الحديث السابع والثلاثون: عَدلُ اللهِ تَعالى وفَضْلُهُ وقُدرتُه
 

عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يَرْويه عن ربِّهِ تبارك وتعالى قال: «إنَّ الله كتبَ الحسناتِ والسَّيِّئاتِ ثُمَّ بين: فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً، وإنْ همَّ بها فعملها كتبها اللهُ عنده عشرَ حسناتٍ إلى سبعمائة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، وإن هَمَّ بسيئةٍ فلم يعملها كتبها اللهُ عنده حسنةً كاملةً، وإن هَمَّ بها فعملها كتبها اللهُ سيئةً واحدة» رواه البخاري ومسلمٌ في صحيحيهما بهذه الحروف.

فانظر يا أخي وفقنا اللهُ وإيَّاك إلى عظيم لُطفِ الله تعالى، وتأمل هذه الألفاظ.

وقوله: «عنده» إشارة إلى الاعتناء بها.

وقوله: «كاملةً» للتأكيد وشدَّةِ الاعتناء بها.

وقال في السيئة التي هَمَّ بها، ثمَّ تركها الله عنده حسنةً كاملةً، فأكدها بكاملة. وإنْ عملها كتبها سيئة واحدةً، فأكد تقليلها بواحدةٍ، ولم يؤكدها بكاملةٍ، فلله الحمد والمنَّة، سبحانه لا نُحصي ثناءً عليه، وبالله التَّوفيق.

أهمية الحديث: هذا الحديث القدسي فيه بشارة كبرى، وأمل عظيم في فضل الله العميم، ورحمته الغامرة التي وسعت كل شيء، إنه يبعث في النفس الأمل المشرق، ويوطنها على العمل والكدح ضمن مراقبة الله وعلمه، وتحت سلطانه وهيمنته وعدالته ولطفه.

لغة الحديث:

«كتب الحسنات والسيئات»: أمر الملائكة الحفظة بكتابتهما- كما في علمه- على وفق الواقع.

«هم»: أراد وقصد، والهم ترجيح قصد الفعل، تقول: هممت بكذا أي قصدته بهمتي، وهو فوق مجرد خطور الشيء بالقلب.

«بحسنة»: بطاعة مفروضة أو مندوبة.

«ضعف»: مثل. قال الأزهري: الضعف في كلام العرب المثل، هذا هو الأصل، ثم استعمل الضعف في المثل وما زاد، وليس للزيادة حد.

«بسيئة»: بمعصية صغيرة كانت أو كبيرة.

فقه الحديث وما يرشد إليه:

تمهيد: تضمن الحديث كتابة الحسنات والسيئات، والهم بالحسنة والسيئة، وفيما يلي الأنواع الأربعة:

1- عمل الحسنات: كل حسنة عملها العبد المؤمن له بها عشر حسنات؛ وذلك لأنه لم يقف بها عند الهم والعزم، بل أخرجها إلى ميدان العمل، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام:160]. وأما المضاعفة على العشر لمن شاء الله أن يضاعف له، فدليله قول الله تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261]. ومضاعفة الحسنات زيادة على العشر إنما تكون بحسب حسن الإسلام، وبحسب كمال الإخلاص، وبحسب فضل العمل وإيقاعه في محله الملائم.

2- عمل السيئات: وكل سيئة يقترفها العبد تكتب سيئة من غير مضاعفة، قال تعالى: ﴿وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [الأنعام:160]؛ لكن السيئة تعظم أحياناً بسبب شرف الزمان أو المكان أو الفاعل:

أ- فالسيئة أعظم تحريماً عند الله في الأشهر الحرم؛ لشرفها عند الله، قال تعالى: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾ [التوبة:36]

ب- والخطيئة في الحرم أعظم لشرف المكان، قال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة:197] ولذلك كان جماعة من الصحابة والسلف يتقون سكنى الحرم خشية ارتكاب الذنوب فيه، وعن مجاهد قال: تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات.

ج- والسيئة من بعض عباد الله أعظم؛ لشرف فاعلها وقوة معرفته بالله وقربه منه سبحانه وتعالى؛ قال تعالى: ﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا30/33وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ﴾ [الأحزاب:30-31].

3- الهم بالحسنات: ومعنى الهم الإرادة والقصد، والعزم والتصميم، لا مجرد الخاطر؛ فمن هم بحسنة كتبها الله عنده حسنة واحدة، وذلك لأن الهم بالحسنة سبب وبداية إلى عملها، وسبب الخير خير، وقد ورد تفسير الهم في حديث أبي هريرة عند مسلم  «إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فانا أكتبها له حسنة»  وقال سعيد ابن المسيب: من هم بصلاة أو صيام أو حج أو غزوة، فحيل بينه وبين ذلك بلغه الله تعالى ما نوى.

4- الهم بالسيئات: وإذا هم العبد بسيئة ولم يعملها، كتبت له حسنة كاملة، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: «إنما تركها من جرائي» وعند البخاري «وإن تركها من أجلي» وهذا يدل على أن ترك العمل مقيد بكونه لله تعالى، فهذا التارك يستحق الحسنة الكاملة؛ لأنه قصد عملاً صالحاً، وهو إرضاء الله تعالى العمل السيء. أما من ترك السيئة بعد الهم بها مخافة من المخلوقين أو مراءاة لهم، فإنه لا يستحق أن تكتب له حسنة، بل قيل إنه يعاقب على ترك السيئة بهذه النية، وذلك لأنه قدم الخوف من الناس على الخوف من الله وهو حرام، وكذلك قصد الرياء للناس حرام.

5- الفضل العظيم: في رواية مسلم زيادة: «أو محاها الله تعالى، ولا يهلك على الله تعالى إلا هالك» وهذا يدل على فضل الله العظيم، الذي لا يهلك معه إلا من ألقى بيده إلى التهلكة، وتجاوز الحدود، وتجرأ على السيئات، وأعرض عن الحسنات، ولهذا قال ابن مسعود: ويل لمن غلبت وحدته على عشراته.

6- اطلاع الملائكة على ما يهم به الإنسان: وهذا يحصل لهم إما بإلهام، أو بكشف عن القلب، وقيل: يجد الملك للهم بالسيئة رائحة خبيثة وبالحسنة رائحة طيبة.

7- فضل الصيام: يمتاز الصيام عن غيره من العبادات بأنه لا يعلم قدر مضاعفة ثوابه إلا الله تعالى؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به» ذلك لأنه أفضل أنواع الصبر، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر:10].

8- أن رحمة الله بعباده المؤمنين واسعة، ومغفرته شاملة، وعطاءه غير محدود.

9- لا يؤاخذ الله تعالى على حديث النفس والتفكير بالمعصية إلا إذا صدق ذلك العمل والتنفيذ.

10- على المسلم أن ينوي فعل الخير دائماً وأبداً، لعله يكتب له أجره وثوابه، ويروض نفسه على فعله إذا تهيأت له الأسباب.

11- الإخلاص في فعل الطاعة وترك المعصية هو الأساس في ترتب الثواب، وكلما عظم الإخلاص كلما تضاعف الأجر وكثر الثواب.

* * *

* أهم المصادر والمراجع:

- الوافي في شرح الأربعين النووية: د. مصطفى البغا / محي الدين مستو.

- الرياض الندية في شرح الأربعين النووية: الإمام ابن دقيق العيد / العثيمين / الإمام النووي.

- الجواهر اللؤلؤية في شرح الأربعين النووية: محمد عبدالله الجرداني.

- شرح الأربعين النووية: الإمام النووي.