النوع الرابع والعشرون: معرفة كيفية سماع الحديث وتحمله وصفة ضبطه
 

اعلم: أن طرق نقل الحديث وتحمله على أنواع متعددة، ولنقدم على بيانها بيانَ أمور:

أحدها: يصح التحمل قبل وجود الأهلية، فتقبل رواية من تحمل قبل الإسلام وروى بعده. وكذلك رواية من سمع قبل البلوغ وروى بعده.

ومع من ذلك قوم فأخطؤوا لأن الناس قبلوا رواية أحداث الصحابة كالحسن ابن علي، وابن عباس، وابن الزبير، والنعمان بن بشير، وأشباههم، من غير فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ وما بعده. ولم يزالوا قديماً وحديثاً يحضرون الصبيان مجالس التحديث والسماع، ويعتدون بروايتهم لذلك، والله أعلم.

الثاني: قال أبو عبد الله الزبيري: يستحب كتب الحديث في العشرين، لأنها مجتمع العقل. قال: وأحب أن يشتغل دونها بحفظ القرآن والفرائض. وورد سفيان الثوري قال: كان الرجل إذا أراد أن يطلب الحديث تعبد قبل ذلك عشرين سنة.

وقيل لموسى بن إسحاق: كيف لم تكتب عن أبي نعيم؟ فقال: كان أهل الكوفة لا يخرجون أولادهم في طلب الحديث صغاراً حتى يستكملوا عشرين سنة. وقال موسى بن هرون: أهل البصرة يكتبون لعشر سنين. وأهل الكوفة لعشرين، وأهل الشام لثلاثين، والله أعلم.

قلت: وينبغي بعد أن صار الملحوظ إبقاء سلسلة الإسناد أن يبكر بإسماع الصغير في أول زمان يصح فيه سماعه. وأما الاشتغال بكتبه الحديث، وتحصيله، وضبطه. وتقييده، فمن حين يتأهل لذلك ويستعد له. وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، وليس منحصراً في سن مخصوص، كما سبق ذكره آنفاً عن قوم، والله أعلم.

الثالث: اختلفوا في أول زمان يصح فيه سماع الصغير.

فروينا عن موسى بن هرون الحمال- أحد الحفاظ النقاد- أنه سئل: متى يسمع الصبي الحديث؟ فقال: إذا فرق بين البقرة والدابة، وفي رواية: بين البقرة والحمار.

وعن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه سئل: متى يجوز سماع الصبي الحديث؟ فقال: إذا عقل وضبط. فذكر له عن رجل أنه قال: لا يجوز سماعه حتى يكون له خمس عشرة سنة. فأنكر قوله وقال: بئس القول.

وأخبرني الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله الأسدي، عن أبي محمد عبد الله بن محمد الأشيري، عن القاضي الحافظ عياض بن موسى السبتي اليحصبي قال: قد حدد أهل الصنعة في ذلك أن أقله سن محمود بن الربيع. وذكر البخاري في صحيحه بعد أن ترجم [متى يصح سماع الصغير] بإسناده عن محمود بن الربيع، قال: عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين، من دلو. وفي رواية أخرى: أنه كان ابن أربع سنين.

قلت: التحديد بخمس هو الذي استقر عليه عمل أهل الحديث المتأخرين، فيكتبون لابن خمس فصاعداً [سمع] ولمن لم يبلغ خمساً [حضر، أو: أحضر] والذي ينبغي في ذلك: أن يعتبر في كل صغير حاله على الخصوص، فإن وجدناه مرتفعاً عن حال من لا يعقل فهماً للخطاب ورداً للجواب ونحو ذلك صححنا سماعه، وإن كان دون خمس. وإن لم يكن كذلك لم نصحح سماعه، وإن كان ابن خمس، بل ابن خمسين.

وقد بلغنا عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: رأيت صبياً ابن أربع سنين، وقد حمل إلى المأمون، قد قرأ القرآن، ونظر في الرأي، غير أنه إذا جاع يبكي.

وعن القاضي أبي محمد عبد الله بن محمد الأصبهاني قال: حفظت القرآن ولي خمس سنين. وحملت إلى أبي بكر بن المقرئ لأسمع منه ولي أربع سنين. فقال بعض الحاضرين: لا تُسَمِّعوا له فيما قرئ، فإنه صغير. فقال لي ابن المقرئ: اقرأ سورة الكافرين، فقرأتها، فقال: اقرأ سورة الكوثر، فقرأتها، فقال لي غيره: اقرأ سورة والمرسلات، فقرأتها ولم أغلط فيها. فقال ابن المقرئ: سمّعوا له والعهدة عليّ.

وأما حديث محمود بن الربيع: فيدل على صحة ذلك من ابن خمس مثل محمود، ولا يدل على اتنفاء الصحة فيمن لم يكن ابن خمس ولا على الصحة فيمن كان ابن خمس ولم يميز تمييز محمود، رضي الله عنه، والله أعلم.

بيان أقسام طرق نقل الحديث وتحمله

ومجامعها ثمانية أقسام:

القسم الأول: السماع من لفظ الشيخ:

وهو ينقسم إلى: إملاء، وتحديث إملاء، وسواء كان من حفظه أو من كتابه.

وهذا القسم أرفع الأقسام عند الجماهير. وفيما نرويه عن القاضي بن موسى السبتي- أحد المتأخرين المطلعين- قوله: لا خلاف أنه يجوز في هذا أن يقول السامع منه [حدثنا، وأخبرنا. وأنبأنا، وسمعت فلاناً يقول، وقال لنا فلان، وذكر لنا فلان].

قلت: في هذا نظر. وينبغي فيما شاع استعماله من هذه الألفاظ مخصوصاً بما سُمع من غير لفظ الشيخ- على ما نبينه إن شاء الله تعالى- أن لا يُطْلًق فيما سمع من لفظ الشيخ. لما فيه من الإبهام والإلباس، والله أعلم.

وذكر الحافظ أبو بكر الخطيب: أن أرفع العبارات في ذلك [سمعت] ثم [حدثنا وحدثني] فإنه لا يكاد أحد يقول [سمعت] في أحاديث الإجازة والمكاتبة، ولا في تدليس ما لم يسمعه. وكان بعض أهل العلم يقول فيما أجيز له [حدثنا]. وروي عن الحسن أنه كان يقول [حدثنا أبو هريرة] ويتأول أنه حدث أهل المدينة، وكان الحسن إذ ذاك بها، إلا أنه لم يسمع منه شيئاً.

قلت: ومنهم من أثبت له سماعاً من أبي هريرة، والله أعلم.

ثم يتلو ذلك قول [أخبرنا] وهو كثير في الاستعمال، حتى إن جماعة من أهل العلم كانوا لا يكادون يخبرون عما سمعوه من لفظ من حدثهم إلا بقولهم [أخبرنا]. منهم حماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، وهشيم بن بشير، وعبد الله بن موسى، وعبد الرزاق بن همام، ويزيد بن هارون، وعمرو بن عون، ويحيى بن يحيى التميمي، وإسحق بن راهويه، وأبو مسعود أحمد بن الفرات، ومحمد بن أيوب الرازيان، وغيرهم.

وذكر الخطيب عن محمد بن رافع قال: كان عبد الرزاق يقول [أخبرنا] حتى قدم أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه، فقالا له: قل [حدثنا] فكل ما سمعت مع هؤلاء قال: حدثنا، وما كان قبل ذلك قال: أخبرنا.

وعن محمد بن أبي الفوارس الحافظ قال: هشيم، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق. لا يقولون إلا [أخبرنا] فإذا رأيت

[حدثنا] فهو من خطأ الكاتب، والله أعلم.

قلت: وكان هذا كله قبل أن يشيع تخصيص [أخبرنا] بما قرئ على الشيخ، ثم يتلو قول [أخبرنا] قول [أنبأنا] [نبأنا] وهو قليل في الاستعمال.

قلت: [حدثنا، وأخبرنا] أرفع من [سمعت] من جهة أخرى، وهي أنه ليس في [سمعت] دلالة على أن الشيخ رواه الحديث وخاطبه، وفي [حدثنا،  وأخبرنا] دلالة على أنه خاطبه به ورواه له، أو هو ممن فُعل به ذلك.

سأل الخطيب أبو بكر الحافظ شيخه أبا بكر البرقاني الفقيه- رحمهما الله تعالى- عن السر في كونه يقول فيما رواه لهم عن أبي القاسم عبد الله بن إبراهيم الجرجاني الآبندوني [سمعت] ولا يقول [حدثنا، ولا أخبرنا] فذكر له: أن أبا القاسم كان مع ثقته وصلاحه عسيراً في الرواية فكان البرقاني يجلس بحيث لا يراه أبو القاسم ولا يعلم بحضوره، فيسمع منه ما يحدث به الشخص الداخل إليه. فلذلك يقول [سمعت] ولا يقول [حدثنا، ولا أخبرنا] لأن قصده كان الرواية للداخل إليه وحده.

