الحديث الحادي والثلاثون: حقيقة الزُّهد وثمَراته
 

عن أبي العبَّاسِ سهلِ بن سعدٍ السَّاعِدِيِّ رضي اللهُ عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللهِ، دُلَّني على عملٍ إذا عملْتُهُ أحبَّني اللهُ وأحبَّني النَّاسُ. فقال: «ازْهدْ في الدُّنيا يُحبَّكَ اللهُ، وازْهدْ فيما عند النَّاس يُحِبَّكَ النَّاسُ» حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة.

 

* أهمية الحديث:

اشتمل هذا الحديث على وصيتين عظيمتين من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم:

الأولى: الزهد في الدنيا وانه سبب في نيل محبة الله تعالى لعبده.

والثانية: في الزهد فيما في أيدي الناس، وأنه سبب في الحصول على محبة الناس وتقديرهم.

ومن المؤكد في الإسلام أن الإنسان لا يكون من السعداء الفائزين في الدارين إلا بعد التحقق من محبة الله له بعد أن آثر ما عنده من الآخرة الباقية على الدنيا الفانية، ومحبة الناس له بعد أن ترفعت نفسه في أيديهم من حطام، وتطلع بعزة وإباء إلى تحصيل الباقيات الصالحات؛ لأنها في الآخرة خير وأبقى. ولذلك يقول ابن حجر الهيتمي عن هذا الحديث: «وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام».

 

* لغة الحديث:

«أحبني الله وأحبني الناس» أحبني الله: بإرادة الثواب والإحسان. وأحبني الناس: مالوا إلي ميلاً طبيعاً؛ لأن محبتهم تابعة لمحبة الله، فإذا أحبه الله ألقى محبته في قلوب خلقه، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ [مريم:96].

«ازهد»: من الزهد، وهو لغة: الإعراض عن الشيء احتقاراً له، من قولهم: شيء زهيد؛ أي قليل. وشرعاً: أخذ قدر الضرورة من الحلال المتيقن الحل.

«في الدنيا»: باستصغار شأنها واحتقارها؛ لتصغير الله لها وتحقيره لها وتحذيره من الاغترار بها، قال تعالى: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [لقمان:23] وقال سبحانه: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ [الحديد:20].

«يحبَّك الله»: بفتح الباء المشددة، وأصله يحببك بالجزم في جواب الأمر، فلما أريد الإدغام نقلت كسرة الباء الأولى إلى الحاء وفتحت الثانية تخلصاً من الساكنين وتخفيفاً. ومحبة الله للعبد رضاه عنه وإحسانه إليه؛ لأن المحبة ميل طبيعي؛ وهو في حق الله محال، فالمراد غايتها.

 

* فقه الحديث وما يرشد إليه:

1- معنى الزهد: تنوعت عبارات السلف والعلماء الذين جاؤوا بعدهم في تفسير الزهد في الدنيا؛ وكلها ترجع إلى ما رواه الإمام أحمد عن أبي إدريس الخولاني رضي الله عنه أنه قال: «ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، إنما الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك، وإذا أصبت مصيبة كنت أشد رجاء لأجرها وذخرها من إياها لو بقيت لك».

وفي هذا القول الزهد بثلاثة أمور كلها من أعمال القلوب لا من أعمال الجوارح، ولذلك كان أبوسليمان الداراني يقول: لا تشهد لأحد بالزهد، فإن الزهد في القلب. وهذه الأمور الثلاثة هي:

1ً- أن يكون العبد بما في يد الله أوثق منه بما في يده نفسه. وهذا ينشأ من صحة اليقين، والوثوق بما ضمنه الله تعالى من أرزاق عباده، قال الله تعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا﴾ [هود:6] وقال سبحانه: ﴿وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: 22].

2ً- أن يكون العبد إذا أصيب بمصيبة في دنياه؛ كذهاب مالٍ أو ولد، أرغب في ثواب ذلك مما ذهب منه من الدنيا أن يبقى له. وينشأ هذا أيضاً من كمال اليقين، ويدل على الزهد في الدنيا وقلة الرغبة فيها.

روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوّن علينا مصائب الدنيا».

3ً- أن يستوي عند العبد حامده وذامه في الحق. وهذا من علامات الزهد في الدنيا واحتقارها وقلة الرغبة فيها، قال ابن مسعود رضي الله عنه: اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله.

ومن العبارات التي وردت في تفسير الزهد قول الحسن البصري: الزاهد الذي إذا رأى أحداً قال هو أفضل مني.

وقول وهب بن الورد رحمه الله: الزهد في الدنيا أن لا تأس على ما فات منها، ولا تفرح بما أتاك منها.

