المقدمة في وجوب التعريف إلى جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ووجوب الاطلاع على شمائله الشريفة
 

قال الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ...﴾ الآية.

وقال تعالى: ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ..﴾؟!.

إن حقاً على جميع العقلاء المكلفين أن يتعرفوا إلى هذا الرسول الكريم وشمائله الحميدة المجيدة، وذلك لوجوده متعددة:

الوجه الأول: أن الله تعالى أمر العباد أن يؤمنوا بهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقال: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.

والإيمان به صلى الله عليه وسلم يتطلب من العباد أن يعرفوا فضل هذا النبي الكريم، ورفعة مستواه على غيره، وما أسبغ الله تعالى عليه من الكمالات النفسية، وما أدَّبه من الآداب الكريمة الرضية، وما وهبه من الخُلُق العظيم والخَلْق الحسن الكريم، وما أبدع فيه سبحانه من المحاسن، وجمع فيه مجامع الكمالات، فجعل جوهره الكريم عالياً على سائر الأفراد والأجناس، بحيث لا ينقاس بغيره من الناس.

وكيف يقاس بغيره؟ وقد ميّزه الله تعالى بمميِّزات الكمال، وخصَّه بأكرم الخصال، وأعلاه ذروة الخُلُقِ العظيم، وجمله في أحسن صورة وأبدع تقويم، وخصه سبحانه بأنواع الاختصاص: فرباه بعنايته، ورعاه برعايته، فقال سبحانه: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى6/93وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى7/93وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾.

وتولى سبحانه إقراءه وتعليمه، في حين أنه صلى الله عليه وسلم نشأ أُميِّاً، فقال له سبحانه: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ أي: لا بدراستك ولا بثقافتك، وقال: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾ وقال: ﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾.

وإن مقام ﴿يُوحَى إِلَيَّ﴾ المذكور في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾- يلفت الأنظار إلى موضع الاعتبار، في شأن هذا الرسول المختار، ويشير إلى خصائص هذا النبي الكريم، الذي هيَّأه الله تعالى وأهَّله، وأعدَّه وأمدَّه في روحه وجسمه، وعقله وفهمه، وسمعه وبصره، وسائر مداركه وجوارحه، وجوانحه، وأعطاه قابلية الاختصاص لأن يتلقى الوحي بجميع طرق الوحي من رب العالمين.

ومن ثمَّ لما واصل صلى الله عليه وسلم، واصل بعض أصحابه معه، فنهاهم عن الوصال، فقالوا: (نراك تواصل يا رسول الله)؟ فقال: «إني لست مثلكم- وفي رواية: إني لست كهيئتكم- أبيت يطعمني ربي ويسقيني» كما جاء في الصحيحين.

فهو صلى الله عليه وسلم بشر لا كالبشر، كما أن الياقوت حجر لا كالحجر.

الوجه الثاني: أن الله تعالى أمر العباد باتباع النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فجعل سبحانه الدليل الصادق على محبته واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أي: إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة.

وهذا يتطلَّب البحث عن أعماله صلى الله عليه وسلم، وعن أقواله وأحواله، ويتطلَّب إلى سجاياه الكريمة وأخلاقه العظيمة، ليُتأسى به، وليُتَّبَعَ في ذلك اتباعاً كاملاً شاملاً، إلَّا فيما خصَّه الله تعالى به من الأحكام والأحوال.

ومن ثمَّ كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحرصون كل الحرص على تتبُّع أفعاله وأقواله، وأحواله وآدابه وأخلاقه، ليتبعوه في ذلك، بل كانوا يحرصون كل الحرص على تتبُّع عاداته صلى الله عليه وسلم، لأنَّ عادات السادات هي سادات العادات، فكيف بعادات سيد السادات عليه أفضل الصلوات والتسليمات؟!.

قال العلامة السنوسي رحمه الله تعالى في شرح مقدمته: وقد عُلم من دين الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ضرورة اتباعه صلى الله عليه وسلم من غير توقُّفٍ ولا نظر في جميع أقواله وأفعاله، إلا ما قام عليه دليل اختصاصه به صلى الله عليه وسلم، فقد خلعوا نعالهم لما خلع صلى الله عليه وسلم، ونزعوا خواتيمهم الذهبية لما نزع صلى الله عليه وسلم خاتم الذهب، وحسر أبو بكر وعمر في قصة جلوسهما على البئر كما فعل عليه السلام، وكاد يقتل بعضهم بعضاً من شدة الازدحام على الحلاق عندما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يحلق رأسه الشريف؛ وحَلَّ من عمرته في قضية الحديبية- وكان الصحابة يبحثون البحث العظيم عن هيئات جلوسه صلى الله عليه وسلم ونومه، وكيفية أكله وشربه، وغير ذلك ليقتدوا به. بل كانوا يحبون ما يحبه صلى الله عليه وسلم من الطعام ويكرهون ما يكره.

