هَلْ مِنَ المُمْكِن تَرْجَمَةُ القُرْآنِ؟
 
 

تحدَث العلماء عن ترجمة القرآن من النواحي التالية:

أولاً: هل في المستطاع ترجمة القرآن إلى لغة أخرى؟

ثانياً: إذا كان ذلك مستطاعاً فهل يجوز الإقدام على ترجمته شرعاً؟

ثالثاً: وإذا جازت شرعاً فهل تقوم الترجمة مقام القرآن الأصلي، في التعبّد بتلاوتها وفي صحة الصلاة بها؟

فأما الحديث رعنها من الناحيتين؛ الثانية والثالثة، فهو ما يهمّ الباحث في الشريعة الإسلامية وأحكامها، وليس كتابنا هذا – كما قد علمت – موضوعاً لبيان الأحكام الشرعية المتعلقة بكتاب الله تعالى.

ولكن الذي يتعلق بغرضنا في هذا الكتاب، هو التحقيق في الناحية الأولى من هذه المسألة وهي: هل في المستطاع أن يترجم القرآن إلى أيّ لغة أخرى؟ ولا ريب أن الإجابة على هذا السؤال إنما تعتمد على دراستنا السابقة للغة القرآن وأسلوبه وخصائصه التعبيرية والبلاغية.   

غير أنه ينبغي لنا قبل أن ندخل في الإجابة على هذا الموضوع، أن نعرِّف الترجمة، ونوضح الفرق بينها وبين التفسير، فكثيراً ما يقع الوهم في معالجة هذا البحث بسبب التباس هاتين الكلمتين على الباحث وتداخل مفهومهما عنده.

والكلمتان – في الاصطلاح الذي نحن بصدده – مختلفتان في المفهوم والمدلول وبينهما فرق كبير في المعنى، وإن وقع التوسّع والتسمّح فيهما عند إرادة المعنى اللغوي العام.

فأما الترجمة: فهي نقل الكلام من لغة إلى أخرى عن طريق التدرّج من الكلمات الجزئية إلى الجمل والمعاني الكلية. أي إن الوسيلة التي تُتبع في نقل بكلمة مقابلة، ثم تركيب مجموع الكلمات وتأليفها حسب المعروف في اللغة المترجم إليها.

أما التفسير: فهو نقل المعنى القريب أو البعيد المقصود من الألفاظ، إلى لغة أخرى مختلفة، أو إلى ألفاظ أخرى في نفس اللغة، دون النظر إلى الألفاظ الجزئية التي تألّف منها المعنى واتضح بها المقصود.

وبذلك تعلم أن الترجمة تختلف عن التفسير، في نقطتين أساسيتين؛

أولاهما: الاهتمام بالكلمة والأداة التعبيرية في الترجمة دون التفسير.

والثانية: أن الترجمة لا تكون إلا نقلاً لمعنى الألفاظ من لغة إلى أخرى، في حين أن التفسير يكون كذلك ويكون تعبيراً عن المعنى بألفاظ أخرى في نفس اللغة. وهناك فروق ثانوية أخرى بين الكلمتين لا داعي إلى إطالة البحث بذكرها في هذا المقام.

* * *    

بعد بيان الفرق بين الترجمة والتفسير نعود فنقول

أمن الممكن أن يترجم القرآن إلى لغة أخرى؟

والجواب: أن ذلك مستحيل، وإذا وقع ما يسمى ترجمة من حيث الصورة، فهو في الحقيقة ليس إلا تشويهاً لمعاني القرآن، وتلبيساً للمقصود بغيره وتمزيقاً لأحكامه وحججه.

وإنما أسرعنا الحكم بهذا الشكل، لأنه نتيجة بدهية لدراستنا السابقة عن أسلوب القرآن ومنهجه وخصائصه، وجدير بمن وقف على كل ما قد ذكرناه وأوضحناه أن يعلم بنفسه هذه النتيجة ويدركها.

