الحديث الرابع والثلاثون: إزالَة المُنْكَرِ فَريضَةٌ إسلاميّة
 

عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ رأى منكم مُنكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإنْ لمْ يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان». رواه مسلم.

لغة الحديث:

«منكم»: أي من المسلمين المكلفين، فهو خطب لجميع الأمة.

«منكراً»: وهو ترك واجب أو فعل حرام ولو كان صغيرة.

«فليغيره»: فليزله ويذهبه ويغيره إلى طاعة.

«بيده»: إن توقف تغييره عليها ككسر آلات اللهو وإراقة الخمر ومنع ظالم عن ضرب ونحوه.

فقه الحديث وما يرشد إليه:

1- مناسبة رواية أبي سعيد رضي الله عنه للحديث: روى مسلم: عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد مروان، فقام إليه فقال إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه- أي أدى الواجب عليه من إنكار مخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم- ثم قال سمعت... الحديث.ترك ما هنالك: أي ترك ما كنت تعلمه من تقديم الصلاة على الخطبة.

وعند البخاري ومسلم: أن أبا سعيد رضي الله عنه هو الذي جذبه من يده وقال له ما قيل، ورد عليه مروان بمثل ما ذكر، فلعل الرجل أنكر بلسانه أولاً، ثم حاول أبو سعيد رضي الله عنه تغيير المنكر ثانياً، والله تعالى أعلم.

2- مجاهدة أهل الباطل: إن الحق والباطل مقترنان على وجه البسيطة منذ وجود البشر، وكلما خمدت جذوة الإيمان في النفوس بعث الله عز وجل من يذكيها ويؤججها، وهيأ للحق رجالاً ينهضون به وينافحون عنه، فيبقى أهل الباطل والضلال خانعين، فإذا سنحت لهم فرصة نشطوا ليعيثوا في الأرض الفساد، وعندها تصبح المهمة شاقة على من خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، ليقفوا في وجه الشر يصفعونه بالفعل والقول، وسخط النفس ومقت القلب ولا يطمئن للطغاة الأشرار ويرضى بفعلهم ويخضع لهم إلا أولئك الذين انطفأ الإيمان في قلوبهم، ورضوا لأنفسهم الخزي في الدنيا والعذاب المهين في الآخرة.

3- إنكار المنكر: لقد أجمعت الأمة على وجوب إنكار المنكر، فيجب على المسلم أن ينكر حسب طاقته، وأن يغيره حسب قدرته على تغييره، بالفعل أو القول، بيده أو لسانه أو بقلبه:

أ- الإنكار بالقلب: معرفة المعروف والمنكر، وإنكار المنكر في القلب، من الفروض العينية التي يكلف بها كل مسلم، ولا تسقط عن أحد في حال من الأحوال، فمن لم يعرف المعروف والمنكر في قلبه هلك ومن لم ينكر في قلبه دل على ذهاب الإيمان منه، فقال ابن مسعود: هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر.

ب- إنكار القلب عند العجز: إنكار القلب يخلص المسلم من المسؤولية إذا كان عاجزاً عن الإنكار باليد أو اللسان قال ابن مسعود رضي الله عنه: يوشك من عاش منكم أن يرى منكراً لا يستطيع له غير أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره. والعجز أن يخاف إلحاق ضرر ببدنه أو ماله، ولا طاقة له على تحمل ذلك، فإذا لم يغلب على ظنه حصول شيء من هذا لا يسقط عنه الواجب قلبه، بل لا بد له من الإنكار باليد أو اللسان حسب القدرة.

ج- الرضا بالخطيئة- المعصية- كبيرة: من علم بالخطيئة ورضي بها فقد ارتكب ذنباً كبيراً، وأتى أقبح المحرمات، سواء شاهد فعلها أم غاب عنه وكان إثمه كإثم من شاهدها ولم ينكرها. روى أبو داود عن العُرْسِ بن عميرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها- وقال مرة: أنكرها- كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها». وذلك لأن الرضا بالخطيئة يفوت به إنكار القلب وقد علمنا أنه فرض عين، وترك فرض العين من الكبائر.

د- الإنكار باليد أو اللسان له حكمان:

1ً- فرض كفاية: إذا رأى المنكر أو علمه أكثر من واحد من المسلمين وجب إنكاره وتغييره على مجموعهم، فإذا قام به بعضهم ولو واحداً كفى وسقط الطلب عن الباقين وإذا لم يقم به أحد أثم كل من كان يتمكن منه بلا عذر ولا خوف ودل على الوجوب على الكفاية قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [آل عمران:104].

