بيان أنَّ للقلب السليم إِشْرافاً على معرفة الموضوع
 

قال أبو الحسن علي بن عُرْوَةَ الحنبلي في «الكواكب»:

فصلٌ: القلبُ إذا كان نقيّاً زاكياً، كان له تمييزٌ بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والهدى والضلال، ولا سيما إذا كان قد حصل له إضاءةٌ وذوق من النور النبويّ، فإنه حينئذ تظهر له خبايا الأمور، ودسائسُ الأشياء، والصحيح من السقيم. ولو رُكِّبَ على مَتْن ألفاظٍ موضوعةٍ على الرسول إسنادٌ صحيح، أو على متن ٍ صحيح إسنادٌ ضعيف، لَميَّزَ ذلك وعرفه، وذاق طعمَه، وميَّز بين غَيِّهِ وسَمِينِه، وصحيحه وسَقِيمه، فإن ألفاظ الرسول لا تخفى على عاقل ذَاقَها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«اتَّقُوا فِرَاسَةَ المُوْمِنِ، فإنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ». رواه الترمذيّ من حديث أبي سعيد. وقال جماعة من السلف في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر:75]. وقال معاذ بن جبل: «إن للحق مناراً كمنار الطريق». وإذا كان الكفار لمَّا سَمِعثوا القرآن في حال كفرهم قالوا: «إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لَمُغْدِق، وإن أعلاه لمُورِق، وإن له لثمرة، وإن له في القلوب لَصَوْلَة ليست بصولة مبْطِل!» فما الظن بالمؤْمن التقيّ، الذي له عقل تام عند ورودِ الشُّبُهات، وبصرٌ نافِذٌ عند ورود الشهوات؟.

قال بعض السلف: «إن العبد لَيَهِمُّ بالكَذِب، فأَعْرِف مردَاه أن يُتَمِّم» وقد قال تعالى: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد:30]؛ وقد كان عمر بن الخطاب له حظٌّ من ذلك، كقصَّته مع سواد بن قارب وغيره. فإن القلب الصافي له شعور بالزيغ والانحراف في الأفعال والأعمال. فإذا سمع الحديث عرف مَخْرَجه مِن أين؟ وإن لم يتكلم فيه الحُفَّاظ وأهل النقد. فمن كانت أعماله خالِصًةً لله، مُوَافِقَةً لِلسُّنَّة، ميَّز بين الأشياء، كذبها وصِدْقِها، بشَواهد تظهر له على صفحات الوجوه، وفَلتات الألسنة.

قال شاه الكرماني: «من عَمَّر باطنَه بدوام المراقبة وظاهره باتِّباع السُّنَّة، وغضَّ بصره عن المحارم، وعوَّد نفسَه أكلَ الحلال، لم تُخطِئْ له فِراسة! فاللهُ سبحانه هو الذي يخلقُ الرُّعب والظُّلمةَ في قلوب الكافرين، والنُّورَ والبُرْهَان في قلوب المتَّقين؛ ولهذا ذكر اللهُ آية النور عقيب غضِّ النظر وكفِّ النفس عن المحارم. وكذلك إذا كان العبد صدوقَ اللسان، كان أقوى له وأتمَّ على معرفة الأكاذيب والموضوعات، فإن الجزاء من جنس العمل فيُثيب الله الصَّدُوق، ويجدُ للكذب مضامضةً ومرارةً ينبوعنها سمعهُ ولا يقبلُها عقلُه». ولمَّا قَدِمَ وفدُ هوازنَ على النبي صلى الله عليه وسلم مسلمين، وسألوه أن يردَّ عليهم سَبْيَهُمْ ومالهم، قال لهم: «أحبُّ الحديثِ إلَيَّ أَصْدَقُهُ»؛ ولهذا كان كعب بن مالك، بعد أن عَمِيَ، إذا تكلم الرجل بين يديه بالكذب يقول له: «أُسْكُتْ، إني لأجدُ من فِيك رائحة الكذب!» وإذا سمع حديثاً مكذوباً، عَرَفَ كَذِبَه؛ وذلك أَنه جُمع الصِّدْقُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا قَدِمَ من غزوة تبوك وأنزل الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:119]؛ فإن الله سبحانه يُلْهِمُ الصادقَ الذَّكِيَّ معرفةَ الصدق من الكذب كما في الحديث: «الصِّدْقُ طُمَأنِينةٌ، والكَذِبُ رِيبَةٌ»؛ وقال لِوابِضَةَ: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ»؛ وقد تَرَكَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّتهُ على البيضاء، ليلُها كنهارها. وهذا من أدلِّ الأشياء على ما قلنا.