وقول الزهري عندما سئل عن الزهد فقال: من لم يغلب الحرام صبره ولم يشغل الحلال شكره.

وقال سفيان بن عيينة: الزاهد في الدنيا إذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر.

وقول ربيعة: رأس الزهادة جمع الأشياء بحقها ووضعها في حقها.

وقول سفيان الثوري: الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغيظ ولا بلبس العباء.

وقول الإمام أحمد: الزهد في الدنيا قصر الأمل واليأس مما في أيدي الناس.

2- أقسام الزهد: قسم بعض السلف الزهد إلى ثلاثة أقسام:

1ً- الزهد في الشرك وفي عبادة ما عبد من دون الله.

2ً- الزهد في الحرام كله من المعاصي.

3ً- الزهد في الحلال.

والقسمان الأول والثاني من هذا الزهد كلاهما واجب، والقسم الثالث ليس بواجب.

وقال ابن المبارك: قال معلى بن مطيع: الزهد على ثلاثة وجوه:

أحدها: أن يخلص العمل لله عز وجل والقول، ولا يراد بشيء منه الدنيا.

والثاني: ترك ما لا يصلح والعمل بما يصلح.

والثالث: الحلال أن يزهد فيه، وهو التطوع، وهو أدناها.

وقال إبراهيم بن أدهم: الزهد ثلاثة أصناف: فزهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة:

فأما الزهد الفرض: فالزهد في الحرام، والزهد الفضل: الزهد في الحلال، والزهد السلامة: الزهد في الشبهات.

وروي عن الإمام أحمد أن الزهد ثلاثة وجوه:

الأول: ترك الحرام، وهو زهد العوام.

والثاني: ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص.

والثالث: ترك ما يشغل عن الله، وهو زهد العارفين.

3- الحامل على الزهد: والذي يحمل الإنسان على الزهد أمور منها:

1ً- استحضار الآخرة، ووقوفه بين يدي خالقه في يوم الحساب والجزاء، فحينئذ يغلب شيطانه وهواه، ويصرف نفسه عن لذائذ الدنيا ومتعها الفانية، ودليل هذا أن حارثة رضي الله عنه لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أصبحت مؤمناً حقاً، قال له: «إن لكل مؤمن حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: صرفت نفسي عن الدنيا، فاستوى عندي حجرها ومدرها، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون، وإلى أهل النار في النار يعذبون. قال: يا حارثة، عرفت فالزم».

2ً- استحضار أن لذات الدنيا شاغلة للقلوب عن الله تعالى، ومنقصة للدرجات عنده، وموجبة لطول الحبس والوقوف في ذلك اليوم العصيب، ليسأل عن شكر نعيمها؛ قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [التكاثر:8].

3ً- كثرة التعب والذل في تحصيل الدنيا، وكثرة غبونها، وسرعة تقلبها وفنائها، ومزاحمة الأراذل في طلبها، وحقارتها عند الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء».

4ً- استحضار أن الدنيا ملعونة، كما في الحديث الحسن الذي رواه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه «الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله تعالى وما والاه، أو عالم أو متعلم» وفي رواية: «إلا ما ابتغي به وجه الله تعالى». أي أنها وما فيها مبعد عن الله تعالى إلا العلم النافع الدال على معرفته وطلب ربه، وذكر الله وما والاه مما يقرب إليه تعالى.

4- تحقير شأن الدنيا والتحذير من غرورها: والزاهد في الدنيا يزيد موقفه صلابة وقوة عندما يتلو آيات ربه عز وجل، ويقرأ أحاديث نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فيجد فيها تحقير شأن الدنيا والتحذير من غرورها وخداعها؛ قال الله تعالى ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا16/87وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى:16- 17]. وقال سبحانه: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى﴾ [النساء:77] وقال عز وجل: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [لقمان:33]وقال: ﴿وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ﴾ [الرعد:26]. وروى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس كنفيه، فمرَّ بجدي أسك ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه، فقال: أيكم يحب هذا له بدرهم، فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حياً لما رغبنا فيه لأنه أسك، فكيف وهو ميتٌ؟ فقال: والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم». وروى مسلم أيضاً عن المستورد الفهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما يرجع». [أسك: مقطوع الأذنين من أصلهما].

5- الذم الوارد للدنيا ليس للزمان ولا للمكان: وهذا الذم الوارد في القرآن الكريم والسنة النبوية للدنيا، لا يرجع إلى زمانها الذي هو الليل والنهار المتعاقبان إلى يوم القيامة؛ فإن الله جعلهما خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.

