شروط تحصيل العلم عند السلف رضي الله عنه
 
 

سأجعل المنطلق في هذا المبحث بيتين نُسِبَا إلى الإمام الشافعي رحمه الله؛ إذْ يقول:

أخِي لَنْ تنالَ العِلْمَ إلاّ بِسِتَّةٍ           *              سأُنْبِيكَ عَنْ تَفْصِيلِهَا بِبَيَانِ

يناديك بهذا النداء الرقيق، فيقول لك: أخي يا من تريد أن تكون طالب علم، أو حافظ قرآن، لا بُدَّ لك من ستة أشياء:

1- ذكاءٌ:

والذكاء قسمان: قسم منه منحة من الله وموهبة، والقسم الآخر مكتسب، وكلاهما من الله، ولكنْ بإمكان الإنسان أن ينمّيَ القسم الثاني فيصبحَ أكثرَ ذكاءً، وبإمكاننا أن ننشِّئ طِفْلاً مَّا بوسائل تعليمية متطورة ومدروسة تتناسب مع سنه وتفكيره، ليتخرج فيما بعد رجلاً ذكياً يخدم أمته وقضيته.

ولقد قرأت عن نُظُم التعليم في اليابان، فكان مما قرأتُ: أن الطفلَ عندهم يُدخَل المدرسة في [أولى ابتدائي] وهو ابن ثلاث سنين، ويُعَيَّنُ في هذه المرحلة كبارُ المتخصِّصين من المعلمين، ليَبْنوا هذه العقول التي بين أيديهم على أسس متينة، فيتخرج الطالب من الثانوية وهو ابن أربعَ عشَرةَ سنة، ولكنه يحمل من الثقافة والمعارف ما لا يحمله خرّيج جامعاتنا، والعقول هي العقول ولكن الأساليب والمناهج هي التي تساعد على تنمية قُدْرَاتِ الطالب الذكائية.

وهذه القضية كُتِبَت فيها أبحاث ودراسات، فليرجع إليها.

2- وحِرْصٌ:

أرأيتَ لو أنَّ إنساناً اعطاك أمانةً نقدية وقال لك: أوصِلْها إلى فلان، كيف ترى حرصك عليها..؟ ألا تتلمسها وهي في «جيبك» تخاف أن تقع...؟ ألا تُحْكِم قبضةَ يدك عليها...؟ ألا تتخذُ لها الاحتياطاتِ حتى لا يطمع بها أحد اللصوص...؟ بلى. فذلك هو [الحرص].

وكذلك ينبغي عليك في طلبك للعلم وحِفْظك للقرآن أن تكون حريصاً، فما نيل المعالي بالأماني، وان يكون حرصك على المعلومة أو الفائدة، أو الحِفْظ المتقن، أشدَّ من حرصك على دُرَر الجواهر، وان تحرص على الشيخ الذي يُبَيِّنُ لك قيمةَ هذه الفوائد، ويكشف لك عن حقائقها، ويُقَوِّمُك في طريقك إذا اعوجَجْتَ، ويسهل لك العقبات التي تعترض مسيرتك العلمية.

3- واجتهادٌ:

هو- في العموم- بذل الجهد والوسع للوصول إلى قضية مَّا، والمقصود بالاجتهاد هنا: الهمة العالية، والمتابعة اليومية، وكثرة المراجعة والاستذكار، وليس المعنى الاصطلاحيَّ المعروفَ عند علماء أصول الفقه.

4- وبُلْغَةٌ:

هي المصروف الذي يُبَلِّغُكَ إلى بُغْيَتِك من تحصيل العلم، فإن أسلافنا- رضي الله عنهم- لم يرضوا لطالب العلم أن يكون عالة على الناس، أو أن يكون متأكِّلاً بالقرآن، فاشترطوا لتحصيل العلم أن يستعدَّ له طالبه بالبُلْغَة، وهي: الزاد الذي يَتَقوَّى به على تحصيله، وعلى طالب القرآن أن يتحرَّى البُلْغةَ الحلال، والمأْكَلَ الطيب أثناء تحصيله.

5- وصُحْبةُ أُستاذٍ:

الصحبة دوام الملازمة، والمواظبة على الحضور بين يدي الأستاذ المربِّي الذي يأخذ بيدك إلى الطريق السويِّ، والمنهل العذْب الرويِّ، وقد قال بعضهم: لا تصحب من لا يُنهِضُك حالُه، ولا يُقَرِّبك من الله مقالُه.

وتحصيل العلم وأخذ القرآن لا يمكن أن يكون بدون شيخ متقِن، فلا بدَّ من الملازمة المستمرة، والجُثُوِّ على الرُّكَب بين يدي العلماء حتى يتمرَّس الطالب على حسن الفهم والاستنباط، ومعرفة مرامي الألفاظ، ومقاصد العلماء، [فمن كان شيخُه كتابَه كان خطؤه أكثرَ من صوابه].

وقد بسطتُّ هذا المعنى في الفصل الثاني: القاعدة الثالثة عشرة وبَيَّنْتُ الصفاتِ التي ينبغي أن يتحلى بها الشيخ وكيفيةَ اختياره وما إلى ذلك.

6- وطولُ زمانِ:

كثيراً مَّا تأتي بعضَ الإخوة هِمَّةٌ عارضةٌ، فيرغب في العلم، كأن يسمع موعظة تحثُّهُ على العلم، أو يقرأ عن فضائل العلم فيبادر بهمة قوية إلى حضور مجالس العلم، ويستمر على هذا مدة قصيرة، ثم يعتريه الفتور الذي يعتري الكثيرين فيتكاسل ويتقاعس عن العلم، فيضيع هذا القليل الذي تعَلَّمَهُ، ويضيع مستقبله العلميّ.

وربما كان الحال أسوأ من هذا، وذلك بأن يُسَوِّلَ له شيطانه بأنه قد أخذ ما يكفيه من العلم، وانه بحِفْظه لبضْع مسائل أصبح شيخاً يمكن أن يُستفتَى فيُفْتي، ويمكن أن يجتهِدَ ويُقَدِّمَ رأيه موازياً لآراء الأئمة الكبار فباب الاجتهاد مفتوح لكل أحد. وكلا الحالَيْن خطيرٌ جداً، فطلب العلم لا يكون بحضور درس أو درسين، ولا بالاكتفاء بشهر أو شهرين، إنما يحتاج إلى زمنٍ طويلٍ، ومصاحبةٍ للعلماء.

وقد روى البيهقيّ في «شعب الإيمان» أن عبد الله بن المبارك قال: لا يُنال العِلْمُ إلاّ بالفَراغ والمال، والحِفْظِ، والوَرَعِ.

* * *

  • المصدر:

-          كيف تحفظ القرآن الكريم: د. يحيى الغوثاني.

-          دروس في ترتيل القرآن الكريم: الشيخ عبدالقادر شيخ الزور.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم