الشبهة.. حول رواية الصحابة للأحاديث بالمعنى
 

حيث إن الصحابة كانوا يروون الأحاديث بالمعنى فكيف يصح أن يكونوا حجة في السنة رواية وهم يتصرفون بالألفاظ كيف يشاؤون؟ وكيف نثق بالصحابة وقد تعددت الروايات في الحديث الواحد وكل يأتي بها بلفظ غير الآخر؟([1])

* جواب الشبهة:

إن جواب هذه الشبهة من وجهين:

- أحدهما: يتعلق بورع الصحابة رضوان الله عليهم وتحفظهم في التصرف في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

- والآخر: يتعلق بمسألة الرواية بالمعنى.

·    الوجه الأول: ورع الصحابة رضوان الله عليهم في رواية السنة: حَرِص الصحابة على تحمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعوه منه، وأدائه كما سمعوه منه، إذ هذا هو الأصل في حض النبي صلى الله عليه وسلم على حفظ حديثه وتبليغه.

ففي الحديث: «نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها»([2])، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتني بتعليم أصحابه السنة بألفاظها.

* وأذكر بعض الأمثلة لشدة تحري أداء السنة بلفظها فيما يلي:

أ‌.    في حديث البراء بن عازب قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت. فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به. قال: فردَّدتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت (اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت) قلت: ورسولك، قال: لا، ونبيك الذي أرسلت»([3])، فهذا الحديث يدل على عناية النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم الصحابة الحديث بلفظه لا سيما في الأذكار التوقيفية. 

ب‌.   وفي حديث ربعي بن حراش قال: اجتمع حذيفة وأبو مسعود فقال حذيفة: «رجلٌ لقي ربه فقال: ما عملت؟ قال: ما عملت من الخير إلا أني كنت رجلاً ذا مال، فكنت أطالب به الناس، فكنت أقبل الميسور، وأتجاوز عن المعسور». فقال: تجاوزوا عن عبدي. قال أبو مسعود: «هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول».([4])

ت‌.   وعن ربعي بن حراش قال: اجتمع حذيفة وأبو مسعود فقال حذيفة: «لأنا    بما مع الدجال أعلم منه، إن معه نهراً من ماء ونهراً من نار؛ فأما الذي ترون أنه نار       ماء، وأما الذي ترون أنه ماء نار، فمن أدرك ذلك منكم فأراد الماء فليشرب من الذي يراه أنه نار، فإنه سيجده ماء. قال أبو مسعود: هكذا سمعت النبي صلى الله عليه                وسلم يقول».([5])

ث‌.    وعن عيسى بن طلحة قال: كنا عند معاوية إذ سمع المنادي يقول: الله أكبر الله أكبر. فقال معاوية: الله أكبر. فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال معاوية: وأنا أشهد. فلما قال: أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: وأنا أشهد. ثم قال معاوية: «هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول»([6])، والأمثلة على هذا كثيرة تدل على ورع الصحابة واعتنائهم بأداء الحديث بلفظه في الأصل.

·    الوجه الثاني: تحرير مسألة الرواية بالمعنى: إن مما لا ريب فيه أنها قد وقعت حقيقةً، وقد تكلم علماء الحديث في مسألة الرواية بالمعنى، فقال ابن رجب رحمه الله: (جواز الرواية بالمعنى وأدلة ذلك ومن قال به).

فأما الرواية بلفظٍ آخر لا يختل به المعنى فهو الذي ذكر الترمذي جوازه عند أهل العلم، وذكره عمن ذكره من السلف، وروي عن الحسن أنه استدل لذلك بأن الله يقص قصص القرون السالفة بغير لغاتها.

وروى قتادة عن زرارة بن أوفى قال: لقيت عدة من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم - فاختلفوا علي في اللفظ واجتمعوا في المعنى.

وقد روى إجازة ذلك أيضاً عن عائشة وأبي سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهم وفي أسانيدها نظر.

وروى معناه عن ابن مسعود وأبي الدرداء وأنس أنهم كانوا يُحدِّثون عن النبي – صلى الله عليه وسلم - ثم يقولون: أو نحو هذا أو شبهه، وكان أنس يقول: أو كما قال.

وهو أيضاً قول عمرو بن دينار، وابن أبي نجيح، وعمرو بن مرة، وجعفر بن محمد، وحماد بن زيد، ويحيى بن سعيد، ويزيد بن هارون، وابن عيينة، وأبي زرعة، وحكى عن أكثر الفقهاء.([7])

فالرواية بالمعنى حاصلة، ولكن يبقى النظر في ضوابطها وفي كونها مطعناً على حجية الصحابة في الرواية كما قد يثار شبهةً أو استشكالاً.