2ً- فرض كفاية: وإذا رأى المنكر أو علمه واحد، وهو قادر على إنكاره أو تغييره، فقد تعين عليه ذلك. وكذلك إذا رآه أو علمه جماعة، وكان لا يتمكن من إنكاره إلا واحد منهم فإنه يتعين عليه، فإن لم يقم به أثم. دل على هذا عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً»

4- عاقبة ترك إزالة المنكر مع القدرة عليها: إذا ترك النهي عن المنكر استشرى الشر في الأرض، وشاعت المعصية والفجور، وكثر أهل الفساد، وتسلطوا على الأخيار وقهروهم، وعجز هؤلاء عن ردعهم بعد، فتطمس معالم الفضيلة، وتعم الرذيلة، وعندها يستحق الجميع غضب الله تعالى وإذلاله وانتقامه، قال الله تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ78/5كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة:78- 79]. والأحاديث في هذا كثيرة منه: «ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا، إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا».

5- تصحيح لفهم خاطئ: يخطئ الكثير من المسلمين حين يرغبون في تبرير انهزامهم وتقصيرهم في إنكار المنكر، فيحتجون بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: 105]. على أن الآية نفسها توجب القيام بإنكار المنكر إذا فهمت الفهم الصحيح، وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب».

6- ترك الإنكار خشية وقوع مفسدة: إذا كان المكلف قادراً على إنكار المنكر الذي رآه أو علمه، لكنه غلب على ظنه أن تحدث نتيجة إنكاره مفسدة ويترتب عليه شر، هو أكبر من المنكر الذي أنكره أو غيره، فإنه في هذه الحالة يسقط وجوب الإنكار، عملاً بالأصل الفقهي: يرتكب أخف الضررين تفادياً لأشدهما.

7- الأمر والنهي لمن علم أو غلب على الظن عدم قبوله: ذهب العلماء إلى القول بوجوب الأمر والنهي لمن علم انه لا يقبل منه، ليكون في هذا معذرة للمسلم الآمر الناهي، ولأن المطلوب منه هو الإنكار لا القبول، كما صرح به النووي رحمه الله تعالى في كلامه السابق، لأن الله تعالى يقول: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ﴾ [الغاشية:21]. وفي ذلك رد صريح على أولئك الذين يجتنبون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويريدون أن يصدوا غيرهم عن القيام بواجبه، فيقولون، لا تتعب نفسك ودع الأمور، لا فائدة من الكلام وربما احتجوا خاطئين بقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص:56]. ويغيب عن ذهنهم أنها نزلت في شأن أبي طالب الذي ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر حتى لفظ الأنفاس الخيرة وهو على شركه، فنزلت الآية تواسي النبي صلى الله عليه وسلم لحزنه على عمه الذي دافع عنه وناصره مبينة له: أنه لا يستطيع أن يجعل الهداية في قلب من أحب لا أنها تنهاه عن المر والنهي.

8- قول الحق دون خوف أو رهبة: على المسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر دون أن يلتفت إلى شأن من يأمره أو ينهاه، من منصب أو جاه أو غنى، ودون أن يلتفت إلى لوم الناس وعبثهم وتخذيلهم، ودون أن يأبه بما قد يناله من أذى مادي أو معنوي يقدر على تحمله ويدخل في طاقته، على أن يستعمل الحكمة في ذلك ويخاطب كلاً بما يناسبه، ويعطي كل موقف ما يلائمه. أخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبه: «ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه» وبكى أبو سعيد رضي الله عنه وقال: قد والله رأينا أشياء فهبنا. وأخرجه الإمام أحمد وزاد فيه: «فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقال بحق أو يذكر بعظيم».

9- أمر الأمراء ونهيهم: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الأمة، كما أنه حق لها. والأمة رئيس ومرؤوس، فكما يجب على الأمراء أن يأمروا وينهوا الرعية كذلك يجب على الأمة أن تأمر وتنهي أمراءها، قياماً بالواجب وأداءً للحق. وقد مر بك حديث مسلم «فمن جاهدهم بيده...» وجهادهم: أن يزيل بيده ما فعلوه من المنكرات، بأن يريق خمورهم ويكسر آلات لهوهم إن فعلوا ذلك، ويبطل بيده ما أمروا به من معصية أو ظلم.