فقد تبين لك فيما مضى أن القرآن يتبع منهجاً فريداً في التعبير عن المعاني، وهو منهج تجسيد المعاني وتصويرها أمام مخيلة القارئ، وهو كما قلنا منهج مطّرد في القرآن يظهر في كل بحوثه ومواضيعه.

كما تبين لك أنه يعبّر عن المعاني المتعددة المختلفة بلفظة واحدة، وهي ظاهرة تتجلى في كثيرٍ من آيات القرآنية وألفاظه، وقد مرّت بك أمثلة كثيرة لذلك عند حديثنا عن أسلوب القرآن وإعجازه. 

وبدهي أن منهجاً تعبيرياً بهذا الشكل، يستعصي على الترجمة. إذ الترجمة كما هي نقل العام من خلال نقل معاني الكلمات الجزئية، والكلمات الجزئية التي تتألف منها الجمل القرآنية، إنما تصور المعنى المقصود – على الغالب- بأسلوبها وليست تنقل المعنى المراد بدلالتها اللغوية الأصلية المجردة.

فإن ذهبت تنقل معاني الكلمات، مع ذلك، كم هي، تألف لك منها معنى آخر غير مقصود ولا صحيح إطلاقاً.

وإن ذهبت تتجاهل الكلمات، وتهتم بالمعنى العام المقصود من ورائها عن طريق التجسيم والتخييل وما إلى ذلك، فقد تحولت عن الترجمة إلى التفسير. وهو بحث آخر.

فالقرآن الكريم مثلاً يقول: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ [الإسراء: 29] وأنت ترى أن الألفاظ هنا، ليس شيء مها يدل على المعنى المقصود بطريق الدلالة اللغوية الأصلية، وغنما هي تكشف عن المعنى المراد بواسطة التصوير والتخييل، والأداة المستعملة لذلك جملةٌ من المجازات والتشبيهات والاستعارات المختلفة. فكيف يمكنك أن تترجم هذه الآية سليمة لا تفسد المعنى ولا يخرج عملك فيها من الترجمة إلى التفسير؟!..

والقرآن يقول: ﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ﴾ [الواقعة: 73] وقد مرّ بك أن «مقوين» تحمل معنى: الجائعين، المقيمين في البيداء، المستمتعين. ويقول: ﴿أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا﴾ [النحل: 61] و﴿قَرَارًا﴾ بين لكل الأسباب التي بها أمكن أن يستقر الإنسان على الأرض، ويقول: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: 20] ودحى بمعنى: وسع، وبسط، وكوّر، ودوّر، كما قد مرّ بيانه فيما مضى. وقال عن وصف الخمرة في الجنة: ﴿لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ﴾ [الواقعة: 19] وقد نفى بهاتين الكلمتين جميع عيوب الخمرة المعروفة من ذهاب بالعقل وإذهاب للمال، ونفاد للشراب، وتقزز من طعمه وحرقته.

فكيف تتأتى ترجمة هذه الألفاظ إلى ألفاظ أخرى تحمل نفس المرونة في الدلالة، وتحمل نفس المعاني المختلفة المتنوعة التي لا بدّ من دلالة اللفظ عليها جميعها لتتم الترجمة، إذ إن هذه المعاني كلها مقصودة معاً في البيان القرآن؛ مع العلم بأنك لو رحت تشرح دلالات كل لفظة في شرح مطوّل من الألفاظ والبيان، فأنت حينئذ مفسِّر ولست بمترجم

وإليك ما يقوله في بيان هذا المعنى ابن قتيبة رحمه الله:

«.. وبكل هذه المذهب نزل القرآن، ولذلك لا يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شيء من الألسنة كما نقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية، وترجمت التوراة والزبور، وسائر كتب الله تعالى بالعربية، لأن العجم لم تتسع في المجاز اتساع العرب».

«ألا ترى أنك لو لأردت أن تنقل قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء﴾ [الأنفال: 58] لم تستطع أن تأتي بهذه الألفاظ مؤدية عين المعنى الذي أودعته حتى تبسط مجموعها وتصل مقطوعها وتظهر مستورها، فتقول: إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقصاً، فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم، وآذنهم بالحرب، لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على استواء».

«وكذلك قوله تعالى: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا﴾ [الكهف: 11] إن أردت أن تنقله بلفظه لم يفهمه المنقول إليه فإن قلت أنمناهم سنين عدداً، لكنت مترجماً للمعنى دون اللفظ» .

«وكذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾ [الفرقان: 73]إن ترجمته بمثل لفظه استغلق، وإن قلت: لم يتغافلوا، أدّيت المعنى بلفظ آخر».

* * *     

فإذا أدركت أن ترجمة القرآن غير ممكنة بمعناها الصحيح، علمت الجواب عن الناحيتين الثانية والثالثة لهذه المسألة أيضاً. ذلك أن الشيء الذي لا يستطاع إنجازه يعتبر باطلاً من حيث وجوده. ويعتبر محرّماً من حيث ممارسته لما فيه من الفساد والإفساد. وإذا كان الأمر فيه كذلك فلا شك أنه لا يصحّ التعبّد بالترجمة ولا تصحّ الصلاة بها، ولا داعي إلى أن نطيل في ذلك من النواحي الشرعية؛ بعد أن عرفت فساد من الناحية اللغوية ومن حيث الإمكان.

بعد هذا نقول: إن المتأمل ليعجب، عندما يرى – مع وضوح هذا الذي ذكرناه – دعوة ملحّة، لا تزال تنبع من هنا وهناك، وتنادي بضرورة ترجمة القرآن إلى اللغات المختلفة، وتحتجّ لذلك بالضرورة الداعية إلى اطّلاع الأمم المختلفة على حقائق القرآن وأحكامه ومحتوياته. وهي دعوة بدأت تلحُّ وتشتدّ وتجادل عن نفسها منذ أوائل عهد الاحتلال البريطاني لمصر بزعم حاجة العالم الإصلاحية إلى ذلك!.

فإن كان المقصود، إطلاع العالم على حقيقة القرآن وعظمته. فإن القرآن ليس قرآناً إلا من حيث أنه كتاب عربي مبين، وقد علمت في أول هذا الكتاب أن القرآن هو: اللفظ المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واللفظ الأعجمي ليس هو الذي أُنزل، فهو ليس بقرآن ألبتة. وأما عظمته وروعته، فإن شيئاً من ذلك لا يبقى أو يظهر عند تقديمه مترجماً إلى الناس، بل يظهر منه عند ذلك، معانٍ سقيمة مشوهة وتعابير غربية غير مفهومة. فلا القرآنية تبقى لدى الترجمة ولا عظمة القرآن تتجلى وتظهر بها.

وإن كان المقصود، أن تطّلع الأمم المختلفة على ما تضمنه القرآن من مبادئ وشرعة وأحكام، فإن ذلك يمكن أن يتم بأجلى مظهر وبأيسر طريق، إذا ما فسّر القرآن تفسيراً وافياً واضحاً باللغة المطلوبة فالتفسير هو الذي يفي بهذا الغرض لا الترجمة المزعومة.  

وهكذا، يتجلى للمتأمل ما تنوي عليه هذا الدعوة العجيبة من الدخيلة والريب.وحسبك دليلاً على ذلك أن تعلم أن الحاجة إلى ما يسمى بـ( ترجمة القرآن) لم تظهر عند أيّ فئة من الناس ولم يدع إليها أيّ مفكّر أو باحث، خلال القرون المنصرمة كلها إلى هذا القرن الذي نحن فيه، مع أن الأسباب التي يُتذرع بها اليوم كنت موجودة بأحلى المظاهر بالأمس.

* * *

* المصدر:

- من روائع القرآن: د. محمد سعيد رمضان البوطي

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم