الحديث الخامس: إبطال المنكرات والبدع
 

عن أُمِّ المومنين أُمِّ عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ». رواه البخاريُّ ومسلمٌ. وفي روايةٍ لمسلمٍ: «مَنْ عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ».

الحديث رواه البخاري في كتاب الصلح ( باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود) رقم/2550/.

ورواه مسلم في الأقضية (باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور) رقم/1718/، وأبو داود في السنة (باب في لزوم السنة) رقم/4606، وابن ماجه.

* أهمية الحديث:

هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام: وكما أن حديث «إنما الأعمال بالنيات» ميزان للأعمال في باطنها، وكل عمل لا يُراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب؛ فكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم هذا ميزان للأعمال في ظاهرها، وكل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس من الدين في شيء.

قال النووي رحمه الله تعالى: هذا الحديث ينبغي حفظه وإشهاده في إبطال المنكرات.

وقال ابن حجر الهيتمي: هو قاعدة من قواعد الإسلام وأعمها نفعاً من جهة منطوقه؛ لأنه مقدمة كلية في كل دليل يُستنتجُ منه حكم شرعي.

* لغة الحديث:

«من أحدث»: أنشأ واخترع من قبل نفسه وهواه.

«في أمرنا»: في ديننا وشرعنا الذي ارتضاه الله لنا.

«ما ليس منه»: مما ينافيه ويناقضه، أو لا يشهد له شيء من قواعده وأدلته العامة.

«فهو رد»: مردود على فاعله لبطلانه وعدم الاعتداد به.

* فقه الحديث وما يرشد إليه:

1- الإسلام إتباع ولا ابتداع: والرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه حفظ الإسلام من غلو المتطرفين وتحريف المبطلين بهذا الحديث الذي يعتبر من جوامع الكلم، وهو مستمد من آيات كثيرة في كتاب الله عز وجل نصت على أن الفلاح والنجاة في إتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تزيد أو تنطع؛ كقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾ [آل عمران: 31]، وقوله: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153].

وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: «خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» ورواه البيهقي وفيه زيادة: «وكل ضلالة في النار».

2- الأعمال المردودة: والحديث نص صريح في رد كل عمل ليس عليه أمر الشارع؛ ومنطوقه يدل على تقييد الأعمال بأحكام الشريعة واحتكامها كأفعال للمكلفين بما ورد في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوامر ونواهٍ، والضلال كل الضلال أن تخرج الأعمال عن نطاق أحكام الشريعة فلا تتقيد بها، وأن تصبح الأحكام حاكمة على الشريعة لا محكومة لها، ومن واجب كل مسلم حينئذٍ أن يحكم عليها بأنها أعمال باطلة ومردودة، وهي قسمان: عبادات ومعاملات.

أ- أما العبادات: فما كان منها خارجاً عن حكم الله ورسوله بالكيلة فهو مردود على صاحبه، وهو داخل تحت قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّه﴾ [الشورى: 21]، ومثال ذلك أن يتقرب إلى الله تعالى بسماع الأغاني، أو بالرقص، أو بالنظر إلى وجوه النساء، أو بكشف الرأس في غير الإحرام، أو بما أشبه ذلك من محدثات البشر و جنون العصر، وهؤلاء وغيرهم ممن أعمى الله بصيرته عن إتباع سبيل الحق، واتبع سبل الشيطان، يدّعون أنهم يتقربون إلى الله تعالى بما أحدثوه من أفكار وضلالات، وهم في باطلهم كالعرب المشركين الذين ابتدعوا عبادات وقربات ما أنزل الله بها من سلطان، وقال الله عز وجل عنهم: ﴿وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً﴾ [الأنفال: 35].

وقد يظن بعضهم أن ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقاً، ومثال ذلك: الرجل الذي نذر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل وأن يصوم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم «أن يقعد و يستظل وأن يتم صومه».

وفي كتب الفقه تفصيل أحكام العبادات في الإسلام وما يُرَدُّ منها ويبطل عند إحداث زيادة أو نقص عما ثبت عن المشرِّع الحكيم.

ب- وأما المعاملات: كالعقود والفسوخ، فما كان منافياً للشرع بالكلية فهو باطل ومردود، دليل ذلك ما حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاءه سائل يريد أن يغيِّر حد الزنى المعهود إلى فداء من المال والمتاع، فردَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحال وأبطل ما جاء به، روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه سائل فقال: «إن ابني كان عسيفاً على فلان فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المائة الشاة والخادم ردٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام».

