القرآن أصل كلّ ما في السُّنَّة
 

كل ما في السُّنَّة من المعاني لا بدّ أن يكون أصلٌ قرآنيٌّ يدل على ذلك الآيات التي تنصّ على أن كل شيء في القرآن وأن الدِّين قد كَمُلَ به، وأن الرَّسول صلى الله عليه وسلم وظيفته البيان وتبليغ ما أنزل إليه من ربه كما ذلك وظيفة الذين أُوتوا الكتاب من العلماء وذلك مثل قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [سورة النحل:89] وقوله تعالى: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾ [سورة الأنعام:38] وقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ [سورة المائدة:3] يعني إكماله بنزول القرآن وقوله تعالى:﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [سورة النحل: 44].

وقد دلَّ الاختبار على أنه لم يلجأ عالمٌ مفكر إلى القرآن في مسألةٍ إلا وجد لها فيه أصلاً.

فهذا ابن عباس استدلّ بقوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ [سورة الأحقاف:15] مع قوله: ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ [سورة لقمان:14] على أن مدة الحمل قد تكون ستة أشهر.

وهذا مالك بن أنس استدلّ على أن مَنْ سبَّ الصَّحابة لاحظَّ له في الفيء بقوله تعالى- في معرض تقسيم الفيءِ بين المهاجرين والأنصار-: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحشر:10].

وذلك المنذر بن سعيد استدل على أن العربي غير مطبوع على العربية بقوله تعالى: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [سورة النحل:78].وسمعت عالماً معاصراً يستدل على أن الوالد ينتقي لأولاده المراضع السليمة من الأمراض والعيوب بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ﴾ [سورة البقرة:233]أي لا بأس بالاسترضاع إذا وجدتم المرضع التي تعطونها الولد سليمة من العيوب بطرق البحث المتعارفة، واستدلَّ على ذلك معنى ﴿سَلَّمْتُم﴾ بقوله تعالى في بقرة بني إسرائيل: ﴿مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ﴾ [سورة البقرة:71]، إلى غير ذلك من الاستدلالات.

فإن قيل قد ورد في القرآن والسُّنَّة ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستقل بالتشريع، ووجد في السُّنَّة أحكامٌ كثيرةٌ لم يظهر لها أصلٌ قرآنيٌّ. فمما ورد في القرآن قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ [سورة النساء:59]. وقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [سورة الحشر:7].

ففي الآية الأولى أمرنا بإطاعة الله وإطاعة الرسول، وإطاعة الله امتثال ما أمر واجتناب ما نهى مما جاء في كتابه، وكذلك إطاعة الرسول.

والظاهر أن ما فيه الطاعة لكلٍّ منهما يخالف الآخر، بدليل أننا أُمرنا بإطاعة كلٍّ منهما استقلالاً، وكذلك أُمرنا في الآية بأن نردّ ما تنازعنا فيه إلى الله وإلى الرسول، والردّ إلى الله بتحكيم كتابه، وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم بتحكيمه في حياته وتحكيم سنّته بعد وفاته، ولو كان ما يحكم به الرسول صلى الله عليه وسلم في كتابه لاكتفى بذكر الردّ إلى الله. وفي الآية الثانية أمرنا بأخذ ما أعطانا الرسول صلى الله عليه وسلم والانتهاء عمّا نهى عنه، وحذّرنا من العقاب إن لم نمتثل.

ومما ورد في السُّنَّة ما أخرجه أحمد، وابن ماجه، والحاكم عن الْمِقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشِك رجلٌ منكم متكئاً على أريكته يُحَدِّث بحديثٍ عني فيقول: بيننا وبينكم كتابُ الله فما وجدنا فيه من حلالٍ استحللناه وما وجدنا فيه من حرامٍ حرَّمْنَاه، ألا وإن ما حرَّمَ رسول الله مثل الذي حرَّم اللهُ».ومن الأحكام الواردة في السُّنَّة: تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي نابٍ من السِّباع، ومخلبٍ من الطير، ورجم المحصن، إلى كثيرٍ مما ملئت به مدونات فقه الحديث والكتب الجامعة لأحاديث الأحكام، كـ «بلوغ المرام» لابن حجر، و«المنتقى» للمجد بن تَيْمِيَّة، وشرحه «نيل الأوطار» للشَّوْكَاني.

