لا تستصغر المعروف
 

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرنَّ من المعروف شيئاً، ولو أن تلقي أخاك بوجهٍ طليقٍ» رواه مسلم.

فكن أخا الإسلام

منفذاً للمراد من هذه الوصية العظيمة التي تُرغِّبنا جميعاً في بذل المعروف لأخواننا لله وفي الله..ولا سيما الفقراء منهم والمساكين..الذين ينبغي أن يكون في مقدمتهم أولو الأرحام الذين أشار الله تعالى إلى أولويتهم في آية البرِّ التي يقول الله في نصها: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْـمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْـمُتَّقُونَ﴾ [البقرة:177].

(وقد) ورد في السُنة المطهرة ما يُرغِّب في كل هذا:

(فعن) سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» وأشار بالسبابة والوسطى وفرَّج بينهما. رواه البخاري. «وكافل اليتيم» أي القائم بأموره.

(وعن) أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي ترُّده التمرة والتمرتان ولا اللقمة واللُّقمتان، إنما المسكين الذي يتعَّفف». متفق عليه. وفي رواية في الصحيحين: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتَّمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غني يغنيه، ولا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس».

(وعنه) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السَّاعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله».

وأحسبه قال: «وكالقائم الذي لا يفتر وكالصائم الذي لا يفطر» متفق عليه.

(وقد) ورد في السنة المطهرة كذلك: (عن) أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كل سلامي من الناس عليه صدقة كلُّ يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة وتميط الأذى عن الطريق صدقة». رواه البخاري ومسلم.

(وعن) جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقي أخاك بوجهٍ طَلْقٍ، وأن تفرغ من دَلْوِك في إناء أخيك» رواه أحمد والترمذي.

(فمن) كل تلك الأحاديث الشريفة يتضح لك المعنى المراد من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في نص الوصية التي ندور حولها: «لا تحقِّرنَّ من المعروف شيئاً، ولو أن تلقي أخاك بوجه طليق». أي: لا تستقلَّنَّ أقل معروف تبذله لأحد من إخوانك، ولو كل هذا المعرف لقاءك إيَّاه بوجه منبسط متهلِّلٍ: (وهذا) يدل على اهتمام الإسلام بنشر روح المودة والتعاطف والتباذل بين الإخوان، وإن ذلك لا يعدُّ قليله قليلاً فإنه عند الله بمكان عظيم.

(وهذا) معناه كذلك أنه ينبغي على الأخ المسلم أن يبخل على نفسه بأي معروف يبذله.. حتى ولو كان المعروف هذا غير موضعه..كما يُشير أحدهم إلى هذا في قوله:

ازرع جميلاً ولو في غير موضعه        فلن يضيع جميل أينما وُضع

ولله در عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فلقد قال: (صاحب المعروف لا يقع وإن وقع وجَد مُتَّكأ).

(وقرأت) كذلك مثلاً – عاميّاً – جاء فيه:

(اعمل المعروف وألقه في البحر)..(وقد) قيل: أن رجلاً سمع المثل هذا فأعجبه..ثم قال: لا بد وأن أنفذ المراد منه..(وفعلاً) أحضر صندوقاً مصفَّحاً بالزنك..ثم كتب اسمه وعنوانه في داخله..بعد أن ملأه بخيرات الله من طعام وفواكه..إلخ ثم ألقاه في البحر..(وكان) الملك في عصره قد خرج مع بعض رجاله في رحلة مائية فضلَّت السفينة الطريق حتى ابتعدوا عن المملكة..وحتى كادوا أن يهلكوا بسبب الجوع والعطش..فرأوا في البحر صندوقاً كبيراً تلعب به الأمواج..فانتشلوه ليروا ما فيه..(وبعد) أن فتحوه وجدوا فيه ضالتهم المنشودة من طعام وشراب..كان سبباً في إنقاذهم من الهلاك..(ففرحوا) بهذا فرحاً شديداً..ودعوا لهذا الرجل..بعد أن قرءوا اسمه وعرفوا عنوانه..(ثم) بعد أن عادوا إلى المملكة..أرسل الملك إلى هذا الرجل الكريم..فجاءه..وعندما سأله الملك عن هذا الصندوق الذي انتشلوه من البحر..ووجدوا اسمه مكتوباً فيه..فأخبره بالسبب الذي كان المثل أساساً فيه..فقال له الملك: لقد أصاب معروفك موضعه..ثم أمر بأن يملأ له الصندوق بالجواهر الثمينة.

وقرأن كذلك تأكيداً لهذا المعنى الكبير أنه في غزوة من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم أسرت (سفَّانة) ابنة حاتم الطائي..فقالت للأصحاب..أريد محمداً..فذهبوا بها إليه.. فقالت له: يا محمد كان أبي يفك العاني، ويقّري الضيف، ويعين على نوائب الدهر..وأنا ابنة حاتم الطائي..فقال لها صلوات الله وسلامه عليه: «يا جارية هذه صفات المؤمنين، لو كان أبوك مسلماً لترحَّمنا عليه»..ثم قال لأصحابه: «خَلوُّا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق». (ثم) بعد ذلك، وقبل أن تنصرف عائدة إلى قومها..طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لها بأن تدعو له بثلاث دعوات..فأذن لها..فقالت: ملكتك يد افتقرت بعد غني، ولا ملكتك يد غنيت بعد فقر، ولا جعل الله لك إلى لئيم حاجة.