وإنما يؤتَى الإنسان ويدخلُ الزَّيْف عليه والباطل، مِنْ نَقْصِ متابعته للرسول، بخلاف المؤمن المُحسِن، المُتَّبعِ له في أقواله وأفعاله،  فإن أقوال الرسول عليها جلالة، ولها ناموسٌ. ولقد رأيت رجلاً إذا سمع حديثاً مرويّاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ليس مما قاله يردُّه ويقول: «هذا موضوع أو ضعيف أو غريب» من غير أن يسمعَ بشيء، فيكشف عنه، فإذا هو كما قال؛ وكان قَلَّ أن يُخْطِئَ في هذا الباب؛ فإذا قيل له: من أين لك هذا؟ يقول: كلام الرسول عليه جلالة، وفيه فُحُولَة ليست لغيره من الناس؛ وكذلك كلام أصحابه. وكنت أكشف عما يقول فأجده غالباً كما قال. وكان من أَتْبَعِ الناس لِلسُّنَّة، وأَقْلَاهُمْ للبدع والأهواء. وكذلك كان يقع هذا كثيراً، فإن الدّينَ هو ما فِعْلُ ما أمر اللهُ به، وترك ما نهى عنه، فمن تلبَّسَ في باطنه بالإخلاص والصدق، وفي ظاهره بالشرع، لانَتْ له الأشياء، وَوَضَحَتْ على ما هي عليه عكسُ حالِ أهل الضلال والبدع، الذين يتكلمون بالكذب والتحريف، فيُدخِلون في دين الله ما ليس منه.

وانظرْ ألفاظَ القرآن، لمَّا كانت محفوظة منقولة بالتواتر، لم يطمع مُبْطِلٌ ولا غيره في إبطال شيء منه، ولا في زيادة شيء، بخلاف الحديث، فإن المحرِّفين والوضّاعين تصرَّفُوا فيه بالزيادة والنُّقصان، والكذب والوضع في مُتُونِه وأَسَانِيدِه؛ ولكن أقام اللهُ به مَن يَنْفِي عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ويحميه من وضع الوضّاعين؛ فبيّنوا ما أدخل أهل الكذب والوضع فيه، وأهل التحريف في معانيه، كَمَنْ صنَّفَ في الصحيح: كالبخاري، ومسلم، وابن خُزَيْمَةَ، وابن حبَّانَ؛ وكذلك أهل السُّنن كأبي داود، والنَّسائي، والتِّرْمذيّ، وابن ماجه؛ وكذلك أهل المساند: كمسند أحمد ونحوه، وكمالك، وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبةَ، وغيرهم مَنْ تكلم على الحديث. وكذلك الذين تكلموا على الرجال وأسانيدها: كيحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى القطان، وشُعبةَ، وسفيان، وابن معين، وابن المدني، وبن مهدي، وغيرهم. فهولاء وأمثالهم أهل الذبِّ عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عكسُ حالِ من صنَّف كُتُباً فيها من الموضوعات شيء كثير، وهو لا يميز ولا يعرف الموضوع والمكذوب مِن غيره، فيجيء الغِرُّ الجاهل، فيرى حديثاً في كتاب مصنَّف فيغتر به وينقله. وهؤلاء كثير أيضاً مثل مصنَّف كتاب «وسيلة المتعبدين» الذي صنَّفه الشيخ عمر الموصلي، ومثل «تنقُّلات الأنوار» للبكري، الذي وضع فيه من الكذب ما لا يخفى على من له أدنى مُسْكَةُ عقل. بل قد أنكر العلماء على أَهل التصوّف كثيراً مما ذكروه في كتبهم من الأحاديث التي يعلمون أنها الموضوعات، ومن تفاسير آيات يعلمون أنها مُخَالِفة، مع أنهم قوم أحبوا الأعمال. وكذلك أهل التفسير، يضعون في تفاسيرهم أحاديث مكذوبة. وكذلك كثير من الفقهاء يستدلون في كتبهم على المسائل بأحاديثَ ضعيفة أو مكذوبة. ومن لم يميز، يقع في غلط عظيم، فالله المستعان.

وقد فرَّق الله بين الحق والباطل، بأهل النور والإيمان والنقد العارفين بالنقل، والذائقين كلام الرسول بالعقل، وقد صنفوا في ذلك كتباً في الجرح والتعديل. فهذا العلم مُسَلَّمٌ لهم، ولهم فيه معارف وطرقٌ يختصون بها. وقد قال الإمام أحمد: «ثلاثُ علوم، ليس لها أصل، المغازي، والملاحم، والتفسير» ومعنى ذلك أن الغالب عليها أنها مُرسلة. وكذلك «قصصُ الأنبياء» للثعلبي فيها ما فيها. والمقصود أن الصادق تمرُّ به أحاديث يقطع قلبه بأنها موضوعة أو ضعيفة.

قال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية: «القلب المعمور بالتَّقوى، إذا رجَّح بمجرَّد رأيه، فهو ترجيح شرعي» قال: «فمتى ما وقع عنده، وحصل في قلبه ما يظن معه أن هذا الأمر، أو هذا الكلام أرْضَى للهِ ورسولِهِ، كان ترجيحاً بدليل شرعي. والذين أنكروا كون الإلهام ليس طريقاً إلى الحقائق مطلقاً، اخطأوا؛ فإذا اجتهد العبد في طاعة الله وتقواه، كان ترجيحه لِمَا رجَّح أَقْوَى مِن أدلة كثيرة ضعيفة؛ فإلهامُ هذا دليل في حقه، وهو أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة والموهومة، والظواهر والاستصحابات الكثيرة التي يحتجُّ بها كثيرٌ من الخائضين في المذاهب والخلاف وأصول الفقه. وقد قال عمر بن الخطاب: «إقْرَبُوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنهم تتجلى لهم أمور صادقة». وحديث مكحول المرفوع: «ما أخلصَ عبدٌ العبادةَ للهِ تعالى أربعينَ يوماً إلَّا أجرى اللهُ الحكمةَ على قلبهِ، وأنطقَ بها لسانهَ». وقال أبو سليمان الداراني: «إن القلوب إذا أجمعت على التقوى، جالت في الملكوت ورجعت إلى صاحبها بطُرَف الفوائد، من غير أَن يؤدّيَ إليها عالمٌ عِلْماً». وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصَّلاةُ نورٌ، والصَّدقةُ برهانٌ، والصَّبرُ ضياءٌ»؛ ومن معه نور وبرهان وضياء كيف لا يعرف حقائق الأشياء من فحوى كلام أصحابها ولا سيما الأحاديث النبوية؟ فإنه يعرف ذلك معرةً تامة، لأنه قاصد العمل، فتتساعد في حقه هذه الأشياء مع الاقتداء، ومحبة الله ورسوله، حتى إن المحب يعرف من فحوَى كلام محبوبه مُرادَه تلويحاً لا تصريحاً:

وَالْعَيْنُ تَعْرِفُ مِنْ عَيْنيْ مُحَدِّثَها             إِنْ كَانَ مِنْ حِزْبِهَا أَوْ مِنْ أَعَادِيهَا

وقد قيل:

إِنَارَةُ الْعَقْلِ مَكْسُوفٌ بِطَوْعِ هَوَىً         وَعَقْلُ عَاصِي الهَوَى يَزْدَادُ تَنْوِيرَا

