آداب طلب العلم (3)
 

التفرغ والمحافظة على الأوقات:

وذلك بأن لا يضيع شيئاً من أوقات عمره في غير ما هو بصدده من العلم والعمل إلا بقدر الضرورة ، وقد كان بعضهم لا يترك الاشتغالَ بالعلم لعروض مرض خفيف أو ألم لطيف ، بل كان يستشفي بالعلم ، ويشتغل به بقدر الإمكان .

قال الشافعي: لو كلفت شراءَ بصلة لما فهمت مسألة .

وقال بعضهم: "لا يَنال هذا العلم إلا من عطّل دكّانه، وخرّب بستانه، وهجر إخوانَه، ومات أقرب أهله فلم يشهد جنازته". 

والوقت نعمة إلهية تستوجب منا الشكر ، قال تعالى في سورة إبراهيم : ( ... وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ {33} وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ {34}) .

ففي هذه الآيات الكريمة يمتن تعالى على عباده بجملة من نعمه التي لا تحصى ، ومن هذه النعم نعمة الليل والنهار الذي يدور الوقت حولهما ويقوم عليهما، وكثير من الناس يغفلون عن هذه النعمة مع جلائها ، قال تعالى في سورة النحل ( وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {12) ) .

ومن هنا تتجلى لنا تلك النعمة الإلهية التي غفل عن شكرها الغافلون ، وتنافس في تبديدها وإهدارها البطالون المبطلون ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ ) رواه البخاري (6049) عن ابن عباس رضي الله عنهما . وقوله ( مغبون ) من الغبن وهو النقص، وقيل: الغبن وهو ضعف الرأي . ( الصحة ) في الأبدان. ( الفراغ ) عدم ما يشغله من الأمور الدنيوية .‏

فعلى المؤمن العاقل أن يجدّ في شكر المنعم على نعمة الوقت وأن يوظفه في كل مفيد نافع .

والوقت أمانة ومسئولية سيسأل عنها الإنسان يوم العرض على الله ، قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه ، وعن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل به ) رواه الترمذي (2418و2419) وقال: حسن صحيح .

والوقت من أغلى ما يمتلكه الإنسان ، فالوقت هو الحياة ، وهو رأس مال الإنسان ، وإذا ضيعه فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستردّه ، وشبهه بعض العقلاء بالذهب ، ولكنه أغلى وأنفس من كل نفيس ؛ لأنه جزء من كيان الإنسان ، لأنه أنفاسه المعدودة في هذه الحياة .

والوقت أنفس ما عُنيت بحفظه ** وأراه أيسرَ ما عليك يهون

 والمؤمن وحده هو الذي يعرف قيمة الوقت ، لمعرفته بالغاية التي من أجلها خلق ، قال عز وجل :( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إلا لِيَعْبُدُونِ {56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ {57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ {58} فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ {59} ).

وقد كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم حريصين أشد الحرص على الانتفاع بأوقاتهم واغتنامها واستثمارها ، فقد كانوا يسابقون الساعات ويبادرون اللحظات ضنّا منهم بالوقت ، وحرصاً على أن لا يذهب منهم سدى .      

  قال الصحابى الجليل عبد الله بن مسعودرضي الله عنه : ( ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه ، نقص فيه أجلي ، ولم يزد فيه عملي ).

وقال الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن الليل والنهار يعملان فيك ، فاعمل فيهما ).

وقال الحسن البصرى رضي الله عنه : يا ابن آدم إنما أنت أيام فإذا ذهب يوم   ذهب بعضك ، ويوشك إذا ذهب بعضك أن يذهب كلك وقال أيضاً : أدركـت أقوامـا كانـوا على أوقاتهـم أشـد منكـم حرصـاً على دراهمكم ودنانيركم .

قال أبو هلال العسكرى كان الخليل بن أحمد – الفراهيدى البصرى أحد أذكياء العالم – (170) هـ يقول أثقل الساعات علي : ساعة آكل فيها ، فالله أكبر ما أشد الفناء في العلم عنده ؟! ، وما أوقد الغيرة على الوقت لديه ؟! .

وروى الخطيب البغدادى  عن أبى العباس المبرد قال : ما رأيت أحرص على العلم من ثلاثة : الجاحظ – عمرو بن بحر إمام أهل الأدب –  ( 255 ) والفتح بن خاقان – الأديب الشاعر أحد الأذكياء –  من أبناء الملوك ، اتخذه الخليفة المتوكل العباسي وزيرا له وأخاً ، واجتمعت له خزانة كتب حافلة من أعظم الخزائن ، (247 هـ) وإسماعيل بن إسحاق القاضي – الإمام الفقيه المالكى البغدادى – (  282 هـ ) .

فأما الجاحظ فإنه كان إذا وقع بيده كتاب قرأه من أوله إلى آخره أي كتاب كان ، حتى إنه كان يكترى دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر في الكتب.

وأما الفتح بن خاقان فإنه كان يحمل الكتاب في كمه ، فإذا قام من بين يدي المتوكل للبول أو للصلاة ، أخرج الكتاب فنظر فيه وهو يمشي ، حتى يبلغ الموضع الذي يريده ، ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه ، إلى أن يأخذ مجلسه ، فإذا أراد المتوكل القيام لحاجة أخرج الكتاب من كمه وقرأه في مجلس المتوكل إلى حين عوده .

وأما إسماعيل بن إسحاق القاضي فإني ما دخلت عليه قط إلا رأيته وفي يده كتاب ينظر فيه أو يقلب الكتب لطلب كتاب ينظر فيه أو ينفض الكتب .

وقال عبيد بن يعيش : أقمت ثلاثين سنة ما أكلت بيدي بالليل ، كانت أختي تلقمني وأنا أكتب الحديث .

وهذا الإمام جمال الدين القاسمي رحمه الله وقد عاش قرابة خمسين سنة وألف ما يزيد عن خمسين مؤلفاً وكانت حياته زاخرة بالعلم والدعوة والكفاح ، ومع ذلك كان يقول : يا ليت الوقت يباع فأشتريه.

وبحرص سلفنا الصالح على أوقاتهم علا قدرهم وسما شأنهم ، وخلد ذكرهم ، أما في زماننا هذا فإن من أبرز أسباب تخلف المسلمين تفننهم وتفانيهم في تدمير وإهدار أوقاتهم في المقاهي والملاهي والطرقات وأمام التلفاز والتسجيلات الصوتية والمرئية وفي غير ذلك من المجالات التي لا فائدة منها ولا ثمرة من ورائها " .    

 

المصدر:

موقع شبكة السنة وعلومها.

انظر: تذكرة السامع والمتكلم.

انظر: الجامع لأخلاق الراوي: للخطيب البغدادي.

الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه: لأبي هلال العسكري.

تقييد العلم للخطيب البغدادى .

الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع.