تنفيس الكربات من أعظم القربات
 

عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نفَّس عن مسلمٍ كربةً من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسرٍ يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» أخرجه مسلم.

* مفردات الحديث:

نَفَّس: بفتح النون وتشديد الفاء آخره سين، من تنفيس الخناق أي: إرخائه حتى يأخذ له نفساً، والمراد: إزالة الضيق.

كُرْبَة: بضم الكاف وسكون الراء ثم باء موحدة، وآخرها تاء التأنيث، هي ما أهمَّ النفس وغمَّ القلب كأنها لشدة غمها عطلت مجال التنفس منه.

يسَّر على مُعْسِر: سهَّل عليه بإبراء أو هبة أو صدقة أو إنظار إلى ميسرة، قال في الفتح: ويصح شموله لإفتاء عامي في ضائقة وقع فيها بما يخلصه منها، لأنه حِصن بالنسبة للعالم.

سَتَر: أخفى عيب ذنب ذوي الهيئات والمروءات الذين لم يُعْرَفوا بالشر، فالله تعالى يستره يوم القيامة بمحو ذنوبه بحيث لا يسأل عنها ابتداء، أو يسأله عنها بدون أن يطلع عليها أحد.

* ما يؤخذ من الحديث:

1- قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث عظيم جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب، وهذه القطعة التي معنا فيها أربع فقرات كريمات:

2- الأولى: من نفَّس عن مسلم كُرْبة... الخ:

قال ابن رجب: الكربة هي الشدة العظيمة التي توقع صاحبها في الكرب، وتنفيسها أن يخفف عنه منها، وذلك بأن يزيل عنه الكربة، فتفرج عنه كربته ويزول همه وغمه، وتفريج الكربات بابه واسع، فإنه يشمل كل ما يلزمه وينزل بالعبد من ضائقة.

3- قال النووي: فيه دليل على استحباب الرضا وفك الأسير والضمان عن المعسر، وليس في الحديث جزاء الحسنة حسنة في الآخرة واحدة، وإنما كربة الآخرة تشتمل على أهداف كثيرة وأحوال صعبة ومخاوف جمة، وتلك الأهوال تزيد على العسرة، كما أن الحديث وعد بأن يختم للمنفِّس بخير بأن يموت على الإسلام، فهو وعد لثواب الآخرة، فبهذا الوعد فليثق المؤمنون.

4- الثانية: من يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، فإنظار الغريم في الدين أو إبراؤه سبب قوي ووعد من الله تعالى أن ييسر الله أموره في الدنيا والآخرة.

5- قال ابن رجب: التيسير على المعسر يكون بأحد أمرين:

إما إنظاره وذلك واجب.

وإما بالوضع عنه أو بإعطائه ما يزول به إعساره، وكلاهما فيه فضل.

وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسراً قال لصبيانه تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه».

6- الثالثة: «مَن سَتَر على مسلم... الخ».

قال النووي: في الحديث استحباب ستر المسلم إذا اطلع على أنه عمل فاحشة، فقد قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾.

والمستحب للإنسان إذا اقترف ذنباً أن يستر على نفسه.

7- قال ابن دقيق العيد في شرح الأربعين: المراد: الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس معروفاً بالفساد، وهذا في ستر معصية وقعت وانقضت، أما إذا علم معصيته وهو متلبس بها فيجب المبادرة بالإنكار عليه ومنعه منها، فإن عجز لزم رفعها إلى ولي الأمر إن لم يترتب على ذلك مفسدة.

8- أما المعروف بالفسق فلا يُستر عليه لأن الستر عليه يطمعه في الفساد والإيذاء وانتهاك المحرمات، وجسارة غيره على مثل ذلك، بل عليه أن يرفعه إلى الإمام إن لم يخف من ذلك مفسدة.

وكذلك القول في جرم الرواة والشهود والأمناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم، فيجب تجريحهم عند الحاجة، ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجبة.

9- وقال ابن رجب في شرح الأربعين: واعلم أن الناس على ضربين:

أحدهما: من كان مستوراً لا يُعرف بشيء من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة أو زلة فإنه لا يجوز هتكها ولا كشفها ولا التحدث بها لأن ذلك غيبة محرمة، وهذا هو الذي ورد في النصوص، وفي ذلك قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾. والمراد بإشاعة الفاحشة على المؤمن فيما وقع منه، واتهم به مما هو بريء منه.

قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف: اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام، ومثل هذا لو جاء تائباً نادماً وأقر بحدٍ لم يفسره، لم يُطلب منه أن يفسره بل يؤمر بأن يرجع ويستر نفسه، فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم» أخرجه أبو داود والنسائي من حديث عائشة.

الثاني: من كان مشتهراً بالمعاصي معلِناً بها، ولا يبالي بما ارتكب منها ولا بما قيل له هذا هو الفاجر المعلن، وليس له غيبة كما نص على ذلك الحسن البصري وغيره.

ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره لتقام عليه الحدود، وصرح بذلك أصحابنا واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «واغْدُ يا أُنَيْس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها».

ومثل هذا لا يُشفع له إذا أُخذ ولو لم يبلغ السلطان، بل يُترك حتى يقام عليه الحد، فيكشف ستره ويرتدع به أمثاله.

10- قال مالك: من لم يُعرف منه أذى للناس وإنما كانت منه زلة فلا بأس أن يُشفع له ما لم يبلغ الإمام.

وأما من عُرف بشرٍّ أو فسادٍ فلا أحب أن يشفع له أحد ولكن يُترك حتى يقام عليه الحد، حكاه ابن المنذر وغيره.

11- الرابعة – والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه-.

فمن كان في حاجة أخيه فالله تعالى في حاجته بالتيسير والتسهيل والإعانة، وهو وعد صادق من الله تعالى، فقد أخرج الطبراني من حديث عمر مرفوعاً: «أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن، كسوت عورته أو أشبعت جوعته أو قضيت حاجته».

قال مجاهد: (صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني).

12- فالحديث يدل على أنه تعالى يتولى إعانة من أعان أخاه سواء في حاجة العبد التي يسعى فيها وفي حوائج نفسه، فينال من عون الله ما لم يكن يناله بغير إعانته، وإن كان تعالى هو المعين لعبده في كل أموره، لكن إذا كان في عون أخيه زادت إعانة الله.

13- فيؤخذ منه أنه ينبغي للعبد أن يشتغل بقضاء حوائج أخيه، فيقدمها على حاجة نفسه لينال من الله كمال الإعانة في حاجاته.

14- وهذه الجمل دلت على أنه تعالى يجازي العبد من جنس فعله.

* * *