وفي الحديث الصحيح: «لَا يزالُ عبدِي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافلِ، حتّى أُحبَّهُ، فإذا أحببتهُ كنتُ سمعهُ الَّذي يسمعُ بهِ، وبصرهُ الَّذي يبصرُ بهِ، ويدهُ التي يبطشُ بها، ورجلهُ التي يمشي بها»؛ ومَنْ كان توفيقُ الله له كذلك، فكيف لا يكون ذا بصيرة نافذة، ونفس فعالة. وإذا كان الإثم والبرُّ في صدور الخلق له تردُّدٌ وجَوَلَان، فكيف حالُ مَنِ اللهُ سمعه وبصره، وهو في قلبه. وقد قال ابن مسعود: «الإثم حِزاز القلوب» وقد قدَّمنا أن «الكذب ريبة، والصدق طُمأنينة» فالحديث تطمئنّ إليه النفس، ويطمئن إليه القلب. وأيضاً فإن الله فطر عباده على الحق، فإذا لم تستحلّ الفطرة، شاهدت الأشياء على ما هي عليه، فأنكرت منكرها، وعرفت معروفها. قال عمر: «الحق أبلَج لا يخفى على فَطِنٍ» فإذا كانت الفطرة مستقيمة على الحقيقة، منوَّرة بنور القرآن، تجلَّتْ لها الأشياء على ما هي عليه في تلك المرايا، وانقشعت عنها ظلمات الجهالات، فرأت الأمورُ عياناً مع غيبها من غيرها.

وفي السنن والمسند وغيره عن النَّوَّاس بن سمعان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ضربَ اللهُ مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنتي الصِّراطِ سُورَان، وفي السّورَينِ أبوابٌ مفتَّحةٌ، وعلى الأبواب ستورٌ مُرخاةٌ؛ ودَاعٍ يدعو على رأس الصِّراط، وداعٍ يدعو مِنْ فوق. فالصِّراطُ المستقيم هو الإسلامُ، والسُّتُورُ المُرْخَاةُ حدودُ اللهِ، والأبوابُ المُفَتَّحَةُ محارمُ اللهِ.فإذا أرادَ العبدُ أنْ يفتحَ باباً مِنْ تلكَ الأبوابِ، ناداهُ المنادي: يا عبدَ اللهِ! لا تفتحهُ، فإنَّكَ إِنْ تفتحْهُ تلجْهُ؛ والدَّاعي على رأسِ الصِّراطِ كتابُ اللهِ، والدَّاعي فوق الصِّراط واعظُ اللهِ في قلبِ كلِّ مُؤْمِنٍ».

فقد بيَّن صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث العظيم، الذي مَنْ عَرَفَهُ انتفعَ به انتفاعاً بالغاً إن ساعده التوفيق، واستغنى به عن علوم كثيرة.

إن في قلب كل مؤمن واعظاً، والوعظ هو الأمر والنهي، والترغيب والترهيب وإذا كان القلب معموراً بالتقوى، انجلتْ له الأمور وانكشفت، بخلاف القلب الخراب المُظْلِم. قال حُذيفةُ بنُ اليمان: «إن في قلب المؤمن سِرَاجاً يُزْهِرُ». وفي الحديث الصحيح: «إِنَّ الدَّجَّالَ مكتوبٌ بينَ عينيهِ «كافرٌ» يقرَؤُهُ كلُّ مؤمنٍ قارِئٍ، وغير قارئٍ»؛ فدلّ على أن المؤمن يتبين له ما لا يتبين لغيره، ولا سيما في الفتن، وينكشف له حال الكذَّاب الوَضَّاح على الله ورسوله. فإن الدَّجَّال أكْذَبُ خلقِ الله مع أن الله يُجري على يديه أموراً هائلة، ومخاريق مُزَلْزِلَةٍ؛ حتى إنَّ مَن رآه افْتُتِنَ به؛ فيكشفها الله للمؤمن حتى يعتقد كذبها وبطلانَها. وكُلَّمَا قويَ الإيمان في القلب، قوي انكشاف الأمور له، وعرف حقائقها من بواطلها؛ وكلما ضعفَ الإيمان ضعُف الكَشْفُ، وذلك مِثْلُ السِّرَاجِ القويِّ، والشِّراجِ الضعيف في البيت المُظْلِم. ولهذا قال بعض السلف في قوله: ﴿نُّورٌ عَلَى نُورٍ﴾ [النور:35] قال: «هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق، وإن لم يسمع فيها بالأثر؛ فإذا سمع فيها بالأثر، كان نوراً على نور» فالإيمان الذي في قلب المؤمن يطابق نور القرآن. فالإلهام القلبي تارة يكون من جنس القول والعمل، والظن أن هذا القول كذب، وأن هذا العمل باطل، وهذا أرْجَحُ من هذا وأصوب.

وفي الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«قد كان في الأمم قبلَكُمْ مُحَدَّثُون، فإنْ يكنْ في أُمَّتي فيهم أحدٌ، فعُمَرُ»؛ والمحدَّثُ هو المُلْهَمُ المخاطبُ في سرِّهِ. وما قال عمرُ لشيءٍ إني لأظنه كذا وكذا، إلا كان كما ظَنَّ. وكانوا يرونَ أن السَّكينةَ تنطقُ على قلبه ولسانه أيضاً. فإذا كانت الأمور الكونية تنكشف للعبد المؤمن لقوة إيمانه يقيناً وظناً، فالأمور الدينية كشفُها له أيسرُ أحوَجُ.  فالمؤمن تقع في قلبه أدلّةٌ على الأشياء لا يمكنه التعبير عنها في الغالب. فإنَّ كلَّ أحدٍ يُمكنهُ إِبانةُ المعاني القائمة بقلبه. فإذا تكلم الكاذب بين يدي الصادق عَرَف كذْبَه مِن فحوى كلامه، فتدخلُ عليه نخوةُ الحياء الإيمانيّ، فتمنعه البيان، ولكن هو في نفسه قد أخذَحذْرَه منه، وربما لوَّح أو صرَّحَ به خوفاً مِنَ الله، وشفقةً على خلق الله فيحذرون من روايته أو العمل به. وكثيرٌ من أهلِ الإيمان والكشف يُلقي في قلبه أن هذا الطعام حرام، وأن هذا الرجل كافر أو فاسق أو ديُّوثٌ أو لُوطِيّ أو خَمَّار أو مُغَنّنٍ أو كاذب من غير دليل ظاهر، بل بما يلقي الله في قلبه. وكذلك بالعكس يُلْقي في قلبه حُجَّةٌ لشخص، وأنه من أولياء الله تعالى، وأن هذا الرجل صالح، وهذا الطعام حلال، وهذا القول صدق. فهذا وأمثاله لا يجوز أن يُسْتَبْعَدَ في حَقِّ أولياء الله المؤمنين المتقين. وقصة الخضر مع موسى هي من هذا الباب، وأن الخضر عَلِمَ هذه الأحوال المغيّبة بما أَطلعه الله عليه. وهذا باب واسع يطول بسطه، وقد نبهنا فيه على نُكَتٍ شريفة تطلعك على ما وراءها.

والمقصود: «أن الحديث الموضوع يُعْرَفُ كونُهُ موضوعاً، إما واضعه، أو بركاكة لفظه، أو غير ذلك. وقد أشرنا فيما كَتَبْنا فيما تقدَّم أن أهل الإيمان والتقوى والصدق والإخلاص، لهم اطلاعات وكشف وفِراسات وإلهامات، يلقيها الله في قلوبهم يعرفون بها صدق الصادق، وكذب الكاذب ووضع الوضاعين، وصحيح الأخبار وكاذبها. وقد كان أبو سليمان الداراني يسمِّي أحمد بن عاصم الأنطاكي «جاسوس القلب» لِحِدّةِ فِراسته. فعليك يا أخي بالصدق، وإياك والكذب، فإنه يجانب الإيمان، والله سبحانه أعلم بالصواب وإليه المُنْقَلَب والمآب والحمد لله رب العالمين». انتهى كلام الإمام ابن عروة الحنبلي الدمشقي رحمه الله تعالى.

 

·         المصدر: قواعد التحديث من علم الحديث: الشيخ جمال الدين القاسمي.