وأما قوله [قال لنا فلان، أو: ذكر لنا فلان] فهو من قبيل قوله [حدثنا فلان] غير أنه لائق بما سمعه منه في المذاكرة، وهو به أشبه من [حدثنا].

وقد حكينا في فصل التعليق- عقيب النوع الحادي عشر- عن كثير من المحدثين استعمال ذلك معبرين به عما جرى بينهم في المذاكرات والمناظرات.

وأوضح العبارات في ذلك أن يقول [قال فلان، أو: ذكر فلان] من غير ذكر قوله [لي ولنا] ونحو ذلك. وقد قدمنا في فصل الإسناد المعنعن أن ذلك وما أشبهه من الألفاظ محمول عندهم على السماع، إذا عرف لقاؤه له وسماعه منه على الجملة. ولا سيما إذا عرف من حاله أنه لا يقول [قال فلان] إلا فيما سمعه منه.

وكان كان حجاج بن محمد الأحور يروي عن ابن جريج كتبه، ويقول فيهما [قال ابن جريج] فحملها الناس عنه،

 واحتجوا برواياته، وكان قد عرف من حاله أنه لا يروي إلا ما سمعه.

وقد خصص الخطيب أبو بكر الحافظ القول بحمل ذلك على السماع بمن عرف من عادته مثل ذلك، والمحفوظ المعروف ما قدمنا ذكره. والله أعلم.

القسم الثاني من أقسام الأخذ والتحمل: القراءة على الشيخ:

وأكثر المحدثين يسمونها [عرضاً] من حيث إن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرؤه كما يعرض القرآن على المقرئ.

وسواء كنت أنت القارئ، أو قرأ غيرك وأنت تسمع، أو قرأت من كتاب أو من حفظك. أو كان الشيخ يحفظ ما يقرأ عليه، أو لا يحفظ لكن يمسك أصله هو أو ثقة غيره.

ولا خلاف أنها رواية صحيحة، إلا ما حكي عن بعض من لا يعتد بخلافه. والله أعلم.

واختلفوا في أنها: مثل السماع من لفظ الشيخ في المرتبة أو دونه أو فوقه؟ فنقل عن أبي حنيفة وابن أبي ذئب وغيرهما: ترجيح القراءة على الشيخ على السماع من لفظه. وروي ذلك عن مالك أيضاً.

وروي عن مالك وغيره: أنهما سواء. وقد قيل: إن التسوية بينهما مذهب معظم علماء الحجاز والكوفة، ومذهب مالك وأصحابه وأشياخه من علماء المدينة، ومذهب البخاري وغيرهم. والصحيح: ترجيح السماع من لفظ الشيخ، والحكم بأن القراءة عليه مرتبة وقد قيل: إن هذا مذهب جمهور أهل المشرق، والله أعلم.

وأما العبارة عنها عند الرواية بها فهي على مراتب: أجودها وأسلمها أن يقول [قرأت على فلان. أو قرئ على فلان وأنا أسمع، فأقر به] فهذا شائع من غير إشكال.

ويتلو ذلك ما يجوز من العبارات في السماع من لفظ الشيخ مطلقة، إذا أتى بها هنا مقيدة، بأن يقول [حدثنا فلان قراءة عليه، أو أخبرنا قراءة عليه] ونحو ذلك. وكذلك [أنشدنا قراءة عليه] في الشعر.

وأما إطلاق [حدثنا، وأخبرنا] في القراءة على الشيخ، فقد اختلفوا فيه على مذاهب:

فمن أهل الحديث من منع منهما جميعاً، وقيل: إنه قول ابن المبارك، ويحيى ابن يحيى التميمي، وأحمد بن حنبل، والنسائي، وغيرهم.

ومنهم من ذهب إلى تجويز ذلك، وأنه كالسماع من لفظ الشيخ في جواز إطلاق [حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا]. وقد قيل: إن هذا مذهب معظم الحجازيين، والكوفيين، وقول الزهري، ومالك، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان في أخرين من الأئمة المتقدمين، وهو مذهب البخاري صاحب الصحيح في جماعة من المحدثين.

ومن هؤلاء من أجاز فيها أيضاً أن يقول [سمعت فلاناً].

والمذهب الثالث: الفرق بينهما في ذلك، والمنع من إطلاق [حدثنا] وتجويز إطلاق [أخبرنا]. وهو مذهب الشافعي وأصحابه، وهو منقول عن مسلم صاحب الصحيح، وجمهور أهل المشرق.

وذكر صاحب كتاب [الإنصاف] محمد بن الحسن التميمي الجوهري المصري: أن هذا مذهب الأكثر من أصحاب الحديث الذين لا يحصيهم أحد، وأنهم جعلوا [أخبرنا] علماً يقول مقام قول قائله: أنا قرأته عليه، لا أنه لفظ به لي. قال: وممن كان يقول به من أهل زماننا أبو عبد الرحمن النسائي، في جماعة مثله من محدثينا.

قلت: وقد قيل: إن أول من أحدث الفرق بين هذين اللفظين ابن وهب بمصر. وهذا يدفعه أن ذلك مروي عن ابن جريج والأوزاعي، حكاه عنهما الخطيب أبو بكر، إلا أن يعني أنه أول من فعل ذلك بمصر، والله أعلم.

قلت: الفرق بينهما صار هو الشائع الغالب على أهل الحديث، والاحتجاج لذلك من حيث اللغة عناء وتكلف. وخير ما يقال فيه: إنه اصطلاح منهم، أرادوا به التمييز بين النوعين، ثم خصص النوع الأول بقول [حدثنا] لقوة إشعاره بالنطق والمشافهة، والله أعلم.

ومن أحسن ما يحكى عمن يذهب هذا المذهب ما حكاه الحافظ أبو بكر البرقاني، عن أبي حاتم محمد بن يعقوب الهروي، أحد رؤساء أهل الحديث بخراسان: أنه قرأ على بعض الشيوخ عن الفربري صحيح البخاري، وكان يقول له في كل حديث [حدثكم الفربري] فلما فرغ من الكتاب سمع الشيخ يذكر: أنه سمع الكتاب من الفربري قراءة عليه، فأعاد أبو حاتم قراءة الكتاب كله، وقال له في جميعه [أخبركم الفربري]. والله أعلم.

تفريعات:

الأول: إذا كان أصل الشيخ عند القراءة عليه بيد غيره، وهو موثوق به. مراع لما يقرأ، أهل لذلك: فإن كان الشيخ يحفظ ما يقرأ عليه فهو كما لو كان أصله بيد نفسه، بل أولى، لتعاضد ذهني شخصين عليه. وإن كان الشيخ لا يحفظ ما يقرأ عليه، فهذا مما اختلفوا فيه: فرأى بعض أئمة الأصول أن هذا سماع غير صحيح. وبه عمل معظم الشيوخ وأهل الحديث.

وإذا كان الأصل بيد القاري، وهو موثوق به ديناً ومعرفة، فكذلك الحكم فيه، وأولى بالتصحيح.

وأما إذا كان أصله بيد من لا يوثق بإمساكه له، ولا يؤمن إهماله لما يقرأ، فسواء كان بيد القارئ أو بيد غيره، في أنه سماع غير معتد به، إذا كان الشيخ غير حافظ للمقروء عليه، والله أعلم.

الثاني: إذا قرأ القارئ على الشيخ قائلاً [أخبرك فلان، أو: قلت أخبرنا فلان] أو نحو ذلك، والشيخ ساكت، مصغ إليه، فاهم لذلك، غير منكر له، فهذا كاف في ذلك.

واشترط بعض الظاهرية وغيرهم إقرار الشيخ نطقاً، وبه قطع الشيخ أبو إسحق الشيرازي، وأبو الفتح سليم الرازي، وأبو نصر بن الصباغ من الفقهاء الشافعيين. قال أبو نصر: ليس له أن يقول [حدثني] أو [أخبرني]. وله أن يعمل بما قرئ عليه، وإذا أراد روايته عنه قال [قرأت عليه، أو: قرئ عليه وهو يسمع].

وفي حكاية بعض المصنفين للخلاف في ذلك: أن بعض الظاهرية شرط إقرار الشيخ عند تمام السماع، بأن يقول القارئ للشيخ [وهو كما قرأته عليك؟]، فيقول: نعم.

والصحيح أن ذلك غير لازم، وأن سكوت الشيخ على الوجه المذكور نازل منزلة تصريحه بتصديق القارئ، اكتفاء بالقرائن الظاهرة. وهذا مذهب الجماهير من المحدثين والفقهاء وغيرهم، والله أعلم.

