الشبهة: اختلاف الصحابة وتعارضهم في السنة.
 

إن وقوع الاختلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم لم يقتصر على التعدد في الرواية بل تجاوزه إلى الاختلاف في تفسير الأحاديث التي يروونها، فكيف يكونون حجة في الدراية في السنة وهم مختلفون في تفسيرها؟ ولقد حكى هذه الشبهات الإمام ابن قتيبة رحمه الله في مقدمة كتابه النفيس: (تأويل مختلف الحديث) مستعرضاً بعض شبهاتهم ومن ذلك: (قالوا: ومن أعجب شأنهم – أي أصحاب الحديث – أنهم ينسبون الشيخ إلى الكذب ولا يكتبون عنه ما يوافقه عليه المحدثون بقدح يحي بن معين وابن المديني وأشباههما، ويحتجون بحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – فيما لا يوافقه عليه أحد من الصحابة، وقد أكذبه عمر وعثمان وعائشة، ويحتجون بقول فاطمة بنت قيس وقد أكذبها عمر وعائشة وقال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة) ، فقد حكى عن هؤلاء القادحين في السنة زعمهم أن الصحابة يكذب بعضهم بعضاً في الحديث وفي فهم الحديث، فكيف يكونون حجة في السنة والدراية بها؟

* جواب الشبهة الثانية:

لقد أسهب المستشرقون ومن تابعهم ممن يدور في فلكهم من بني جلدتنا في تتبع ما يزعمون أنه أحاديث وأقوال متناقضة للصحابة ولقد تتبع بعض العلماء المعاصرين افتراءاتهم وردوا على شبهاتهم رداً تفصيلياً، ولا يتسع المقام في هذه الرسالة لمثل هذا الرد التفصيلي ولكن أورد رداً مجملاً على هذه الافتراءات فأقول وبالله التوفيق:

إن السنة النبوية الصحيحة التي تثبت نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة شرعية لا ريب، وهذه السنة الصحيحة تنقسم من حيث الدلالة كما تنقسم نصوص القرآن الكريم إلى نصوص محكمة قطعية الدلالة وإلى نصوص مشتبهة ظنية الدلالة؛ وفي حين لا يسع المسلم إلا أن ينقاد للمحكم إيماناً وانقياداً، فإنه يسع المسلم أن يُعمل فكره واجتهاده في النصوص المشتبهة بغية استنباط الحكم الشرعي المراد منها، وهذا ما يمكن أن نسميه (فقه الحديث).

فأما القسم الأول وهو ما يتعلق بالمحكمات فهذا ما لم يختلف فيه الصحابة رضوان الله عليهم، وأما ما يتعلق بنصوص السنة التي تتسع للاجتهاد فالاختلاف قد وقع بين الصحابة في فهمها والاستنباط منها ولكنه اختلاف تعدد في الاجتهاد السائغ وهم أهله، لا اختلاف تناقض بالمعنى الذي يقدح في حجيتهم.

وحكى الإمام البيهقي كلاماً نفيساً للإمام الشافعي رحمهما الله حيث قال بعد أن ذكر الصحابة وأثنى عليهم: (وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استُدرك به علم واستُنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا والله أعلم، ومن أدركنا ممن أرضى أو حُكي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سُنة إلى قولهم إن اجتمعوا، وقول بعضهم إن تفرقوا، فهكذا نقول: إذا اجتمعوا أخذنا باجتماعهم، وإن قال واحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله، فإن اختلفوا أخذنا بقول بعضهم ولم نخرج من أقاويلهم كلهم).

قلت: وهذا تحرير نفيس جداً وحاصله ما يلي:

اتفاق الصحابة على قول واحد: وهذا حجة ولا مورد فيه للشبهة المذكورة.

أن يؤثَر قولٌ عن أحد الصحابة ولا يُعلم له موافق ولا مخالف (وإن كان سكوت باقي الصحابة نوع موافقة) وهذا أيضاً حجة. والكلام هنا على ما لا يوجد فيه نص في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بحيث يُحتاج إلى قول الصحابي، وهذا القول بهذه الضوابط حجة كما ذكر الإمام الشافعي رحمه الله.