فالجواب انه ليس فيما ذكر ما يدل على استقلال السُّنَّة بتشريع الأحكام، وذلك لأن القرآن نصَّ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يتبع ما يوحى إليه، فهو لا يأمر ولا ينهى إلا بما أمر به الله أو نهى عنه، وباعتبار أن الأمر أو النهي يصدر منه بعبارته وبيانه صحّ أن تضاف الطاعة إليه، يؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ﴾ [سورة النساء:80] فجعل إطاعة الرسول إطاعةً لله، ما ذاك إلا لأنه لا يأمر إلا بما أمر به الله، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم وظيفته البيان، والبيان غير المبيَّن، فالبيان مفصلٌ، والمبيَّن مجملٌ، فكان هناك نوع مخالفة، فمن اتبع المبيَّن فقد أطاع الله، ومن اتبع بيان الرسول صلى الله عليه وسلم لكلام الله فقد أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن عمد إلى بيان غيره مع وجود بيانه فقد عصاه، فقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾ [سورة النساء:43] مجملٌ، بينه وفصله عمل الرسول صلى الله عليه وسلم من قيامٍ، وركوعٍ، وسجودٍ، وسجودٍ، وقعودٍ، وسلامٍ، إلخ، فمن فسر الصَّلاة بغير ما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فقد عصاه واتبع هواه، ومن ترك الصَّلاة فقد خالف الإله.

والردّ إلى الرسول هو الرد إلى سنّته، وما سنّته إلا بيانه للقرآن وتطبيقه على سير النَّاس ومعاملاتهم. على أنه قد يكون حكم ما تنازعنا فيه في القرآن واضحاً جليّاً فلا يحتاج المختلف إلى مرشدٍ، وقد لا يعرفه بنفسه فيسأله عنه أعلم النَّاس بكتاب الله وهو رسوله ومصطفاه، وأما حديث المقدام بن معدي كرب ففي سنده زيد بن الحُبَاب قال فيه الإمام أحمد: إنه صدوق كثير الخطأ، وكذلك قال فيه ابن حبّان، وقد تُكُلِّمَ في أحاديث له رواها عن سفيان وقد تركه الشيخان لذلك.

وأما ما ورد في السُّنَّة من الأحكام، فإنْ كان مخالفاً لظاهر القرآن فالقرآن مقدمٌ عليه كما أثبتناه في صدر هذا الفصل، ويعتبر ذلك طعناً في الحديث من جهة متنه ولفظه، وإن صحّ سنده، فإن الحديث لا يكون حجةً إلا إذا سلم سنده ومتنه من الطعن، ولذلك أجاز بعض المسلمين نكاح المرأة على عمتها أو خالتها كما قدّمنا.

وكان ابن عباس، وابن عمر، وعائشة يحتجون بقوله تعالى: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ﴾ [سورة الأنعام:145] على حصر محرمات الطعام في الأربعة المذكورة، وإباحة ما عداها من لحوم الحمر الأهلية وكل ذي نابٍ أو مخلبٍ، ورجم المحصن مع اضطراب الأدلة فيه يصحّ أن تشمله آية: ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ﴾ [سورة المائدة:33].

فإن الذي يجني على أعراض النَّاس ويتناول الخبيث وتحت يده الطيب لا شك محاربٌ لله وللرسول وساعٍ في الأرض فساداً، فالرسول صلى الله عليه وسلم تخير له عقوبة مناسبة من العقوبات الأربع المذكورة في الآية، وإن كان ما في السُّنَّة لا يخالف ظاهر القرآن فهو اجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم يرجع إلى قرآنيٍّ عرفه الرسول صلى الله عليه وسلم وجهلناه نحن أو عرفناه.

 

  • المصدر:

كتاب تاريخ فنون الحديث: الشيخ محمد عبدالعزيز الخولي.