10- مناصحة لا فتنة: ليس تغيير المنكر بالسيف والسلاح الذي يخشى منه الفتن ويؤدي إلى سفك دماء المسلمين هو المطلوب، ولكن المناصحة التي هي حقيقة الدين كما علمت فيما سبق عن الخليفتين الراشدين، قال عليه الصلاة والسلام: «الدين النصحية، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه مسلم. والنصح لكتاب الله تعالى العمل به، والنصح لرسوله صلى الله عليه وسلم بالتزام سنته، والنصح للمسلمين أئمةً وعامةً بالتآمر بينهم بالمعروف والتناهي عن المنكر. قال تعالى: ﴿9وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ﴿ [التوبة:71].

11- الغلظة واللين في الأمر والنهي: ينبغي أن يكون الأمر بالمعروف والنهي  عن المنكر بحكمة، كما قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل:125]. وتختلف الحكمة حسب حال المأمور والمنهي، وما يؤمر به أو ينهى عنه، وما يكون أنفع وأبلغ في الزجر، فتارة ينبغي استعمال اللين في القول والمجاملة والمداراة، تارة لا تصلح إلا القسوة والغلظة، قال تعالى: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى43/20فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه:43-44] ولذلك كان من يأمر وينهى لا بد فيه من صفات، أهمها: الرفق، والحلم، والعدل، والعلم. قال سفيان الثوري: لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال: رفيق بما يأمر رفيق بما ينهى، عدل يما يأمر وعدل بما ينهى، وعالم بما يأمر عالم بما ينهى.

12- المصابرة وتحمل الأذى في المر والنهي: قال ابن شبرمة، ونص عليه أحمد: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالجهاد، يجب على الواحد أن يصابر فيه الاثنين، ويحرم عليه الفرار منهما، ولا يجب عليه مصابرة أكثر من ذلك، وإن احتمل الأذى وقوي عليه فهو أفضل، قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ [لقمان:17]. فإن خاف السب أو سماع الكلام السيء لم يسقط عنه الإنكار بمثل هذا.

13- كرامة لا ذلة: ليس فيما ينال المسلم من أذى في سبيل أمره ونهيه ذلة أو مهانة، وإنما هي عزة وشرف ورفعة في الدنيا والآخرة، وشهادة في سبيل الله عز وجل، بل أعظم شهادة قيل لأحمد: أليس قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس للمؤمن أن يذل نفسه» أي يعرضها من البلاء ما لا طاقة له به؟ قال: ليس هذا من ذلك. أي إنه إذا علم أنه لا يطيق الأذى ولا يصبر عليه، والكلام فيمن علم من نفسه الصبر على ذلك. فالأول ينكر بقلبه ويسلم، وإن أنكر بيده كان أفضل.

14- إنكار منكر ظاهر أو معلوم، لا تجسس على خفي متوهم مستور: يجب على المسلم أن ينكر المنكر إذا كان ظاهراً وشاهده ورآه، دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً». فإذا داخله ريبة وشك في منكر خفي مستور عنه، فإنه لا يتعرض له ولا يفتش عنه، لأن هذا النوع من التجسس المنهي عنه. ويقوم مقام الرؤية علمه بالمنكر، وتحققه عن وقوعه ومعرفة موضعه، كما أخبره ثقة بذلك، أو كانت هنالك قرائن تجعل الظن غالباً بوجود المنكر، ففي هذه الحالة يجب عليه الإنكار بالطريقة المناسبة التي تكفل القضاء على المنكر واستئصال جذور الشر والفساد من المجتمعات. وقد قيل لابن مسعود رضي الله عنه: إن فلاناً تقطر لحيته خمراً، فقال: نهانا الله عن التجسس.

15- لا إنكار لما اختلف فيه: لقد قرر العلماء أن الإنكار يكون لفعل ما أجمع المسلمون على تحريمه أو ترك ما أجمعوا على وجوبه، كشرب الخمر والتعامل بالربا وسفور النساء ونحو ذلك، أو ترك الصلاة أو الجهاد ونحو ذلك أيضاً. أما ما اختلف العلماء في تحريمه أو وجوبه فلا ينكر على فعله أو تركه، شريطة أن يكون هذا الاختلاف ممن يعتد بهم العلماء، وان يكون ناشئاً عن دليل. فلا يعتد بخلاف المبدعة والفرق المخالفة للسنة كالخوارج ونحوهم.

16- عموم المسؤولية وخصوصها: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب الأمة جمعاء، فكل مسلم علم بالمنكر وقدر على إنكاره وجب عليه ذلك على الوجه الذي علمت، لا فرق فيذلك بين حاكم ومحكوم أو عالم وعامي. قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [آل عمران:11]. ولكن هذه المسؤولية تتأكد على صنفين من الناس، هما العلماء والأمراء:

أ- أما العلماء: فلأنهم يعرفون من شرع الله تعالى ما لا يعرفه غيرهم من الأمة، ولما لهم من هيبة في النفوس واحترام في القلوب، مما يجعل أمرهم ونهيهم أقرب إلى الامتثال وادعى إلى القبول، ولما أعطاهم الله تعالى من الحكمة والموعظة الحسنة، قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة:11].