أن يؤثَر أكثرُ من قولٍ عن الصحابة: وهو مورد الشبهة هنا وهذا يكون في الأمور الاجتهادية فيُنظر إلى أقرب الأقوال إلى الكتاب والسنة والأصول، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: (وإذا قال الرجلان منهم- أي من الصحابة -  في شيء قولين مختلفين نظرت فإن كان قول أحدهما أشبه بكتاب الله أو أشبه بسنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم  أخذت به، لأن معه شيئاً يقوى بمثله ليس مع الذي يخالفه مثله، فإن لم يكن على واحد من القولين دلالة بما وصفت كان قول الأئمة أبي بكر أو عمر      أو عثمان رضي الله عنهم أرجح عندنا من أحد لو خالفهم غير إمام)، والحاصل أنه يُتخير من مجموع أقوال الصحابة ولا يُخرج عن مجموع هذه الأقوال لأن الحق       محصور في أحدها.

وهكذا نجد أن هذا الاختلاف في هذا السياق ليس بقادح لأنه اختلاف ناجم عن اجتهاد في نصوص يسوغ الاجتهاد فيها وهم أهلٌ لهذا الاجتهاد. بل لقد ثبتت السنة الصحيحة التي تقر الصحابة على هذا الاجتهاد والتي تؤكد صحة ما قرره الإمام الشافعي من أن الحق لا يخرج عن مجموع أقوال الصحابة، ودليل ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب: لا يصلِّينَّ أحدٌ العصرَ إلا في بني قريظة فأدرك بعضَهم العصرُ في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يُرد منا ذلك. فذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يُعنِّف واحداً منهم».

قال الحافظ العيني رحمه الله: (ولم يعنف الشارع واحداً منهما لأنهم مجتهدون).

فهذا الحديث الصحيح أصلٌ في مسألتنا، وتوجيهه أننا أمام نص صحيح من السنة سمعه الصحابة رضوان الله عليهم مِن فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اختلفوا في تدبره والدراية به على قولين: أحدهما: راعى الظاهر، والآخر: راعى المعنى، وكلٌ مجتهدٌ مأجور، ولم يرد عنهم في فهم الحديث قول ثالث. ثم لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بمجموع أقوالهم لم يزد قولاً ثالثاً ولو كان الحق في فهم الحديث عنه خارجاً عن مجموع أقوالهم لبلَّغه صلوات الله وسلامه عليه لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، كما أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر الصحابة على الخطأ. ولا يُقال إنه سكت لأنهم مجتهدون وإن أخطؤوا لأن سكوته صلى الله عليه وسلم عن تخطئتهم من جهة الاجتهاد لا يستلزم سكوته عن بيان وجه الحق في فهم الحديث، فُعلم من سكوته صلى الله عليه وسلم وعدم تعنيفه واحداً من الفريقين أمران:

- أحدهما: أن المجتهد لا يُعنَّف.

- والثاني: أن وجه الحق في فهم حديثه صلى الله عليه وسلم موجود في مجموع أقوال الصحابة، وهو المطلوب.

بقي أن نشير إلى أمر سبقت الإشارة إليه وهو ما يرد في بعض أحاديث الصحابة من لفظ (كذب، كذبت) في معرض كلام الصحابي على كلام صحابي آخر مما يُتوهم فيه الكذب الذي هو تعمد ذكر ما خالف الحقيقة، وبينا سابقاً أن هذا اللفظ جار مجرى كلام العرب بمعنى (أخطأت)، فلا يبقى منفذ لأصحاب الشبهات من خلال هذه الكلمة، ولو أن المسلمين اليوم حرصوا على التفقه في لغة العرب لما أعوزهم كثيرٌ من درء الشبهات التي يوردها الأعداء على نصوص الشريعة، وما أجمل ما أُثر عن وكيع رحمه الله قال: «يا فتيان تفهموا فقه الحديث فإنكم إن تفهمتم فقه الحديث لم يقهركم أهل الرأي»، والله المستعان.

بهذا نكون قد استعرضنا بعض الشبهات الواردة على مسألة حجية الصحابة في السنة رواية ودراية، ولا شك أن الشياطين لا تزال توحي إلى أوليائها ليجادلوا أهل الحق بالشبهات وبزبالات الأفكار، ولكن رد الأمور إلى أدلة الشرع النقلية والعقلية المحكمة كفيل بتشتيت سحب الضلال وتبديد هجمات أهل الباطل، والحمد لله.

·         المصدر:

- حجية الصحابة في أصول الدين: د. وسيم فتح الله.