الثالث: فيما نرويه عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ رحمه الله قال: الذي أختاره في الرواية، وعهدت عليه أكثر مشايخي وأئمة عصري: أن يقول في الذي يأخذه من المحدث لفظاً وليس معه أحد [حدثني فلان] وما يأخذه من المحدث لفظاً ومعه غيره [حدثنا فلان] وما قرأ على المحدث بنفسه [أخبرني فلان] وما قرئ على المحدث وهو حاضر [أخبرنا فلان].

وقد روينا نحو ما ذكره عن عبد الله بن وهب، صاحب مالك، رضي الله عنهما. وهو حسن رائق.

فإن شك في شيء عنده أنه من قبيل [حدثنا، أو: أخبرنا] أو من قبيل [حدثني، أو: أخبرني] لتردده في أنه كان عند التحمل والسماع وحده أو مع غيره، فيحتمل أن نقول: ليقل [حدثني، أو: أخبرني] لأن عدم غيره هو الأصل. ولكن ذكر علي بن عبد الله المديني الإمام عن شيخه يحيى بن سعيد القطان الإمام، فيما إذا شك أن الشيخ قال [حدثني فلان] أو قال [حدثنا فلان] أنه يقول [حدثنا].

وهذا يقتضي فيما إذا شك في سماع نفسه في مثل ذلك أن يقول [حدثنا]. وهو عندي يتوجه بأن [حدثني] أكمل مرتبة و[حدثنا] أنقص مرتبة، فليقتصر إذا شك على الناقص، لأن عدم الزائد هو الأصل، وهذا لطيف. ثم وجدت الحافظ أحمد البيهقي رحمه الله قد اختار بعد حكايته قول القطان ما قدمته.

ثم إن هذا التفصيل من أصله مستحب وليس بواجب، حكاه الخطيب الحافظ عن أهل العلم كافة. فجائز إذا سمع وحده أن يقول [حدثنا] أو نحوه، لجواز ذلك للواحد في كلام العرب. وجائز إذا سمع في جماعة أن يقول [حدثني] لأن المحدث حدثه وحدث غيره، والله أعلم.

الرابع: روينا عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قال: اتبع لفظ الشيخ في قوله [حدثنا، وحدثني، وسمعت، وأخبرنا]ولا تعده.

قلت: ليس لك فيما تجده في الكتب المؤلفة من روايات من تقدمك أن تبدل في نفس الكتاب ما قيل فيه: أخبرنا بحدثنا، ونحو ذلك، وإن كان في إقامة أحدهما مقام الآخر خلاف وتفصيل سبق، لاحتمال أن يكون من قال ذلك ممن لا يرى التسوية بينهما. ولو وجدت في ذلك إسناداً عرفت من مذهب رجاله التسوية بينهما فإقامتك أحدهما مقام الآخر من باب تجويز الرواية بالمعنى. وذلك وإن كان فيه خلاف معروف فالذي نراه الامتناع من إجراء مثله في إبدال ما وضع في الكتب المصنفة والمجامع المجموعة، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وما ذكره الخطيب أبو بكر في [كفايته] من إجراء ذلك الخلاف في هذا فمحمول عندنا على ما يسمعه الطالب من لفظ المحدث، غير موضوع في كتاب مؤلف، والله أعلم.

الخامس: اختلف أهل العلم في صحة سماع من ينسخ وقت القراءة، فورد عن الإمام إبراهيم الحربي، وأبي أحمد بن عدي الحافظ، والأستاذ أبي إسحق الإسفرائيني الفقيه الأصولي وغيرهم نفي ذلك.

ورورينا عن أبي بكر أحمد بن إسحق الصبغي، أحد أئمة الشافعيين بخراسان: أنه سئل عمن يكتب في السماع؟ فقال: يقول: يقول [حضرت] ولا يقل [حدثنا، ولا أخبرنا].

وورد عن موسى بن هارون الحمال تجويز ذلك. وعن أبي حاتم الرازي قال: كتبت عند عارم وهو يقرأ، وكتبت عند عمرو بن  مرزوق وهو يقرأ. وعن عبد الله بن المبارك: أنه قرئ عليه وهو نسخ شيئاً آخر غير ما يقرأ.

ولا فرق بين النسخ من السامع والنسخ من المسمع. قلت: وخير من هذا الإطلاق التفصيل. فنقول: لا يصح إذا كان النسخ بحيث لا يمتنع معه الفهم الناسخ لما يقرأ، حتى يكون الواصل إلى سمعه كأنه صوت غُفل.

ويصح إذا كان بحيث لا يمتنع معه الفهم. كمثل ما روينا عن الحافظ العالم أبي الحسن الدارقطني: أنه حضر في حداثته مجلس إسماعيل الصفار، فجلس ينسخ جزءاً كان معه وإسماعيل يملي، فقال له بعض الحاضرين: لا يصح سماعك وأنت تنسخ. فقال: فهمي للإملاء خلاف فهمك. ثم قال: تحفظ كم أملي الشيخ من حديث إلى الآن؟ فقال: لا. فقال الدارقطني: أملي ثمانية عشر حديثاً. فعُدت الأحاديث فوجدت كما قال. ثم قال أبو الحسن: الحديث الأول منها عن فلان عن فلان ومتنه كذا. والحديث الثاني عن فلان عن فلان ومتنه كذا. ولم يزل بذكر أسانيد الأحاديث ومتونها على ترتيبها في الإملاء حتى أتى على آخرها، فتعجب الناس منه، والله أعلم.

السادس: ما ذكرناه في النسخ من التفصيل يجري مثله فيما إذا كان الشيخ أو السامع يتحدث، أو كان القارئ خفيف القراءة يفرط في الإسراع. أو كان يهينم بحيث يخفي بعض الكلام، أو كان السامع بعيداً عن القارئ، وما أشبه ذلك.

ثم الظاهر: أنه يعفى في كل ذلك عن القدر اليسير، نحو الكلمة والكلمتين.

ويستحب للشيخ أن يجيز لجميع السامعين رواية جميع الجزء أو الكتاب الذي سمعوه، وإن جرى على كله اسم السماع. وإذا بذل لأحد منهم خطه بذلك كتب له:سمع مني هذا الكتاب وأجزت له روايته عني. أو نحو هذا، كما كان بعض الشيوخ يفعل. وفيما نرويه عن الفقيه أبي محمد بن أبي عبد الله بن عتاب الفقيه الأندلسي، عن أبيه رحمهما الله أنه قال: لا غنى في السماع عن الإجازة، لأنه قد يغلط القارئ ويغفل الشيخ، أو يغلط الشيخ إن كان القارئ ويغفل السامع، فينجبر له ما فاته بالإجازة.

هذا الذي ذكرناه تحقيق حسن. وقد روينا عن صالح بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: الشيخ يدغم الحرف يعرف أنه كذا وكذا ولا يفهم عنه، ترى أن يروى ذلك عنه؟ قال: أرجو أن لا يضيق هذا.

وبلغنا عن خلف بن سالم المخرمي قال سمعت ابن عيينة يقول [نا عمرو بن دينار] يريد [حدثنا عمرو بن دينار] لكن اقتصر من [حدثنا] على [النون والألف] فإذا قيل له قل [حدثنا عمرو] قال: لا أقول، لأني لم أسمع من قوله [حدثنا] ثلاثة أحرف وهي [حدث] لكثرة الزحام.

قلت: قد كان كثير من أكابر المحدثين يعظم الجمع في مجالسهم جداً، حتى ربما بلغ ألوفاً مؤلفة، ويبلغهم عنهم المستملون، فيكتبون عنهم بواسطة تبليغ المستملين، فأجاز غير واحد لهم رواية ذلك عن المملي.

روينا عن الأعمش رضي الله عنه قال: كنا نجلس إلى إبراهيم، فتتسع الحلقة، فربما يحدث بالحديث فلا يسمعه من تنحى عنه، فيسأل بعضهم بعضاً عما قال، ثم يرووينه وما سمعوه منه.

وعن حماد بن زيد: أنه سأله رجل في مثل ذلك، فقال: يا أبا إسمعيل، كيف قلت: فقال:استفهم ممن يليك.

وعن عيينة: أن أبا مسلم المستملي قال له: إن الناس كثير لا يسمعون، قال ألا تسمع أنت؟ قال: نعم، قال: فأسمعهم. وأبى أخرون ذلك

روينا عن خلف بن تميم قال: سمعت من سفيان الثوري عشرة آلاف حديث أو نحوها، فكنت أستفهم جليسي، فقلت: لزائدة، فقال لي: لا تحدث منها إلا بما تحفظ بقلبك وسمع أذنك، قال: فألقيتها.

وعن أبي نعيم: أنه كان يرى فيما سقط عنه من الحرف والاسم مما سمعه من سفيان والأعمش، واستفهمه من أصحابه: أن يرويه عن أصحابه، لا يرى غير ذلك واسعاً له.

قلت: والأول تساهل بعيد. وقد روينا عن أبي عبد الله بن مندة الحافظ الأصبهاني أنه قال لواحد من أصحابه: يا فلان يكفيك من السماع شمه. وهذا إما متأول أو متروك على قائله. ثم وجدت عن عبد الغني بن سعيد الحافظ، عن حمزة بن محمد الحافظ بإسناده، عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: يكفيك من الحديث شمه. قال عبد الغني: قال لنا: حمزة يعني إذا سئل عن أول شيء عرفه، وليس يعني التسهيل في السماع، والله أعلم.

السابع: يصح السماع ممن هو وراء حجاب إذا سمع صوته فيما إذا حدث بلفظه، أو إذا عرف حضوره بمسمع منه فيما إذا قرئ عليه. وينبغي أن يجوز الاعتماد في معرفة صوته وحضوره على خبر من يوثق به. وقد كانوا يسمعون من عائشة رضي الله عنها وغيرها من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب، ويروونه عنهن اعتماداً على الصوت. واحتج عبد الغني بن سعيد الحافظ في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن بلالا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم». وروى بإسناده عن شعبة أنه قال: إذا حدثك المحدث فلم تر وجهه فلا ترو عنه، فلعله شيطان قد تصور في صورته يقول حدثنا وأخبرنا، والله أعلم.

الثامن: من سمع من شيخ حديثاً ثم قال له: لا تروه عني، أو: لا آذن لك في روايته عني، أو قال: لست أخبرك به، أو: رجعت عن إخباري إياك به، فلا تروه عني، غير مسند ذلك إلى أنه أخطأ فيه أو شك فيه ونحو ذلك، بل منعه من روايته عنه مع جزمه بأنه وروايته، فذلك غير مبطل لسماعه، ولا مانع له من روايته عنه.

وسأل الحافظ أبو سعيد بن النيسابوري الأستاذ أبا إسحق الإسفرائيني رحمهما الله، عن محدث خص بالسماع قوماً، فجاء غيرهم وسمع منه من غير علم المحدث به، هل يجوز له رواية ذلك عنه؟ فأجاب: بأنه يجوز. ولو قال المحدث: إني أخبركم ولا أخبر فلاناً، لم يضره، والله أعلم.

القسم الثالث من أقسام طرق نقل الحديث وتحمله: الإجازة.

وهي متنوعة أنواعاً:

أولها: أن يجيز لمعين في معين، مثل أن يقول [أجزت لك الكتاب الفلاني، أو ما اشتملت عليه فهرستي هذه] فهذا أعلى أنواع الإجازة المجردة عن المناولة. وزعم بعضهم أنه لا خلاف في جوازها، ولا خالف فيها أهل الظاهر. وإنما خلافهم في غير هذا النوع. وزاد القاضي أبو الوليد الباجي المالكي فأطلق نفي الخلاف، وقال: لا خلاف في جواز الرواية بالإجازة من سلف هذه الأمة وخلفها، وادعى الإجماع من غير تفصيل، وحكى الخلاف في العمل بها.

قلت: هذا باطل، فقد خالف في جواز الرواية بالإجازة جماعات من أهل الحديث والفقهاء والأصوليين، وذلك إحدى الروايتين عن الشافعي رضي الله عنه. روي عن صاحبه الربيع بن سليمان قال:كان الشافعي لا يرى الإجازة في الحديث قال الربيع: أنا أخالف الشافعي في هذا.

وقد قال بإبطالها جماعة من الشافعيين، منهم: القاضيان حسين بن محمد المرورُّوذي وأبو الحسن الماوردي، وبه قطع الماوردي في كتابه [الحاوي] وعزاه إلى مذهب الشافعي، وقالا جميعاً: لو جازت الإجازة لبطلت الرحلة. وروي أيضاً هذا الكلام عن شعبة وغيره.

وممن أبطلها من أهل الحديث: الإمام إبراهيم بن إسحق الحربي، وأبو محمد عبد الله بن محمد الأصبهاني الملقب بأبي الشيخ، والحافظ أبو نصر الوايلي السجزي. وحكى أبو نصر فسادها عن بعض من لقيه. قال أبو نصر: وسمعت جماعة من أهل العلم يقولون: قول المحدث [قد أجزت لك أن تروي عني] تقديره [قد أجزت لك ما لا يجوز في الشرع] لأن الشرع لا يبيح رواية من لم يسمع.

قلت: ويشبه هذا ما حكاه أبو بكر محمد بن ثابت الخجندي، أحد من أبطل الإجازة من الشافعية، عن أبي طاهر الدباس أحد أئمة الحنفية قال: من قال لغيره [أجزت لك أن تروي عني ما لم تسمع] فكأنه يقول [أجزت لك أن تكذب علي].

ثم إن الذي استقر عليه العمل، وقال به جماهير أهل العلم من أهل الحديث وغيرهم: القول بتجويز الإجازة، وإباحة الرواية بها، وفي الاحتجاج لذلك غموض. ويتجه أن نقول: إذا أجاز له أن يروي عنه مروياته، وقد أخبره بها جملة، فهو كما  لو أخبره تفصيلاً، وإخباره بها غير متوقف على التصريح نطقاً، كما في القراءة على الشيخ كما سبق، وإنما الغرض حصول الإفهام والفهم، وذلك يحصل بالإجازة المفهمة، والله أعلم.

ثم إنه كما تجوز الرواية بالإجازة يجب العمل بالمروي بها، خلافاً لمن قال من أهل الظاهر ومن تابعهم: إنه لا يجب العمل به، وأنه جار مجرى المرسل. وهذا باطل، لأنه ليس في الإجازة ما يقدح في الاتصال المنقول بها وفي الثقة به، والله أعلم.

والنوع الثاني من أنواع الإجازة: أن يجيز لمعين في غير معين، مثل أن يقول: [أجزت لك- أو: لكم- جميع مسموعاتي، أو: جميع مروياتي] وما أشبه ذلك. فالخلاف في هذا النوع أقوى وأكثر. والجمهور من العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم على تجويز الرواية بها أيضاً، وعلى إيجاب العمل بما روي بها بشرطه والله أعلم.

النوع الثالث من أنواع الإجازة: أن يجيز لغير معين بوصف العموم، مثل أن يقول [أجزت للمسلمين، أو: أجزت لكل أحد، أو أجزت لمن أدرك زماني] وما أشبه ذلك، فهذا نوع تكلم فيه المتأخرون ممن جوز أصل الإجازة، واختلفوا في جوازه:

فإن كان ذلك مقيداً يوصف حاصر أو نحوه فهو إلى الجواز أقرب.

وممن جوز ذلك كان الخطيب أبو بكر الحافظ. وروينا عن أبي عبد الله بن مندة الحافظ أنه قال: أجزت لمن قال لا إله إلا الله. وجوز القاضي أبو الطيب الطبري أحد الفقهاء المحققين- فيما حكاه الخطيب- الإجازة لجميع المسلمين، من كان منهم موجوداً عند الإجازة. وأجاز أبو محمد بن سعيد، أحد الجِلّة من شيوخ الأندلس: لكل من دخل قرطبة من طلبة العلم. ووافقه على جواز ذلك جماعة منهم أبو عبد الله بن عتاب، رضي الله عنهم. وأنبأني من سأل الحازمي أبا بكر عن الإجازة العامة هذه، فكان من جوابه: أن من أدركه من الحفاظ- نحو أبي العلاء الحافظ وغيره- كانوا يميلون إلى الجواز، والله أعلم.

قلت: ولم نر ولم نسمع عن أحد ممن يقتدى به: أنه استعمل هذه الإجازة فروى بها، ولا  عن الشر ذمة المستأخرة الذين سوغوها. والإجازة في أصلها ضعف، وتزداد بهذا التوسع والاسترسال ضعفاً كثيراً لا ينبغي احتماله، والله أعلم.

النوع الرابع من أنواع للمجهول أو بالمجهول. ويتشبث بذيلها الإجازة المعلقة بالشرط، وذلك مثل أن يقول [أجزت لمحمد بن خالد الدمشقي] وفي وقته ذلك جماعة مشتركون في هذا الاسم والنسب، ثم لا يعين المجاز له منهم.

أو يقول [أجزت لفلان أن يروي عني كتاب السنن] وهو يروي جماعة من كتب السنن المعروفة بذلك، ثم لا يعين. فهذه إجازة فاسدة لا فائدة لها.

وليس من هذا القبيل ما إذا أجاز لجماعة مسمّينَ، معينين بأنسابهم، والمجيز جاهل بأعيانهم غير عارف بهم، فهذا غير قادح كما لا يقدح عدم معرفته به إذا حضر شخصه في السماع منه، والله أعلم.

وإن أجاز للمسمين المنتسبين في الاستجازة ولم يعرفهم بأعيانهم ولا بأنسابهم، ولم يعرف عددهم، ولم يتصفح أسماءهم واحداً فواحداً، فينبغي أن يصح ذلك أيضاً كما يصح سماع من حضر مجلسه للسماع منه وإن لم يعرفهم أصلاً ولم يعرف عددهم، ولا تصفح أشخاصهم واحداً واحداً.

وإذا قال [أجزت لمن يشاء فلان] أو نحو ذلك. فهذا فيه جهالة وتعليق بشرط. فالظاهر أنه لا يصح، وبذلك أفتى القاضي أبو الطيب الشافعي، إذا سأله الخطيب الحافظ عن ذلك، وعلل بأنه إجازة لمجهول، فهو كقوله [أجزت لبعض الناس] من غير تعيين. وقد يعلل ذلك أيضاً بما فيها من التعليق بالشرط، فإن ما يفسد بالجهالة بالتعليق، على ما عرف عند قوم.

وحكى اخطيب عن أبي يعلى بن الفراء الحنبلي وأبي الفضيل بن عمروس المالكي: أنهما أجازا ذلك، وهؤلاء الثلاثة كانوا مشايخ مذاهبهم ببغداد إذ ذلك.

وهذه الجهالة ترتفع في ثاني الحال عند وجود المشيئة، بخلاف الجهالة الواقعة فيما إذا أجاز لبعض الناس. وإذا قال: [أجزت لمن شاء] فهو كما لو قال [أجزت لمن شاء فلان] بل هذه أكثر جهالة وانتشاراً، من حيث إنها معلقة بمشيئة من لا يحصر عددهم بخلاف تلك. ثم هذا فيما إذا أجاز لمن شاء الإجازة منه له.

فإن إجاز لمن شاء الرواية عنه الرواية عنه فهذا أولى بالجواز، من حيث إن مقتضى كل إجازة تفويض الرواية بها إلى مشيئة المجاز له، فكان هذا- مع كونه بصيغة التعليق- تصريحاً بما يقتضيه الإطلاق وحكاية للحال، لا تعليقاً في الحقيقة. لهذا أجاز بعض أئمة الشافعيين في البيع أن يقول: بعتك هذا بكذا إن شئت، فيقول قبلت.

ووجد بخط أبي الفتح محمد بن الحسين الأزدي الموصلي الحافظ [أجزت رواية ذلك لجميع من أحب أن يروي ذلك عني].

أما إذا قال [أجزت لفلان كذا كذا إن شاء روايته عني، أو: لك إن شئت، أو أحببت، أو أردت] فالأظهر الأقوى أن ذلك جائز، إذ قد انتفت فيه الجهالة وحقيقة التعليق، ولم يبق سوى صيغته، والعلم عند الله تعالى.

النوع الخامس من أنواع الإجازة: الإجازة للمعدوم. ولنذكر معه الإجازة للطفل الصغير. هذا نوع خاض فيه قوم المتأخرين، واختلفوا في جوازه. ومثاله: أن يقول: أجزت لمن يولد لفلان.

فإن عطف المعدوم في ذلك على الموجود بأن قال: أجزت لفلان ولمن يولد له، أو: أجزت لك ولولدك ولعقبك ما تناسالوا، كان ذلك أقرب إلى الجواز من الأول. ولمثل ذلك أجاز أصحاب الشافعي رضي الله عنه في الوقف القسم الثاني دون الأول. وقد أجاز أصحاب مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهما- أو من قال ذلك منهم في الوقف- القسمين كليهما.

وفعل هذا الثاني في الإجازة من المحدثين المتقدمين أبو بكر بن أبي داود السجستاني، فإنا روينا عنه أنه سئل الإجازة، فقال: قد أجزت لك ولأولادك ولحبَل الحَبَلَة. يعني الذين لم يولدوا بعد.

وأما الإجازة للمعدوم ابتداءً، من غير عطف على موجود: فقد أجازها الخطيب أبو بكر الحافظ، وذكر أنه سمع أبا يعلى بن الفراء الحنبلي وأبا الفضل بن عمروس المالكي يجيزان ذلك. وحكى جواز ذلك أيضاً أبو نصر بن الصباغ الفقيه، فقال: ذهب قوم إلى أنه يجوز أن يجيز لمن لم يخلق. قال: وهذا إنما ذهب إليه من يعتقد أن الإجازة إذن في الرواية لا محادثة. ثم بين بطلان هذه الإجازة، وهو الذي استقر عليه رأي شيخه القاضي أبي الطيب الطبري الإمام، وذلك هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره، لأن الإجازة في حكم الإخبار جملة بالمجاز، على ما قدمناه في بيان صحة أصل الإجازة، فكما لا يصح الإخبار للمعدوم لا تصح الإجازة للمعدوم. ولو قدرنا أن الإجازة إذن فلا يصح أيضاً ذلك للمعدوم، كما لا يصح الإذن في باب الوكالة للمعدوم، لوقوعه في حالة لا يصح فيها المأذون فيه من المأذون له.

وهذا أيضاً يوجب بطلان الإجازة للطفل الصغير الذي لا يصح سماعه.

قال الخطيب: سألت القاضي أبا الطيب الطبري عن الإجازة للطفل الصغير، هل يعتبر في صحتها سنة أو تمييزه، كما يعتبر ذلك في صحة سماعه؟ فقال: لا يعتبر ذلك. قال: فقلت له: إن بعض أصحابنا قال: لا تصح الإجازة لمن لا يصح سماعه. فقال: قد يصح أن يجيز ذلك للغائب عنه ولا يصح السماع له. واحتج الخطيب لصحتها للطفل: بأن الإجازة إنما هي إباحة المجيز للمجاز له أن يروي عنه، والإباحة تصح للعاقل وغير العاقل.قال: وعلى هذا رأينا كافة شيوخنا يجيزون للأطفال الغيب عنهم، من غير أن يسألوا عن مبلغ أسنانهم وحال تمييزهم. ولم نرهم أجازوا لمن لم يكن مولوداً في الحال.

قلت: كأنهم رأوا الطفل أهلاً لتحمل هذا النوع من أنواع تحمل الحديث، ليؤدي به بعد حصول أهليته، حرصاً على توسيع السبيل إلى بقاء الإسناد الذي اختصت به هذه الأمة، وتقريبه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

النوع السادس من أنواع الإجازة: إجازة ما لم يسمعه المجيز ولم يتحمله أصلاً بعد، ليرويه المجاز له إذا تحمله المجيز بعد ذلك.

أخبرني من أخبر عن القاضي عياض بن موسى من فضلاء وقته بالمغرب، قال: هذا لم أر من تكلم عليه المشايخ، ورأيت بعض المتأخرين والعصرين يصنعونه، ثم حكى عن أبي الوليد يونس بن مغيث قاضي قرطبة: أنه سئل الإجازة بجميع ما رواه إلى تاريخنا وما يرويه بعد، فامتنع من ذلك، فغضب السائل. فقال له بعض أصحابه: يا هذا يعطيك ما لم يأخذه؟ هذا محال! قال عياض: وهذا هو الصحيح.

قلت: ينبغي أن يبنى هذا على أن الإجازة في حكم الإخبار بالمجاز جملة، أو: هي إذن؟ فإن جعلت في حكم الإخبار لم تصح هذه الإجازة، إذ كيف يخبر بما لا خبر عنده منه. وإن جعلت إذناً انبنى هذا على الخلاف في تصحيح الإذن في باب الوكالة فيما لم يملكه الآذن الموكل بعد، مثل أن يوكل في بيع العبد الذي يريد أن يشتريه. وقد أجاز ذلك بعض أصحاب الشافعي، والصحيح بطلان هذه الإجازة. وعلى هذا يتعين على من يريد أن يروي بالإجازة عن شيخ أجاز له جميع مسموعاته مثلاً: أن يبحث حتى يعلم أن ذاك الذي يريد روايته عنه مما سمعه قبل تاريخ هذه الإجازة. وأما إذا قال: أجزت لك ما صح ويصح عندك من مسموعاتي، فهذا ليس من هذا القبيل. وقد فعله الدارقطني وغيره. وجائز أن يروي بذلك عنه ما صح عنده بعد الإجازة أنه سمعه قبل الإجازة أنه سمعه قبل الإجازة. ويجوز ذلك وإن اقتصر على قوله: [ما صح عندك] ولم يقل [وما يصح] لأن المراد: أجزت لك أن تروي عني ما صح عندك. فالمعتبر إذاً فيه صحة ذلك عنده حالة الرواية. والله أعلم.