ولا يرجع الذم للدنيا إلى مكانها الذي هو الأرض التي جعلها الله مهاداً ومسكناً، ولا إلى ما أنبته فيها من الزرع والشجر ولا إلى ما بث فيها من المخلوقات، فإن ذلك كله من نعم الله على عباده، ولهم في هذه النعم المنافع والفوائد، والاستدلال بها على قدرة الله عز وجل ووجوده.

بل الذم الوارد يرجع إلى أفعال الناس الواقعة في هذه الحياة الدنيا، لأن غالبها مخالف لما جاء به الرسل، ومضر لا تنفع عاقبته، قال الله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا﴾ [الحديد:20].

قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى: وانقسم بنو آدم في الدنيا إلى قسمين:

أحدهما: من أنكر أن يكون للعباد دار بعد الدنيا للثواب والعقاب، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: َ﴿إنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ7/10أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [يونس:7]. وهؤلاء همهم التمتع في الدنيا واغتنام لذاتها قبل الموت، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ﴾ [محمد:12]. ومن هؤلاء من كان يأمر بالزهد في الدنيا؛ لأنه يرى أن الاستكثار منها موجب الهم والغم، ويقول: كلما كثر التعلق بها تألمت النفس بمفارقتها عند الموت، فكان هذا غاية زهدهم في الدنيا.

والقسم الثاني: من يقر بدار بعد الموت للثواب والعقاب، وهم المنتسبون إلى شرائع المرسلين. وهم منقسمون إلى ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات بإذن الله.

فالأول: وهم الأكثرون، الذين وقفوا مع زهرة الدنيا بأخذها من غير وجهها واستعمالها في غير وجهها، فصارت أكبر همهم، وهؤلاء هم أهل اللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر، وكل هؤلاء لم يعرف المقصود منها، ولا أنها منزل سفر يتزود منها إلى دار الإقامة، وإن آمن به مجملاً.

والثاني: أخذها من وجهها، لكنه توسع في مباحاتها، وتلذذ بشهواتها المباحة، وهو وإن لم يعاقب عليها، لكنه ينقص من درجاته في الآخرة بقدر توسعه في الدنيا، وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «لا يصيب أحد من الدنيا شيئاً إلا نقص من درجاته في الآخرة عند الله وإن كان عليه كريماً» وروى الترمذي عن قتادة ابن النعمان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله إذا أحب عبداً حماه من الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه من الماء». ورواه الحاكم بلفظ «إن الله ليحمي عبده من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه».

وروى مسلم عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر».

والثالث: هم الذين فهموا المراد من الدنيا، وأن الله سبحانه إنما أسكن عباده فيها وأظهر لهم لذاتها ونضرتها؛ ليبلوهم أيهم أحسن عملاً في غير آية، قال بعض السلف: يعني من هو زاهد في الدنيا وراغب في الآخرة، ولما  بين تعالى أنه جعل ما على الأرض زينة لها ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، بين انقطاع ذلك ونفاده بقوله:﴿إِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾ [الكهف:8] فمن فهم أن هذا هو مآلها جعل همه التزود منها لدار القرار، واكتفى من الدنيا بما يكتفي به المسافر في سفره؛ كما كان صلى الله عليه وسلم يقول: «ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها». ثم من أهل هذا القسم من اقتصر من الدنيا على سد رمقه فقط، وهو حال كثير من الزهاد، ومنهم من فسح لنفسه أحياناً في تناول بعض مباحاتها؛ لتقوى النفس به وتنشط العمل، فقد روى أحمد والنسائي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حُبب إليَّ من دنياكم النساء والطيب» وروى أحمد عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يحب من الدنيا النساء والطيب والطعام، فأصاب من النساء والطيب، ولم يُصب من الطعام. وتناول الشهوات المباحة بقصد التقوي على الطاعة يصيرها طاعات فلا تكون من الدنيا. وروى الحاكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لأخرته حتى يرضي ربه، وبئست الدار لمن صدت به عن آخرته وقصرت به عن رضا ربه».

6- كيف نكتسب محبة الله تعالى: نستطيع أن نكتسب محبة الله تعالى بالزهد في الدنيا؛ لأنه سبحانه وتعالى يحب من أطاعه، ومحبته مع محبة الدنيا مما لا يجتمع كما دلت عليه النصوص والتجربة والتواتر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «حب الدنيا رأس كل خطيئة» والله لا يحب الخطايا ولا أهلها، ولأنها لهو ولعب، والله لا يحبهما، ولأن القلب بيت الرب لا شريك له فلا يحب أن يشركه في بيته حب دنيا ولا غيره، ومحبتها الممنوعة هي إيثارها لنيل الشهوات واللذات وكل ما يشغل عن الله تعالى. أما محبتها لفعل الخير والتقرب به إلى الله فهو محمود، لحديث «نعم المال الصالح للرجل الصالح يصل به رحماً، ويصنع به معروفاً» رواه الإمام أحمد.