ولقد حرر علماء الحديث شروط الرواية بالمعنى فقال ابن الصلاح رحمه الله: (إذا أراد رواية ما سمعه على معناه دون لفظه فإن لم يكن عارفاً بالألفاظ ومقاصدها، خبيراً بما يحيل معانيها، بصيراً بمقادير التفاوت بينها فلا خلاف أنه لا يجوز له ذلك، وعليه أن لا يروي ما سمعه إلا على اللفظ الذي سمعه من غير تغيير، فأما إذا كان عالماً عارفاً بذلك فهذا مما اختلف فيه السلف وأصحاب الحديث وأرباب الفقه والأصول، فجوزه أكثرهم، ولم يجوزه بعض المحدثين وطائفة من الفقهاء والأصوليين من الشافعيين وغيرهم، ومنعه بعضهم في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجازه في غيره، والأصح جواز ذلك في الجميع إذا كان عالماً بما وصفناه قاطعاً بأنه أدى معنى اللفظ الذي بلغه لأن ذلك هو الذي تشهد به أحوال الصحابة والسلف الأولين).([8])

وعقد الخطيب البغدادي رحمه الله باباً في ذكر الحجة في إجازة رواية الحديث على المعنى([9])، ويمكن تحرير شروط الرواية بالمعنى فيما يلي:

- أن يكون الراوي بالمعنى عالماً بالألفاظ وما يحيل معانيها.

- أن يجزم الراوي بأنه قد أدى المعنى.

- أن لا يكون الحديث من الألفاظ التوقيفية المتعبد بألفاظها كالأذكار ونحوها،  ولا يكون من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم.([10])

ولا يخفى أن أجمع الخلق لهذه الشروط هم الصحابة رضوان الله عليهم،قال ابن الصلاح رحمه الله: (ينبغي لمن روى حديثاً بالمعنى أن يُتبعه بأن يقول: أو كما قال، أو نحو هذا، أو ما أشبه ذلك من الألفاظ، رُوي ذلك من الصحابة عن ابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهم)، قال الخطيب البغدادي: (والصحابة أرباب اللسان وأعلم الخلق بمعاني الكلام، ولم يكونوا يقولون ذلك إلا تخوفاً من الزلل لمعرفتهم بما في الرواية على المعنى من خطر).([11])

وأما بالنسبة لتعدد الروايات في الحديث الواحد فلا تُشكل على مسألتنا في وجهي الجواب؛ وتوضيح ذلك ما يلي:

·   بالنسبة للوجه الأول وهو ورع الصحابة بالتحديث بنفس لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيُحمل تعدد الروايات على تعدد المروي حقيقةً، بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث بهذا اللفظ وبهذا اللفظ، وحفظ كل صحابي رواية من الروايات، وحدَّث بها حرصاً على أداء ما حفظه كما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومسألة تعدد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة الواحدة مرات عديدة لا تحتاج كثيرَ نظرٍ وتأمل أعني من حيث وقوعها، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يعيد الحديث الواحد في المجلس الواحد ثلاث مرات ليحفظه السامع، كما في حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان إذا تكلم كلمةً أعادها ثلاثاً حتى تُفهم، وإذا أتى على قومٍ فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثاً».([12])

ولا يمتنع أن يعيد الحديث ويغير لفظاً أو كلمةً زيادة في البيان حيث إن الصحابة كانوا من قبائل شتى من العرب، وهذا المعنى هنا قريب من تعدد قراءات القرآن الكريم التوقيفية مراعاة لتعدد لغات العرب ولهجاتها، فتأمُّل هذا المعنى الدقيق يزيل كثيراً من اللبس في مسألة تعدد روايات الصحابة في الحديث الواحد والمسألة الواحدة.

·    وأما بالنسبة للوجه الثاني وهو الرواية بالمعنى حقيقةً:

فقد تقدم أن لذلك ضوابط دقيقة وأن أحرى من يقوم بهذه الضوابط هم الصحابة رضوان الله عليهم، فيرتفع الإشكال من هذا الوجه أيضاً والحمد لله.

 

  • المصدر:

كتاب حجية الصحابة في أصول الدين: د. وسيم فتح الله



([1] ) أشار الدكتور نور الدين عتر إلى تفوه بعض المستشرقين بهذه الشبهة في كتابه النفيس منهج  النقد في علوم الحديث. (1/229-230).

([2] ) تقدم تخريج الحديث.

([3] ) صحيح البخاري – كتاب الوضوء – باب فضل من بات على وضوء – حديث: (247).

([4] ) صحيح مسلم – كتاب البيوع- باب فضل إنظار المعسر – حديث: (1560).

([5] ) صحيح مسلم – كتاب الفتن – باب ذكر الدجال– حديث: (2935).

([6] ) صحيح ابن حبان – 4/581.

([7] ) شرح علل الترمذي – ابن رجب – 1/428-429.

([8] ) علوم الحديث – ابن الصلاح – 1/213-214.

([9] ) الكفاية في علوم الرواية – البغدادي – 1/198.

([10] ) منهج النقد في علوم الحديث – د.نور الدين عتر – 1/227.

([11] ) علوم الحديث – ابن الصلاح – 1/215.

([12] ) صحيح البخاري – كتاب العلم – باب من أعاد الحديث ثلاثاً ليفهم عنه – حديث: (95).