ثم عادت بعد ذلك إلى أخيها عديِّ بن حاتم الطائي..وقالت له: جئتك من عند خير الناس..(ثم) عادت معه بعد ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلما.

(وقرأت) أن حاتم الطائي- والدهما- كان أكرم رجل في الجاهلية- أي قبل الإسلام- لدرجة أنه كان يوقد النار فوق الجبل ليراها الجائع، وكان يقول لعبده اذهب فإن أتيتني بضيف فأنت حر.

وقد قرأت كذلك تحت عنوان:

أجود من حاتم:

أن رجلاً من الأنصار جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فقال له يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قد ولد لي في هذه الليلة مولود وإني سميته باسمك تبُّركاً بك، وإن أمه ماتت: (فقال) له: بارك الله لك في ولدك، وآجرك على المعصية، ثم دعا بوكيله وقال انطلق الساعة فاشتر للمولود جارية تحضنه، وادفع لأبيه مائتي دينار لينفقها على تربيته، ثم قال للأنصاري: عد إلينا بعد أيام فإنك جئتنا وفي العيش يبس، وفي المال قلة. فقال الأنصاري: جعلت فداك لو سبقت حاتماً بيومٍ ما ذكرته العرب.

(كما) قرأت كذلك، تحت عنوان:

أجود الناس:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجود بالخير من الريح المرسلة، ففي الحديث: «فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة». وفي الصحيح: (وما سُئل عن شيء قط فقال: لا، فإن يكن عنده أعطى، وإن لم يكن عنده استدان). (وأعطى) عيينة بن حصين مائة من الإبل، (وأعطى) الأقرع ابن حابس مثلها، (وأعطى) أعرابياً غنماً بين جبلين، فانطلق الأعرابي وقال لقومه: اسلموا  فإن محمداً صلى الله عليه وسلم يُعطي عطاء من لا يخاف الفقر (ونحر) صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مائة بدنة.

(وقال) أنس بن مالك رضي الله عنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين لم يؤت قبله مثله، فوضع في المسجد، ثم خرج فصلى، فلما فرغ من صلاته جلس ثم دعا بالمال، فلما رأى أحداً إلّا أعطاه منه..فجاءه عمه العباس فقال: يا رسول الله إني فاديت نفسي وفاديت عُقيلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذ» فحثا في ثوبه، ثم ذهب ليقوم فلم يستطيع، فقال: يا رسول الله مر من يرفعه عليَّ، فقال: لا.

قال: فارفعه أنت. قال: لا فنثر منه ثم احتمله على كاهله وذهب..فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يُتبعه بصره، حتى خفي علينا تعجباً من حرصه. وما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فرَّق المال جميعه.

(فلاحظ) كل هذا أخا الإسلام حتى تكون كريماً، لا بخيلاً..(مع) ملاحظة أنه:

من أوصاف الكريم..كما قال حكيم:

(أن لا يكون حقوداً، ولا حسوداً، ولا شامتاً، ولا باغياً، ولا ساهياً، ولا لاهياً، ولا فاجراً، ولا فاخراً، ولا كاذباً، ولا ملولاً، ولا يقطع إلفه، ولا يؤدي إخوانه، ولا يضيع الحفاظ، ولا يجفو في الوداد..يعطي من لا يرجو، ويؤمن من لا يخاف، ويعفو عن قدرة؛ ويصل عن قطيعة، من أعطاه شكره، ومن منعه عذره، ومن لا يسأله ابتدأه، وإذا استضعف أحداً رحمه، وإذا استضعفه أحد رأى الموت أكرم له منه).

(وليكن) تضرعك دائماً وأبداً- كفقير أو محتاج إلى الله تبارك وتعالى وحده..عسى أن يفتح لك أبوابه..مع الأخذ بالأسباب..فقد ورد في الحديث القدسي: «يا بن آدم أمدد يدك إلى باب من العمل أفتح لك باب الرزق»، وأنت تذكر قول الإمام عليٍّ كرَّم الله وجهه:

لنقل الصخر من قمم الجبال               أحبُّ إليَّ من منَنَ الرجال

يقول الناس لي في الكسب عار            فقلت العار في ذُلِّ السؤال

(بل) وأنت تذكر دائماً وأبداً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لأن يأخذ أحكم أحبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فَيَكُفَّ الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه» رواه البخاري عن عبد الله الزبير بن العوام رضي الله عنه.

والله ولي التوفيق

  • المصدر:

من وصايا الرسول عليه الصلاة والسلام: جمع وإعداد طه عفيفي.