7- كيف نكتسب محبة الناس: ويعلمنا الحديث كيف ننال محبة الناس، وذلك بالزهد فيما في أيديهم؛ لأنهم إذا تركنا لهم ما أحبوه أحبونا، وقلوب أكثرهم مجبولة مطبوعة على حب الدنيا، ومن نازع إنساناً في محبوبه كرهه وقلاه، ومن لم يعارضه فيه أحبه واصطفاه. قال الحسن البصري: لا يزال الرجل كريماً على الناس ما لم يطمع فيما في أيديهم، فحينئذ يستخفون به ويكرهون حديثه ويبغضونه. وقال أعرابي لأهل البصرة: من سيدكم؟ قالوا الحسن. قال: بم سادكم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دنياكم. فقال: ما أحسن هذا.

وأحق الناس باكتساب هذه الخلة الحكام والعلماء؛ لأن الحكام إذا زهدوا أحبهم الناس واتبعوا نهجهم وزهدهم، وإذا زهد العلماء أحبهم الناس واحترموا أقوالهم وأطاعوا ما يعظون به وما يرشدون إليه، سأل ابن سلام كعباً بحضرة عمر رضي الله عنهم: ما يذهب العلم من قلوب بعد أن عقلوه وحفظوه؟ قال: يذهبه الطمع وشره النفس وتطلب الحاجات إلى الناس. قال: صدقت.

8- زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وزهد أصحابه الكرام: وإذا كنا نبحث عن القدوة في حياة الزاهدين، فإننا نجد ذلك متمثلاً في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم عملاً وسلوكاً، بعد أن وجدناه نصائح لأمته وأقوالاً، وقد كانت أقواله وأعماله صلى اله عليه وسلم في تفضيل نعيم الآخرة ثمرة تربية إلهية رباه الله عز وجل بها؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: 131] فعاش النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة وبعدها، وفي أيام الشدة والرخاء زاهداً في متاع الدنيا، طالباً للآخرة، جاداً في العبادة. وقد تأسى به أصحابه الكرام؛ فكانوا سادة الزهاد وأسوة للزاهدين، سمع ابن عمر رجلاً يقول: أين الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة؟ فأراه قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. فقال: عن هؤلاء تسأل. وقال ابن مسعود رضي الله عنه لأصحابه: أنتم أكثر صلاة وصوماً وجهاداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيراً منكم. قالوا: وكيف ذلك؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغبكم في الآخرة. لقد جاءتهم الدنيا بالأموال الحلال فأمسكوها تقرباً لله تعالى وأنفقوها في خدمة دينه وإعلاء كلمته. قال أبو سليمان: كان عثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما خزانتين من خزائن في أرضه، ينفقان في طاعته، وكانت معاملتهما لله بقلوبهما وعلومهما.

9- الزهد الأعجمي: إن الزهد بمعناه الإسلامي هو ما بيناه في الفقرات السابقة، أما الزهد الأعجمي فهو الإعراض الكامل عن نعم الله والتحقير لها، والحرمان من الاستمتاع بشيء منها، وقد تأثر بعض المسلمين بهذا المفهوم الأعجمي للزهد، فأصبحنا نجد أناساً في عصر ضعف الدولة العباسية وما بعده، يلبسون المرقعات ويقعدون عن العمل والكسب، ويعيشون على الإحسان والصدقات ويدعون أنهم زاهدون.

مع أن روح الإسلام تأبى هذه السلبية القاتلة، وترفض هذا العجز المميت، وتنكر هذا الذل والتواكل.

والمسلمون اليوم أصحاء من مثل هذه العقلية المريضة، يندفعون إلى العمل والكسب الحلال، ويتناسبون في تحصيل الربح وعمار الأرض، حتى أصبحنا نخاف على أنفسنا الغفلة عن الآخرة، ونبحث عن المهدئات التي تذكرنا بالله تعالى وتدعونا إلى الزهد في الدنيا، فتخفف من الاندفاع، وتمنع التعثر والسقوط في حبائل الشيطان والاغترار بمتاع الدنيا وشهواتها العارمة.

* * *

 

* أهم المصادر والمراجع:

- الوافي في شرح الأربعين النووية: د. مصطفى البغا / محي الدين مستو.

- الرياض الندية في شرح الأربعين النووية: الإمام ابن دقيق العيد / العثيمين / الإمام النووي.

- الجواهر اللؤلؤية في شرح الأربعين النووية: محمد عبدالله الجرداني.

- شرح الأربعين النووية: الإمام النووي.