الحديث السابع: الدِّينُ النصيحةُ
 

عن أبي رُقَيَّةَ تميمِ بنِ أوْسٍالدَّاريِّ رضي اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: « الدِّينُ النصيحةُ. قلنا: لِمنْ؟ قال:لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامَّتهم » رواه مسلم.

* أهمية الحديث:

هذا الحديث من جوامع الكلم التي اختُص بها رسولنا صلى الله عليه وسلم، فهو عبارة عن كلمات موجزة اشتملت على معانٍ كثيرة وفوائد جليلة، حتى إننا نجد سائر السنن وأحكام الشريعة أصولاً وفروعاً داخلة تحته، بل تحت كلمة منه وهي«ولكتابه» لأن كتاب الله تعالى اشتمل على أمور الدين جميعاً أصلاً وفرعاً وعملاً اعتقاداً؛ فإذا آمن به وعمل بما تضمنه على ما ينبغي في النصح له، فقد جمع الشريعة بأسرها، قال تعالى: ﴿ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38]، ولذا قال العلماء: هذا الحديث عليه مدار الإسلام.

* لغة الحديث:

«الدين»: المراد هنا: الملة، وهي دين الإسلام؛ أي عماد الدين وقوامه النصيحة.

«النصيحة»: كلمة يعبر بها عن إرادة الخير للمنصوح له، وأصل النصح في اللغة: الخلوص، ومنه: نصحت العسل: إذا صفيته من الشمع وخلصته منه، وقيل: مأخوذ من نصح الرجل ثوبه: إذا خاطه، فشبَّه فعل الناصح فيما يتحراه للمنصوح له بإصلاح الثوب.

«أئمة المسلمين»: حكامهم.

«عامتهم»: سائر المسلمين غير الحكام.

فقه الحديث وما يرشد إليه:

1-النصيحة لله: وتكون بالإيمان بالله تعالى ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها، وتنزيهه سبحانه وتعالى من جميعالنقائص، والإخلاص في عبادته، والقيام بطاعته وتجنب معصيته، والحب والبغض فيه، وموالاة من أطاعه ومعاداة من عصاه. والتزام المسلم لهذا في أقواله وأفعاله يعود بالنفع عليه في الدنيا والآخرة؛ لأنه سبحانه وتعالى غني عن نصح الناصحين.

2-النصيحة لكتاب الله: وتكون بالإيمان بالكتب السماوية المنزلة كلها من عند الله تعالى، والإيمان بأن هذا القرآن خاتم لها وشاهد عليها، وهو كلام الله تعالى المعجز، حفظه في الصدور والسطور، وتكفَّل سبحانه بذلك ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر: 9].

وتكون نصيحة المسلم لكتاب ربه عز وجل:

أ-بقراءته وحفظه؛ لأن في قراءته اكتساب العلم و المعرفة، وحصول طهارة النفس وصفاء الضمير وزيادة التقوى. وفي قراءة القرآن حسنات عظيمة تكتب في صحيفته، وشفاعة يجدها في انتظاره يوم القيامة، روى مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفياً لأصحابه». وأما حفظ كتاب الله تعالى في الصدور؛ ففيه إعمار القلوب بنور كتاب الله، وقدرٌ عظيم وشرف يناله المسلم فيصبح شامة بين الناس في الدنيا، ودرجة عالية يرتقي إليها بمقدار ما حفظمن آيات كتاب الله وسوره في الآخرة، روى أبو داود والترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها».

ب-بترتيله وتحسين الصوت بقراءته، مما يجعل القراءة أوقع في النفس، وأسمع في القلب، روى البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن».

ج- بتدبر معانيه، وتفهم آياته، قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24].

د- بتعليمه للأجيال المسلمة، لتقوم بتبعة المسؤولية في حفظ كتاب الله، وفي تعلم القرآن وتعليمه سبيل عزتنا وسعادتنا، روى البخاري عن رسول الله صلى الله ليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلّمه».

هـ- بالتفقه والعمل، فلا خير في قراءة لا فقه فيها، ولا خير في فقه لا عمل به، وأهم ما نحصل عليه من ثمرات قرآنية يانعة؛ إنما نصل إليها بعد فهم وعمل، وقبيحٌ بنا أن نعلم ولا نعمل، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ2/كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2- 3].

