن من عجز عن فعل المأمور به كله وقدر على بعضه فإنه يأتي بما أمكن منه وهذا مطرد في مسائل:

منها الطهارة: فإذا قدر على بعضها وعجز عن الباقي فإنه يأتي من ذلك بما قدر عليه ويتيمم للباقي، ومنها الصلاة: فمن عجز عن فعل الفريضة قائماً فإن عجز صلاها مضجعاً، ومنها زكاة الفطر: فإذا قدر على إخراج بعض صاع لزمه ذلك على الصحيح.

* * *

  • المصدر:

-          جامع العلوم والحكم: ابن رجب الحنبلي.