وقد ذكرنا في كتابنا هذا جانباً من جوانب أخلاقه صلى الله عليه وسلم وأدابه وأعماله وأقواله؛ وأذكاره وعباداته؛ ليقتدى به في ذلك صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثالث: أن الله تعالى أوجب على المؤمنين أي يحبوا النبي صلى الله عليه وسلم فوق محبة الأباء والأبناء، والأزواج والعشيرة، والتجارة والأموال، وأوعد من تخلف عن تحقيق ذلك بالعقاب، فقال سبحانه: ﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾.

ولا ريب أن أسباب المحبة ترجع إلى أنواع الجمال والكمال والنوال، كما قرره الإمام الغزالي رضي الله عنه وغيره.

فإذا كان الرجل يُحبُّ لكرمه، أو لشجاعته، أو لحلمه، أو لعلمه، أو لتواضعه، أو لتعبُّدهِ وتقواه، أو لزهده وورعه، أو لكمال عقله، أو وفور فهمه، أو جمال أدبه، أو حسن خلقه، أو فصاحة لسانه، أو حسن معاشرته، أو كثرة برّه وخيره، أو لشفقته ورحمته، أو نحو ذلك من صفات الكمال... فكيف إذا تأصلتْ واجتمعت هذه الصفات الكاملة وغيرها من صفات الكمال، في رجل واحد، وتحقَّقتْ فيه أوصاف الكمال ومحاسن الجمال على أكمل وجوهها، ألا وهو السيد الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي هو مجمع صفات الكمال ومحاسن الخصال، قد أبدع الله تعالى صورته العظيمة، وهيئته الكريمة، وطوى فيه أنواع الحسن والبهاء، بحيث يقول كل من نعته: لم يُرَ قبله ولا بعده مثله.

ولذلك كان من الواجب على المكلف أن يتعرف إلى جمال هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ومحاسنه الخلقية، وكمالاته النفسية والروحية، والقلبية والعقلية والعلمية، وذلك لينال مقام محبته الصادقة، لأنَّ المعرفة هي سبب المحبة، فكلما زادت المعرفة بمحاسن المحبوب، زادت المحبة له.

قال سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما: سألت خالي هند بن أبي هالة- وكان وصّافاً- عن حِلْية النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئاً أتعلق به، فقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخماً مفخماً، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر...» الحديث كما سيأتي.

الوجه الرابع: أن اطلاع الإنسان على أوصافه صلى الله عليه وسلم العظيمة وشمائله الكريمة- ليُعطي صورةً علميةً تنطبع في القلب، وترتسم في المخيلة، كأنه قد رأى محبوبه صلى الله عليه وسلم.

فقد كان صلى الله عليه وسلم يذكر لأصحابه أوصاف الرسل قبله ويقرّب إليهم ذلك بأشباههم، حتى إنهم يصيرون بحالٍ كأنهم قد رأوهم، وذلك أقرب سبيل للتعرف بهم، وأقرب طريق للتحبب فيهم.

جاء في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليلة أسري بي لقيتُ موسى- قال الراوي: فنعته النبي صلى الله عليه وسلم- أي: وَصَفَه- رَجِل الرأس، كأنه من رجال شنوءة، قال: ولقيتُ عيسى- فنعته صلى الله عليه وسلم فقال: - رَبْعَةً أحمرَ، كأنما خرج من ديماس- يعني: الحمام- ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به..» الحديث.

الوجه الخامس: أن في ذكر شمائله صلى الله عليه وسلم وسماع أوصافه ونعوته، تحيا قلوب المحبين، وتطرب أوراحهم وعقولهم، ويزداد حبهم، ويتحرك اشتياقهم.

 

قال العارف الكبير الشيخ أبو مدين رضي الله عنه:

ونحيا بذكراكمْ إذا لم نراكُمُ            *          ألا إن تَذكار الأحبة ينعشنا

فلو لا معانيكم تراها قلوبنا            *           إذا نحن أيقاظ وفي النوم إن غبنا

لمتنا أسىً من بُعدكم وصبابةً          *            ولكنَ في المعنى معانيكم معنا

يحرّكنا ذكر الأحاديث عنكمُ            *        ولولا هواكم في الحشا ما تحرّكنا

 

ويرحم الله القائل:

أخلايَ إن شطَّ الحبيب ورَبْعه          *          وعزَّ تلاقيه وناءتْ منازلهْ

وفاتكمُ أن تنظروه بعينكم            *            فما فاتكم بالسمع هذي شمائله

صلى الله عليه وسلم.

 

  • أهم المصادر والمراجع:

-          سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام (شمائله المحمدية وخصاله المجيدة): الشيخ عبدالله سراج الدين.

-          الشمائل المحمدية: د. مصطفى البغا.