النوع السابع من أنواع الإجازة: إجازة المجاز. مثل أن يقول الشيخ [أجزت لك مجازاتي. أو: أجزت لك رواية ما أجيز لي روايته] فمنع من ذلك بعض من لا يعتد من المتأخرين.

والصحيح- والذي عليه العمل- أن ذلك جائز، ولا يشبه ذلك ما امتنع من توكيل الوكيل بغير إذن الموكل. ووجدت عن أبي عمرو السفاقسي الحافظ المغربي قال: سمعت أبا نعيم الحافظ الأصفهاني يقول: الإجازة على الإجازة قوية جائزة.

وحكى الخطيب الحافظ تجويز ذلك عن الحافظ الإمام أبي الحسن الدارقطني، والحافظ أبي العباس المعروف بابن عقدة الكوفي، وغيرهما. وقد كان الفقيه الزاهد نصر بن إبراهيم المقدسي يروي بالإجازة عن الإجازة، حتى ربما وإلى في روايته بين إجازات ثلاث.

وينبغي لمن يروي بالإجازة عن الإجازة أن يتأمل كيفية إجازة شيخ شيخه ومقتضاها، حتى لا يروي بها ما لم يندرج تحتها. فإذا كان مثلاً صورة إجازة شيخ شيخه [أجزت له ما صح عنده من سماعاتي] فرأى شيئاً من مسموعات شيخ شيخه فليس له أن يروي ذلك عن شيخه عنه، حتى يستبين أنه مما كان قد صح عند شيخه كونه من مسموعات شيخه الذي تلك إجازته، ولا يكتفي بمجرد صحة ذلك عنده الآن، عملاً بلفظه وتقيده. ومن لا يتفطن لهذا وأمثاله يكثر عثاره، والله أعلم.

هذه أنواع الإجازة التي تمس الحاجة إلى بيانها، ويتركب منها أنواع أخر سيتعرف لمتأمل مما أمليناه إن شاء الله تعالى.

ثم إنا ننبه على أمور:

أحدهما: روينا عن أبي الحسن أحمد بن فارس الأديب المصنف رحمه الله تعالى قال: معنى الإجازة في كلام العرب مأخوذ من جواز الماء الذي يسقاه المال من الماشية والحرث، يقال منه: استجزت فلاناً فأجز لي، إذا أسقاك ماء لأرضك أو ماشيك. كذلك طالب العلم: يسأل العالم أن يجيزه علمه، فيجيزه إياه.

قلت: فللمجيز على هذا أن يقول [أجزت فلاناً مسموعاتي، أو: مروياتي] فيعديه بغير حرف جر، من غير حاجة إلى ذكر لفظ الرواية أو نحو ذلك. ويحتاج إلى ذلك من يجعل بمعنى التسويغ، والإذن، والإباحة، وذلك هو المعروف، فيقول [أجزت لفلان رواية مسموعاتي] مثلاً، ومن يقول منهم [أجزت له مسموعاتي] فعلى سبيل الحذف الذي لا يخفى نظيره، والله اعلم.

الثاني: إنما تستحسن الإجازة إذا كان المجيز عالماً بما يجيز، والمجاز له من أهل العلم، لأنها توسع وترخيص، يتأهل له أهل العلم لمسيس حاجتهم إليها. وبالغ بعضهم في ذلك فجعله شرطاً فيها. وحكاه أبو العباس الوليد بن بكر المالكي عن مالك رضي الله عنه. وقال الحافظ أبو عمر: الصحيح أنها لا تجوز إلا لماهر بالصناعة، وفي شيء معين لا يشكل إسناده، والله أعلم.

الثالث: ينبغي للمجيز إذا كتب إجازته أن يتلفظ بها، فإن اقتصر على الكتابة كان ذلك إجازة جائزة، إذا اقترن بقصد الإجازة. غير أنها انقص مرتبة من الإجازة الملفوظ بها. وغير مستبعد تصحيح ذلك بمجرد هذه الكتابة في باب الرواية، التي جعلت فيه القراءة على الشيخ، مع أنه لم يلفظ بما قرئ عليه إخباراً منه بما قرئ عليه، على ما تقدم بيانه، والله أعلم.

القسم الرابع من أقسام طرق تحمل الحديث وتلقيه: المناولة.

وهي على نوعين:

أحدهما: المناولة المقرونة بالإجازة، وهي أعلى أنواع الإجازة على الإطلاق ولها صور.

منها: أن يدفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه أو فرعاً مقابلاً به، ويقول [هذا سماعي، أو: روايتي عن فلان، فاروه عني، أو أجزت لك روايته عني]، ثم يملكه إياه. أو يقول [خذه وانسخه، وقابل به، ثم رده إليّ] ونحو هذا.

ومنها: أن يجيء الطالب إلى الشيخ بكتاب أو جزء من حديثه، فيعرضه عليه، فيتأمله الشيخ، وهو عارف متيقظ، ثم يعيده إليه ويقول له[وقفت على ما فيه، وهو حديثي عن فلان، أو روايتي عن شيوخي فيه، فاروه عني، أو: أجزت لك، روايته عني]. وهذا قد سماه غير واحد من أئمة الحديث [عرضاً]. وقد سبقت حكايتنا في القراءة على الشيخ أنها تسمى [عرضاً] فلنسم ذلك [عرض القراءة]وهذا [عرض المناولة] والله أعلم.

وهذه المناولة المقترنة بالإجازة: حالة محل السماع عند مالك وجماعة من أئمة أصحاب الحديث. وحكى الحاكم أبو عبد الله الحافظ النيسابوري- في عرض المناولة المذكور- عن كثير من المتقدمين: أنه سماع. وهذا مطرد في سائر ما يماثله من صور المناولة المقرونة بالإجازة. فممن حكى الحاكم ذلك عنهم ابن شهاب الزهري، وربيعة الرأي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك بن أنس- الإمام- في آخرين من المدنيين، ومجاهد، وأبو الزبير، ابن عيينة في جماعة من المكيين، وعلقمة وإبراهيم النخعيان، والشعبي في جماعة من الكوفيين، وقتادة، وأبو العالية، وأبو المتوكل الباجي في طائفة من البصريين، وابن وهب، وابن القاسم، وأشهب في طائفة من المصريين، وآخرون من الشاميين والخراسانيين. ورأى الحاكم طائفة من مشايخه على ذلك، وفي كلامه بعض التخليط من حيث كونه خلط بعض ما ورد في [عرض القراءة] بما ورد في [عرض المناولة] وساق الجميع مساقاً واحداً.

والصحيح: أن ذلك غير حال محل السماع، وانه منحط عن درجة التحديث لفظاً والإخبار قراءة.

وقد قال الحاكم في هذا العرض: أما فقهاء الإسلام الذين أفتوا في الحلال والحرام فإنهم لم يروه سماعاً، وبه قال الشافعي، والأوزاعي، والبويطي، والمزني، وأبو حنيفة، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وابن المبارك، ويحيى بن يحيى، وإسحق بن راهويه. قال: وعليه عهدنا أئمتنا، وإليه ذهبوا، وإليه نذهب، والله أعلم.

ومنها: أن يناول الشيخ الطالب كتابه ويجيز له روايته عنه، ثم يمسكه الشيخ عنده ولا يمكنه منه، فهذا يتقاعد عما سبق، لعدم احتواء الطالب على ما تحمله وغيبته عنه. وجائز له رواية ذلك عنه إذا ظفر بالكتاب، أو: بما هو مقابل به على وجه يثق معه بموافقته لما تناولته الإجازة، على ما هو معتبر في الإجازات المجردة عن المناولة.

ثم إن المناولة في مثل هذا لا يكاد يظهر حصول مزية بها على الإجازة الواقعة في معين كذلك من غير مناولة. وقد صار غير واحد من الفقهاء والأصوليين إلى أنه لا تأثير لها ولا فائدة. غير أن شيوخ أهل الحديث في القديم والحديث- أو من حكي ذلك عنه منهم- يرون لذلك مزية لذلك مزية معتبرة، والعلم عند الله تبارك وتعالى.

ومنها: أن يأتي الطالب الشيخ بكتاب أو جزء فيقول [هذا روايتك، فناولنيه وأجزلي روايته] فيجيبه إلى ذلك، من غير أن ينظر فيه ويتحقق روايته لجميعه، فهذا لا يجوز ولا يصح.

فإن كان الطالب موثوقاً بخبره ومعرفته جاز الاعتماد عليه في ذلك، وكان ذلك إجازة جائزة، كما جاز في القراءة على الشيخ الاعتماد على الطالب، حتى يكون هو القارئ من الأصل، إذا كان موثوقاً به معرفة وديناً.

