دع ما يَريبك إلى ما لا يريبكَ
 

عن الحسن بن على رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«دع ما يَريبك إلى ما لا يريبكَ، فإن الصدق طمأنينة وإنَّ الكذبَ ريبةٌ». رواه الترمذي وأحمد وابن حبان بسند صحيح

فكن أخا الإسلام:

من المنفذين للمراد من هذه الوصية العظيمة التي نفذها- إن شاء الله- فإننا سنكون قد تجنبنا أهم أسباب الوقوع في شباك الحرام الذي هو المحظور الذي ورد دليل من الشرع يحرمه (وأما) الحلال. فهو عند الجمهور من الفقهاء: المباح الذي لم يرد من الشرع .. وقد ورد:

* (عن) النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الحلال بَيِّنٌ، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حِمَى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كُلُّه، وإذا فسدت، فسد الجسد كُلُّه، ألا وهي القلب». رواه البخاري ومسلم.

* * (فهذا) الحديث: تُبنى عليه أحكام كُلُّها، (فقد) قَسَّم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الأحكام إلى حلال بيِّن، بينته الشريعة في نصوصها، وحرام بيٍّن بينته الشريعة كذلك. وإلى أمور أخرى تشتبه على كثير من الناس حكم الله فيها، وهي من المتشبهات التي ينبغي على المسلم الورع اتقاؤها، صيانة لدينه وعرضه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم مدار صحة الأديان والأبدان على صلاح القلب، وسلامته من الآفات.

* قال النووي في شرح مسلم: أجمع العلماء على عظم وقع هذا الحديث، وكثرة فوائده، وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام  ا.هـ.

* * (هذا)، ولما كان موضوع اتقاء الشبهات هو موضوع الحديث الذي ندور حوله.

* (فإنه) حسبنا أن نفهم المعنى المراد من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس..».

* (فإن) المعنى هو ما قاله الإمام النووي في شرح الأربعين النووية: أي بين الحلال والحرام أمور مشتبهة بالحلال والحرام فحيث انتفت الشبهة انتفت الكراهية.. وكان السؤال عنه بدعة..(وذلك) إذا قدم غريب بمتاع يبيعه، فلا البحث عن ذلك (بل) ولا يستحب، ويكره السؤال عنه.

* * (ثم يقول) وقوله صلى الله عليه وسلم: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» أي طلب براءة دينه، وسلم من الشبهة.. (وأما) براءة العرض، فإنه إذا لم يتركها تطاول إليه السفهاء بالغيبة ونسبوه إلى أكل الحرام، فيكون مَدْعاة لوقوعهم في الإثم (وقد) ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يَقِفَّن مواقف التُّهم»

* (وعن) علي رضي الله عنه قال (إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره، فرُبّ سامع نُكْراً لا تستطيع أن تُسمعه عذرا).

* (وفي) صحيح الترمذي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إذا أحدث أحدكم في الصلاة فليأخذ بأنفه ثم لينصرف»، (وذلك) لئلا يقال عنه أحدث.

* (ثم يقول): وقوله عليه الصلاة والسلام: «فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام»: يحتمل أمرين: أحدهما: أن يقع في الحرام وهو يظن أنه ليس بحرام، والثاني: أن يكون المعنى قد قارب أن يقع في الحرام، كما يقال: (المعاصي بريد الكفر)، لأن النفس إذا وقعت في المخالفة تدرجت من مفسدة إلى أخرى أكبر منها. (قيل): وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ [آل عمران:112]: يريد أنهم تدرجوا بالمعاصي إلى قتل الأنبياء.

(وفي) الحديث: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقُطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده»: أي يتدرج من البيضة والحبل إلى نصاب السرقة...

(ثم) يقول: والحِمَى ما يحميه الغير من الحشيش في الأرض المباحة، فمن رعى حول الحمى يقرب أن تقع فيه ماشيته، فيرعى فيما حماه الغير (بخلاف) ما إذا رعت إبله بعيداً عن الحمى. (ثم) يقول: واعلم أن كل مُحَرَّم له حمى يحيط به، فالفَرْج محَّرم وحماه الفخذان، لأنهما جعلاً حريماً للمحرم (وكذلك) الخلوة بالأجنبية حمى للمُحَرَّم. (فيجب) على الشخص أن يجتنب الحرم والمحرم (فالمحرم) حرام لعينه (والحرم) محرم. لأنه يندرج به إلى المحرم.