وكذلك كل عقد نهى عنه الشرع، أو أخل المتعاقدان بركن من أركانه أو شرط من شروطه؛ فهو عقد باطل ومردود، وتفصيل ذلك في كتب الفقه.

3- الأعمال المقبولة: وهناك أعمال وأمور مستحدثة لا تنافي أحكام الشريعة، بل يوجد في أدلة الشرع وقواعده ما يؤيدها، فهذه لا ترد على فاعلها بل هي مقبولة ومحمودة، وقد فعل الصحابة رضوان الله عليهم كثيراً من ذلك واستجازوه وأجمعوا على قبوله، وأوضح مثال على ذلك: جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مصحف واحد، وكتابة نسخ منه وإرسالها إلى الأمصار مع القراء في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه.. ومثله الكتابة في علوم النحو والفرائض والحساب والتفسير والكلام على الأسانيد ومتون الأحاديث.. وغير ذلك من العلوم النظرية التي تخدم مصادر التشريع الأساسية، أو العلوم التجريبية النافعة التي تخدم الناس في معيشتهم وتصل بهم إلى إعداد القوة وإعمار الأرض والتمكين لشرع الله والحكم بما أنزل الله.

4- البدعة المذمومة والبدعة المحمودة: ونصل بعد الكلام على الأعمال المردودة والأعمال المقبولة إلى نتيجة واضحة وحاسمة، وهي أن بعض الأعمال المبتدعة المخالفة لشرع الله هي بدع سيئة وضالة، وبعض الأعمال المستحدثة لا تخالف الشرع بل هي موافقة له مقبولة فيه، فهذه أعمال مقبولة ومحمودة، ومنها ما هو مندوب، ومنها ما هو فرض كفاية، ومن هنا قال الشافعي رحمه الله تعالى: (ما أحدث وخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو أثراً فهو البدعة الضالة، وما أحدث من الخير ولم يخالف شيئاً من ذلك فهو البدعة المحمودة).

والبدعة السيئة قد تكون مكروهة وقد تكون حراماً لضررها وفسادها ومخالفتها مقاصد الإسلام وضروراته؛ وقد تصل بالإنسان إلى الكفر والزيغ والضلال كالانتماء إلى الهيئات والجماعات التي تنكر الوحي أو تتنكر لشرع الله، أو تنادي بتحكيم القوانين الوضعية، وترى في تحكيم شرع الله تخلفاً وضعفاً، وكالانتماء إلى جماعة يدّعون التصوف ويستحلون التهاون في التكاليف الشرعية ولا يقفون عند حدود ما أحله الله وما حرمه، أو يقولون بوحدة الوجود والحلول، وغيرها من الأحوال والأقوال الضالة الكافرة.. ومن البدع السيئة عند عامة الناس تعظيم بعض الأشياء والتبرك بها واعتقاد النفع فيها، كتعظيم نحو عين وشجرة وضريح، وقد صح أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم مروا بشجرة سدر قبل حنين كان المشركون يعظمونها وينوطون بها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. ثم قال: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم».

5- فائدة رواية مسلم «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» أن بعض المعاندين ببدعة سُبق إليها، يرد على احتجاجنا عليه بالرواية الأولى فيقول: أنا ما أحدثت في الدين شيئاً. فنروي له رواية مسلم «من عمل عملاً.. » فتفهمه.

6- وفي الحديث أن من ابتدع في الدين بدعة لا توافق الشرع فإثمها عليه، وعمله مردود عليه، وأنه يستحق الوعيد.

7- وفيه أن النهي يقتضي الفساد.

8- الدين الإسلامي كامل لا نقص فيه.

* أهم المصادر والمراجع:

- الوافي في شرح الأربعين النووية: د. مصطفى البغا / محي الدين مستو.

- صحيح الإمام مسلم: الإمام مسلم بن الحجاج القشيري.

- الرياض الندية في شرح الأربعين النووية: الإمام ابن دقيق العيد / العثيمين / الإمام النووي.

- الجواهر اللؤلؤية في شرح الأربعين النووية: محمد عبدالله الجرداني.

- شرح الأربعين النووية: الإمام النووي.