قال الخطيب أبو بكر رحمه الله: ولو قال [حدث بما في هذا الكتاب عني إن كان من حديثي، مع براءتي من الغلط والوهم] كان ذلك جائزاً حسناً، والله أعلم.

الثاني: المناولة المجردة عن الإجازة، بأن يناوله الكتاب كما تقدم ذكره أولاً، ويقتصر على قوله [هذا من حديثي، أو: من سماعاتي] ولا يقول [اروه عني، أو: أجزت لك روايته عني] ونحو ذلك.

فهذه مناولة مختلة، لا تجوز الرواية بها، وعابها غير واحد من الفقهاء والأصوليين على المحدثين الذين أجازوها وسوغوا الرواية بها.

وحكى الخطيب عن طائفة من أهل العلم: أنهم صححوها وأجازوا الرواية بها، وسنذكر- إن شاء الله سبحانه وتعالى- قول من أجاز الرواية بمجرد إعلام الشيخ الطالب: أن هذا الكتاب سماعه من فلان. وهذا يزيد على ذلك ويترجح بما فيه من المناولة، فإنها لا تخلو من إشعار بالإذن في الرواية، والله أعلم.

القول في عبارة الراوي بطريق المناولة والإجازة:

حكي عن قوم من المتقدمين ومن بعدهم: أنهم جوزوا إطلاق [حدثنا وأخبرنا] في الرواية بالمناولة، حكي ذلك عن الزهري ومالك وغيرهما، وهو لائق بمذهب جميع من سبقت الحكاية عنهم: أنهم جعلوا عرض المناولة المقرونة بالإجازة سماعاً. وحكي أيضاً عن قوم مثل ذلك في الرواية بالإجازة.

وكان الحافظ أبو نعيم الأصبهاني- صاحب التصانيف الكثيرة في علم الحديث- يطلق [أخبرنا] فيما يرويه بالإجازة. روينا عنه أنه قال: أنا إذا قلت [حدثنا] فهو سماعي، وإذا قلت [أخبرنا] على الإطلاق فهو إجازة من غير أن أذكر فيه [إجازة، أو كتابة، أو كتب إلي. أو أذن لي في الرواية عنه].

وكان أبو عبد الله المرزباني الأخباري- صاحب التصانيف في علم الخبر- يروي أكثر ما في كتبه إجازة من غير سماع ويقول في الإجازة [أخبرنا] ولا يبينها، وكان ذلك- فيما حكاه الخطيب- مما عيب به.

والصحيح- والمختار الذي عليه عمل الجمهور، وإياه اختار أهل التحري والورع- المنع في ذلك ن إطلاق [حدثنا وأخبرنا] ونحوهما من العبارات، وتخصيص ذلك بعبارة تشعر به، بأن يقيد هذه العبارات فيقول: [أخبرنا، أو: حدثنا فلان مناولة وإجازة، أو: أخبرنا إجازة، أو: أخبرنا مناولة، أو: أخبرنا إذنا، أو: في إذنا، أو: فيما أذن لي فيه، أو: فيما أطلق لي روايته عنه]. أو يقول: [أجاز لي فلان، أو: أجازني فلان كذا وكذا، أو: ناولني فلان] وما أشبه ذلك من العبارات.

وخصص قوم الإجازة بعبارات لم يسلموا فيها من التدليس أو طرف منه، كعبارة من يقول في الإجازة [أخبرنا مشافهة] إذا كان قد شافهه بالإجازة لفظاً، وكعبارة من يقول [أخبرنا فلان كتابة، أو: فيما كتب إلي، أو: في كتابه] إذا كان قد أجازه بخطه. فهذا- وإن تعارفه في ذلك طائفة من المحدثين المتأخرين- فلا يخلو عن طرف من التدليس، لما فيه من الاشتراك والاشتباه بما إذا كتب إليه ذلك الحديث بعينه.

وورد عن الأوزاعي أنه خصص الإجازة بقوله [خبرنا] بالتشديد، والقراءة عليه بقوله [أخبرنا].

واصطلح قوم من المتأخرين على إطلاق [أنبأنا] في الإجازة، وهو اختيار الوليد بن بكر صاحب [الوجازة في الإجازة]. وقد كان [أنبأنا] عند القوم- فيما تقدم- بمنزلة [أخبرنا] وإلى هذا نحا الحافظ المتقن أبو بكر البيهقي، إذ كان يقول [أنبأني فلان إجازة]، وفيه أيضاً رعاية لاصطلاح المتأخرين، والله أعلم.

وروينا عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ رحمه الله أنه قال: الذي اختاره وعهدت عليه أكثر مشايخي وأئمة عصري: أن يقول فيما عرض على المحدث، فأجاز له روايته شفاها [أنباني فلان]. وفيما كتب إليه المحدث من مدينة، ولم يشافهه بالإجازة [كتب إلي فلان].

وروينا عن أبي عمرو بن أبي جعفر بن حمدان النيسابوري قال: سمعت أبي يقول: كل ما قال البخاري [قال لي فلان] فهو عرض ومناولة.

قلت: وورد عن قوم من الرواة التعبير عن الإجازة بقول [أخبرنا فلان أن فلاناً حدثه، أخبره]. وبلغنا ذلك عن الإمام أبي سليمان الخطابي أنه اختاره أو حكاه، وهذا اصطلاح بعيد عن الإشعار بالإجازة، وهو فيما إذا سمع الأستاذ فحسب وأجاز له ما رواه قريب، فإن كلمة [أن] في قوله [أخبرني فلان أن فلاناً أخبره] فيها إشعار بوجود أصل الإخبار، وإن أجمل المخبر به ولم يذكره تفصيلاً.

قلت: وكثيراً ما يعبر الرواة المتأخرون عن الإجازة الواقعة في رواية من فوق الشيخ المسمع بكلمة [عن] فيقول أحدهم إذا سمع على شيخ بإجازته عن شيخه [قرأت على فلان عن فلان] وذلك قريب فيما إذا كان قد سمع منه بإجازته عن شيخه، إن لم يكن سماعاً فإنه شاك، وحرف [عن] مشترك بين السماع والإجازة صادق عليهما، والله أعلم.

ثم اعلم: أن المنع من إطلاق [حدثنا وأخبرنا] في الإجازة لا يزول بإباحة المجيز لذلك، كما اعتاده قوم من المشايخ من قولهم في إجازتهم لمن يجيزون له، إن شاء قال [حدثنا] وإن شاء قال [أخبرنا] فليعلم ذلك، والعلم عند الله تبارك وتعالى.

القسم الخامس من أقسام طرق نقل الحديث وتلقيه: المكاتبة:

وهو أن يكتب الشيخ إلى الطالب وهو غائب شيئاً من حديثه بخطه، أو يكتب له ذلك وهو حاضر. ويلتحق بذلك ما إذا أمر غيره بأن يكتب له ذلك عنه إليه.

وهذا القسم ينقسم أيضاً إلى نوعين:

أحدهما: أن تتجرد المكاتبة عن الإجازة.

والثاني: أن تقترن بالإجازة، بأن يكتب إليه ويقول [أجزت لك ما كتبته لك، أو: ما كتبت به إليك] أو نحو ذلك من عبارات الإجازة.

أما الأول: وهو ما إذا اقتصر على المكاتبة: فقد أجاز الرواية بها كثير من المتقدمين والمتأخرين منهم أيوب السختياني، ومنصور، والليث بن سعد، وقاله غير واحد من الشافعيين، وجعلها أبو المظفر السمعاني منهم أقوى من الإجازة، وإليه صار غير واحد من الأصوليين.

وأبى ذلك قوم آخرون. وإليه صار من الشافيين القاضي الماوردي، وقطع به في كتابه الحاوي.

والمذهب الأول هو الصحيح المشهور بين أهل الحديث. وكثيراً ما يوجد في مسانيدهم ومصنفاتهم قولهم [كتب إلي فلان قال: حدثنا فلان] والمراد به هذا. وذلك معمول به عندهم، معدود في المسند الموصول. وفيها إشعار قوي بمعنى الإجازة، فهي وإن لم تقترن بالإجازة لفظاً فقد تضمنت الإجازة معنى.

ثم يكفي في ذلك أن يعرف المكتوب إليه خط الكاتب، وإن لم تقم البينة عليه.

ومن الناس من قال: الخط يشبه الخط فلا يجوز الاعتماد على ذلك. وهذا غير مرضي، لأن ذلك نادر، والظاهر: أن خط الإنسان لا يشتبه بغيره، ولا يقع فيه التباس.

ثم ذهب غير واحد من علماء المحدثين وأكابرهم، منهم الليث بن سعد ومنصور: إلى جواز إطلاق [حدثنا وأخبرنا] في الرواية بالمكاتبة.

