الشبهة: كيف يكون الصحابة حجة في العقيدة، وقد اختلفوا في أصول الدين(2)
 

§ ثانياً: اختلاف الصحابة في مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة أسري به:([1])

هذه المسألة من المسائل العقدية لأنها من الغيبيات التي يتوقف العلم بها على خبر الشرع، ولقد ورد النقل عن الصحابة رضوان الله عليهم بما يوهم باختلافهم في الأصول، حيث انقسمت أقوال الصحابة -رضوان الله عليهم- في هذه المسألة إلى قولين:

- أحدهما: ينفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل ليلة أُسري به.

- والقول الثاني: يثبتها.

فعن مسروق قال: (قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أمتاه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب؛ من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الأنعام: 103]، ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَآء حِجَابٍ [الشورى: 51]، ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً﴾ [لقمان: 34]، ومن حدثك أنه كتم فقد كذب، ثم قرأت: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ [المائدة: 67] الآية، ولكنه رأى جبريل عليه السلام في صورته مرتين).([2])

فهذا الحديث الصحيح فيه إنكار عائشة رضي الله عنها لهذه الرؤية، وهو قولها والمشهور عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وغيرهما كما ذكره القاضي عياض([3]) وغيره.

والقول الثاني لابن عباس رضي الله عنهما فعن عكرمة عن ابن عباس قال: (رأى محمد ربه. قلت: أليس الله يقول: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾ [الأنعام: 103]؟ قال: ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى محمد ربه مرتين).([4])

فهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، والآثار في هذه المسألة كثيرة، لكني اكتفيت بهذين النقلين لبيان وقوع الاختلاف، والنظر في دفع الشبهة المترتبة عليه.

ومن المعلوم أن هذه المسألة قد وقع الخلاف فيها بين السلف رضوان الله عليهم كما نقل ذلك القاضي عياض([5]) والحافظ ابن حجر([6]) وغيرهما.

فالحاصل هنا أن عائشة رضي الله عنها نفت أمراً غيبياً بناءً على عدم تلقيها خبراً صحيحاً فيه، في حين أن ابن عباس رضي الله عنهما قد أثبت ما وصل إليه من خبرٍ صحيحٍ عنه بالنسبة إليه، وما أجمل ما نُقل عن الإمام أحمد قال الحافظ الذهبي رحمه الله: (ونقل المروذي عن أبي عبد الله وسأله: بم تدفع قول عائشة؟ قال: بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ربي»([7])).([8])

فكلٌ من عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قد قال بما وصل إليه مِن علم، فهما متفقان على المنهج العلمي الصحيح في الاعتقاد، وهذا غاية ما يجب على المسلم في المسائل الخبرية المتوقفة على إعلام الشرع. نعم قد حصل اختلاف من ناحية إثبات جزئية أو نفيها، ولكن مرده إلى عدم وجود كل السنة عند كل الصحابة، وعليه فلا يعتبر اختلافاً منهجياً عند التحقيق. فعائشة وقفت عند ما لا علم به ونفت الخبر بناءً على فهمها لنص القرآن، وابن عباس قال بما سمعه نصاً من السنة إذ لا يُظن به وهو ترجمان القرآن وحَبر الأمة أن يقول في مسألة كهذه برأيه.

([1] ) تعرض لهذه المسألة كثير من شراح الحديث والمحققون ومن كتب في العقائد، ويمكن مراجعة المسألة بتوسع في المراجع التالية: شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/566-578)، التوحيد لابن خزيمة (1/166-190)، الإجابة (1/94-99) ، الشريعة للآجري (1/383-386)، فتح الباري (9/588-591)، إكمال المعلم – كتاب الإيمان (2/737-740)، الشفا (1/128-132)، والإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم (1/382-384) وغيرها.

([2] ) صحيح البخاري – كتاب التفسير – حديث: (4855).

([3] ) كتاب الإيمان من إكمال المعلم – القاضي عياض – تحقيق د.الحسين شواط – 2/736-737.

([4] ) سنن الترمذي – كتاب التفسير – حديث: (3279)، وقال أبو عيسى: «هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه».

([5] ) كتاب الإيمان من إكمال المعلم – القاضي عياض – تحقيق د.الحسين شواط – 2/736-737.

([6] ) فتح الباري – ابن حجر – 9/588-591.

([7] ) أخرج هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده من طريق عكرمة عن ابن عباس( 1/285 – حديث: 2580، 1/290 – حديث: 2634) وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال ا لصحيح (مجمع الزوائد – 1/78)، وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1/188) وقال الألباني: حديث صحيح، وهو مختصر من حديث الرؤيا.

([8] ) العلو للعلي الغفار – الذهبي – 1/103 ، ونقل هذا القول أيضاً الحافظ ابن حجر: (فروى الخلال في كتاب السنة عن المروزي قلت لأحمد: إنهم يقولون إن عائشة قالت من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، فبأي شيء يُدفع قولها؟ قال: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: رأيت ربي، قول النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من قولها). [الفتح – 9/590].