ب- وأما الأمراء: أي الحكام، فإن مسؤوليتهم أعظم، وخطرهم إن قصروا في الأمر والنهي أكبر، لأن الحكام لهم ولاية وسلطان، ولديهم قدرة على تنفيذ ما يأمرون وينهون عنه وحمل الناس على الامتثال، ولا يخشى من إنكارهم مفسدة، لأن القوة والسلاح في أيديهم والناس ما زالوا يحسبون حساباً لأمر الحاكم ونهيه. ولذا قال عليه الصلاة والسلام: «من يزع السلطان أكثر ممن يزع القرآن» ذكره ابن الأثير في النهاية. أي إن هناك أناساً لا يتأثرون بالموعظة والإرشاد فيرتدعوا عن المخالفة ويذعنوا للحق، بينما يرتدعون وينزجرون حين يلوح لهم الحاكم بعصا أو يريهم بريق سيفه.

17- من لآداب الآمر والناهي: أن يكون ممتثلاً لما يأمر به، مجتنباً لما ينهى عنه، حتى يكون لأمره ونهيه أثر في نفس من يأمره وينهاه، ويكون لفعله قبول عند الله عز وجل، فلا يكون تصرفه حجة عليه توقعه في نار جهنم يوم القيامة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ2/61كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف:2-3]. كبر مقتاً: عظم مقته له سبحانه أي اشتد غضبه لذلك.

18- من خصال الإيمان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصال الإيمان، وتتفاوت درجة الآمر والناهي في الفضل حسب درجة أمره ونهيه، فالذي يغير بيده أفضل ممن يغير بلسانه، والذي يغير بلسانه أفضل ممن يقتصر على الإنكار في قلبه وإن كان عاجزاً عما قبله، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «وذلك أضعف الإيمان». كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير».

19- النية والقصد في الأمر والنهي: ينبغي أن يكون الحامل على الأمر والنهي هو ابتغاء رضوان الله تعالى وامتثال أمره، لا حب الشهرة والعلو وغير ذلك من الأغراض الدنيوية. فالمؤمن يأمر وينهى غضباً لله تعالى إذا انتهكت محارمه ونصيحة للمسلمين ورحمة بهم إذا رأى منهم ما يعرضهم لغضب الله عز وجل وعقوبته في الدنيا والآخرة، وإنقاذاً لهم من شر الويلات والمصائب عندما ينغمسون في المخالفات وينقادون للأهواء والشهوات. يبتغي من وراء ذلك كله الأجر والمثوبة عند الله سبحانه ويقي نفسه من أن يناله عذاب جهنم إن هو قصر في أداء الواجب وترك المر والنهي. روى البخاري ومسلم: عن جرير بن عبد الله البخلي رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم.

20- العبودية الحقة: قد يكون الباعث لدى المؤمن على الأمر والنهي إجلاله البالغ لعظمة الله سبحانه، وشعوره أنه أهل لأن يطاع فلا يعصي، وأن يذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر ويذكي ذلك في نفسه محبته الصادقة لله عز وجل وهذه مرتبة لا يصل إليها إلا من تحققت في نفسه العبودية الخالصة لله عز وجل، وانظر إليه صلى الله عليه وسلم وقد آذاه قومه وضربوه، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

21- خلاصة وتوجيه من عالم رباني: لقد تكلم الإمام النووي رحمه الله تعالى بكلام في شرح مسلم يكاد يكون صفوة القول ومنهجاً كاملاً في هذا الباب نثبته لك ها هنا قال رحمه الله تعالى: أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الزمان إلا رسوم قليلة جداً، وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله بعقابه: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63].فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضا الله عز وجل أن يعتني بهذا الباب، فإن نفعه عظيم، لا سيما وقد ذهب معظمه ويخلص نيته، فقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه. والله أعلم.

 

* أهم المصادر والمراجع:

- الوافي في شرح الأربعين النووية: د. مصطفى البغا / محي الدين مستو.

- الرياض الندية في شرح الأربعين النووية: الإمام ابن دقيق العيد / العثيمين / الإمام النووي.

- الجواهر اللؤلؤية في شرح الأربعين النووية: محمد عبدالله الجرداني.

- شرح الأربعين النووية: الإمام النووي.