والمختار: قول من يقول فيها [كتب إليّ فلان قال: حدثنا فلان بكذا وكذا] وهذا هو الصحيح اللائق بمذهب أهل التحري والنزاهة. وهكذا لو قال [أخبرني به مكاتبة، أو كتابة] ونحو ذلك من العبارات.

أما المكاتبة المقرونة بلفظ الإجازة: فهي في الصحة والقوة شبيهة بالمناولة المقرونة بالإجازة، والله أعلم.

القسم السادس من أقسام الأخذ ووجوه النقل: إعلام الراوي للطالب:

بأن هذا الحديث أو هذا الكتاب سماعه من فلان، أو روايته. مقتصراً على ذلك، من غير أن يقول [اروه عني، أو: أذنت لك في روايته] أو نحو ذلك.

فهذا عند كثيرين طريق مجوز لرواية ذلك عنه ونقله. حكي ذلك عن ابن جريح وطوائف من المحدثين والفقهاء والأصوليين والظاهريين، وبه قطع أبو نصر بن الصباغ من الشافعيين، واختاره ونصره أبو العباس الوليد بن بكر الغمري المالكي في كتاب [الوجازة في تجويز الإجازة].

وحكى القاضي أبو محمد بن خلاد الرامهرمزي صاحب كتاب [الفاصل بين الراوي والواعي] عن بعض أهل الظاهر: أنه ذهب إلى ذلك واحتج له. وزاد فقال: لو قال له [هذه روايتي، لكن لا تروها عني] كان له أن يرويها عنه، كما لو سمع منه حديثاً ثم قال له [لا تروه عني، ولا أجيزه لك] لم يضره ذلك.

ووجه مذهب هؤلاء اعتبار ذلك بالقراءة على الشيخ، فإنه إذا قرأ عليه شيئاً من حديث، وأقر بأنه روايته عن فلان بن فلان، جاز له أن يرويه عنه، وإن لم يسمعه من لفظه، ولم يقل له [اروه عني، أو: أذنت لك في روايته عني]، والله أعلم.

والمختار: ما ذكر عن غير واحد من المحدثين وغيرهم من: أنه لا تجوز الرواية بذلك. وبه قطع الشيخ أبو حامد الطوسي من الشافعيين، ولم يذكر غير ذلك. وهذا لأنه قد يكون ذلك مسموعه وروايته، ثم لا يأذن له في روايته عنه، لكونه لا يجوز روايته لخلل يعرفه فيه، ولم يوجد منه التلفظ، ولا ما يتنزل منزلة تلفظه به، وهو تلفظ القارئ عليه وهو يسمع ويقر به حتى يكون قول الراوي عنه السامع ذلك [حدثنا واخبرنا] صدقاً، وإن لم يأذن له فيه.

وإنما هذا كالشاهد، إذا ذكر في غير مجلس الحكم شهادته بشيء فليس لمن يسمعه أن يشهد على شهادته إذا لم يأذن له ولم يشهده على شهادته. وذلك مما تساوت فيه الشهادة والرواية، لأن المعنى يجمع بينهما في ذلك، وإن افترقا في غيره. ثم إنه يجب عليه العمل بما ذكره إذا صح إسناده، وإن لم تجز له روايته عنه، لأن ذلك يكفي فيه صحته في نفسه، والله أعلم.

القسم السابع من أقسام الأخذ والتحمل: الوصية بالكتب:

أن يوصي الراوي بكتاب يرويه عند موته أو سفره لشخص. فروي عن بعض السلف رضي الله تعالى عنهم: أنه جوز بذلك رواية الموصى له لذلك عن الموصي الراوي. وهذا بعيد جداً، وهو إما زلة عالم، أو متأول على أنه أراد الرواية على سبيل الوجادة التي يأتي شرحها، إن شاء الله تعالى.

وقد احتج بعضهم لذلك فشبهه بقسم الإعلام وقسم المناولة، ولا يصح ذلك، فإن لقول من جوز الرواية بمجرد الإعلام والمناولة مستنداً ذكرناه، لا يتقرر مثله ولا قريب منه ههنا، والله أعلم.

القسم الثامن- الوجادة:

وهي مصدر لوجد يجد، مولد غير مسموع من العرب. روينا عن المعافى ابن زكريا النهرواني العلامة في العلوم: أن المولدين فرعوا قولهم [وجادة] فيما أخذ من العلم من صحيفة من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة، من تفريق العرب بين مصادر [وجد] للتمييز بين المعاني المختلفة، يعني قولهم [وجد ضالته وُجدانا، ومطلوبه وجوداً] وفي الغضب [موجدة] وفي الغنى [وُجداً] وفي الحب [وَجداً].

مثال الوجادة: أن يقف على كتاب شخص فيه أحاديث يرويها بخطه ولم يلقه، أو: لقيه ولكن لم يسمع منه ذلك الذي وجده بخطه، ولا له منه إجازة ولا نحوها. فله أن يقول [وجدت بخط فلان، أو قرأت بخط فلان، أو في كتاب فلان بخطه: أخبرنا فلان بن فلان] ويذكر شيخه ويسوق سائر الإسناد والمتن. أو: يقول[وجدت، أو: قرأت بخط فلان عن فلان] ويذكر الذي حدثه ومن فوقه.

هذا الذي استمر عليه العمل قديماً وحديثاً، وهو باب المنقط والمرسل، غير أنه أخذ شوباً من الاتصال بقوله [وجدت بخط فلان].

وربما دلس بعضه فذكر الذي وجد خطه وقال فيه [عن فلان، أو قال فلان] وذلك تدليس قبيح، إذا كان بحيث يوهم سماعه منه، على ما سبق في نوع التدليس. وجازف بعضهم فأطلق فيه [حدثنا وأخبرنا] وانتقد ذلك على فاعله.

وإذا وجد حديثاً في تأليف شخص وليس بخطه فله أن يقول [ذكر فلان، أو قال فلان: أخبرنا فلان، أو: ذكر فلان عن فلان]. وهذا منقطع لم يأخذ شوباً من الاتصال.

وهذا كله إذا وثق بأنه خط المذكور أو كتابه، فإن لم يكن كذلك فليقل [بلغني عن فلان، أو: وجدت عن فلان] أو نحو ذلك من العبارات. أو ليفصح بالمستند فيه، بأن يقول ما قاله بعض من تقدم [قرأت في كتاب فلان بخطه، أخبرني فلان أنه بخطه] أو يقول [وجدت في كتاب ظننت أنه بخط فلان، أو: في كتاب ذكر كاتبه إنه فلان بن فلان، أو: في كتاب كتاب قيل إنه بخط فلان].

وإذا راد أن ينقل من كتاب منسوب إلى مصنف فلا يقل [قال فلان كذا وكذا] إلا إذا وثق بصحة النسخة، بأن قابلها هو أو ثقة غيره بأصول متعددة، كما نبهنا عليه في آخر النوع الأول. وإذا لم يوجد ذلك ونحوه فليقل [بلغني عن فلان أنه ذكر كذا وكذا، أو: وجدت في نسخة من الكتاب الفلاني] وما أشبه هذا من العبارات.

وقد تسامح أكثر الناس في هذه الأزمان بإطلاق اللفظ الجازم في ذلك من غير تحر وتثبت، فيطالع أحدهم كتاباً منسوباً إلى مصنف معين، وينقل منه عنه من غير أن يثق بصحة النسخة، قائلاً [قال فلان كذا كذا، أو: ذكر فلان كذا وكذا].

والصواب ما قدمناه: فإن كان المطالع عالماً فطناً، بحيث لا يخفى عليه في الغالب مواضع الإسقاط والسقط، وما أحيل عن جهته إلى غيرها، رجونا أن يجوز له إطلاق اللفظ الجازم فيما يحكيه من ذلك. وإلى هذا- فيما أحسب- استروح كثير من المصنفين فيما نقلوه من كتب الناس. والعلم عند الله تعالى. هذا كله كلام في كيفية النقل بطريق الوجادة.

وأما جواز العمل اعتماداً على ما يوثق به منها: فقد روينا عن بعض المالكية: أن معظم المحدثين والفقهاء من المالكيين وغيرهم لا يرون العمل بذلك. وحكي عن الشافعي وطائفة من نظار أصحابه جواز العمل به.

قلت: قطع بعض المحققين من أصحابه في أصول الفقه بوجوب العمل به عند حصول الثقة به. وقال: لو عرض ما ذكرناه على جملة المحدثين لأبوه. وما قطع به هو الذي لا يتجه غيره في الأعصار المتأخرة، فإنه لو توقف العمل فيها على الرواية لانسد باب العمل بالمنقول، لتعذر شرط الرواية فيها، على ما تقدم في النوع الأول، والله أعلم.

 

  • المصدر:

مقدمة ابن الصلاح: الإمام ابن الصلاح.