(ولهذا) فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في نص الوصية التي تدور حولها.

«دع ما يَرِيبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة»: أي: اترك ما تشك في كونه حسناً أو قبيحاً، أو حلالاً أو حراماً، قولاً أو فعلاً إلى ما تتيقن حله وحسنه، فإن الصدق في كل شيءٍ تطمئن له النفس ويسكن له القلب، والكذب يقلق ويضطرب منه القلب.

(وقد) أشار صاحب كتاب (الفقه الواضح) ج1 ص25 وما بعدها إلى ملاحظات هامة تتعلق بهذا الموضوع، تحت عنوان:

المتشابه ودرجاته:

(حيث) يقول: المتشابه: ما اختلف في حله لسبب من الأسباب المنصوص عليها في كتب الفقه المطولة، كتعارض الأدلة، وذلك كأن يكون في المسألة دليل يفيد الحل، ودليل يفيد الحرمة، والدليلان متساويان في الصحة، أعني ليس دليل أرجح من دليل، فتظل المسألة وسطاً بين الحِلِّ والتحريم. (فحينئذ) يكون ترك هذا المتشابه مطلوب شرعاً، وقاية للدين، وحماية للعرض، كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه».

(ثم) يقول: غير أن المتشابه على درجات..

(فقد) يكون قريباً من الحلال، إذا دعت الضرورة إليه، واطمأن القلب لفعله.

(وقد) يكون قريباً من الحرام، إذا لم تكن هناك ضرورة إليه، وحدث في الصدر شيءٌ منه.

(ثم) يقول: وليست الضرورة هنا من قبيل الضرورات التي تبيح المحظورات، وإلا لما كان في فعل المتشابه إثم، ولا كراهة. (فقد) قال الله عز وجل في سورة البقرة:

* ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة:173].

(وإنما) هي للضرورة غير الملجئة، فلا يغيب عن ذهنك هذا.

* (ثم) يقول: فإن لم يكن المتشابه قربياً من الحلال، أو قريباً من الحرام كان وسطاً بينهما، وهو ما كثر فيه الخلاف، وعجز المرء عن الميل إلى من الآراء المتضاربة، ولم يجد في قلبه اطمئناناً لقول قائل، أو فتوى مفتى ولم تقم ضرورة ترجح فعله، أو تركه.

(يقول): وعلى كل حال فإتيان المتشابه مكروه شرعاً..

(ثم) يقول تحت عنوان:

درجات الورعين:

(ذكر) الإمام الغزالي في الجزء الثاني من كتاب (إحياء علوم الدين): أن درجات الورعين أربعة:

* الدرجة الأولى: درجة العدول، وهم الذين يتركون المحرمات كلها، ويقتصرون على المباحات.

* الدرجة الثانية: درجة الصالحين، وهم الذين يتركون المتشابهات، خزفاً من الوقوع في المحرمات.

* الدرجة الثالثة: درجة المتقين، وهم الذين يتركون الجائزات، خوفاً من أن تؤدي بهم إلى ارتكاب شيءٍ من المحرمات.

* (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبلغ العبد درجة المتقين، حتى يدع ما لا بأس به، مخافة مما به بأس». رواه ابن ماجه.

* (وروى) أن أبا بكر رضي الله عنه قال: (كنا نترك سبعين باباً من الحلال، مخافة أن نقع في باب واحد من الحرام).

والمعنى: كنا ولا زلنا، مثل قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [النساء:96].

* الدرجة الرابعة: درجة الصديقين المقربين، وهم الذين يكتفون من دنياهم بما يسد الرمق، ويستر العورة، ويجعلون الآخرة مبلغ همهم، ومنتهى بغيتهم.

(فلاحظ) كل هذا أخا الإسلام، ونفذ المراد منه.. استبراءً لدينك وعرضك وأرجو إن شاء الله تعالى أن تحرص على أن تكون من أهل الورع.. ومن أي درجة من الدرجات الأربعة... ويوم أن يوفقك الله تعالى فتكون من أهل الدرجة الثالثة أو الرابعة فإنك بهذا إن شاء الله تعالى ستفوز فوراً عظيماً..

والله ولي التوفيق.

 

  • المصدر:

الوصايا النبوية: طه العفيفي.