3- النصيحة لرسول الله: وتكون بتصديق رسالته والإيمان بجميع ما جاء به من قرآن وسنة، كما تكون بمحبته وطاعته، وفي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة الله تعالى ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾ [آل عمران: 31]، وفي طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة الله عز وجل ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ﴾ [النساء: 80]، والنصح لرسول الله بعد موته يقتضي من المسلمين أن يقرؤوا سيرته في بيوتهم، وأن يتخلقوا بأخلاقه صلى الله عليه وسلم ويتأدبوا بآدابه، ويلتزموا سنته بالقول والعمل، و يستفيدوا من حياته وأيامه الدروس والعبر والعظات، وأن يسهموا في نشر السنة بين الناس، وأن ينفوا عنها تهم الأعداء والمغرضين، ودعاوى المبطلين وبدع المغالين.

4- النصيحة لأئمة المسلمين: وأئمة المسلمين إما أن يكونوا الحكام أو من ينوب عنهم، وإما أن يكونوا العلماء والمصلحين.

فأما حكام المسلمين فيجب أن يكونوا من المسلمين؛ حتى تجب طاعتهم، قال تعالى: ﴿ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ﴾ [النساء: 59]، ونصيحتنا لهم أن نحب صلاحهم ورشدهم وعدلهم، لا أن نحبهم لأشخاصهم، ولما يتحقق من مصالحنا الخاصة على أيديهم، وأن نحب اجتماع الأمة في ظل حكمهم العادل، ونكره افتراق الأمة وضيعة الناس في ظل حكم جائر وطائش.. ونصيحتنا لهم أن نعينهم على الحق ونطيعهم فيه ونذكرهم به، وننبههم في رفق وحكمة ولطف، فإنه لا خير في أمة لا تنصح لحاكمها، ولا تقول للظالم أنت ظالم، ولا خير في حاكم يستذل شعبه ويكمُّ أفواه الناصحين، ويصمُّ أذنيه عن سماع كلمة الحق، بل يكره أن يتفوه بها أحد، وعندما تصبح الأمة كالقطيع لا تقوم بحق النصح للحاكم ويصبح الحاكم طاغوتاً لا يقبل النصيحة، فمعنى ذلك الذل والدمار والهزيمة والصغار، وهذا قابل الوقوع والحدوث كلما انحرفت الأمة عن الإسلام ، ومُسخت وشُوهت مبادئه وأفكاره في أقوال الناس وأفعالهم.

وأما العلماء المصلحين، فإن مسؤوليتهم في النصح لكتاب الله وسنة رسوله كبيرة، وتقتضي رد الأهواء المضلة بالكتاب والسنة، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلات العلماء، وبيان الصحيح والضعيف من الأحاديث المروية في كتب السنن والمسانيد، وذلك بعرضها على قواعد الجرح والتعديل وعلل الأحاديث.

ومسؤوليتهم في النصح الحكام ودعوتهم إلى الحكم بكتاب الله وسنة رسوله أكبر وأعظم، والله سبحانه وتعالى سيحاسبهم إن قصروا في هذه المسؤولية، ولم يكونوا مجاهدين يعلنون كلمة الحق في وجوه الحكام، قال صلى الله عليه وسلم: «إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر». وسيحاسبهم إن هم أغروا الحاكم بالتمادي في ظلمه وغيه بمديحهم الكاذب، وجعلوا من أنفسهم أبواقاً للحكام ومطية، والفرق كبير جداً بين أن ينضووا في قافلة سلاطين العلماء، وبين أن يصبحوا ذيولاً في قافلة خدام الحكام.

ونصحنا لهم أن نذكرهم بهذه المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وأن نصدقهم بما يروونه من أحاديث ما داموا أهلاً للثقة، وأن نصون ألسنتنا عن تجريحهم أو ذمهم، فإن هذا يفقدهم الهيبة، ويجعلهم محل التهمة.

5- النصيحة لعامة المسلمين:وذلك بإرشادهم لمصالحهم في أمر آخرتهم ودنياهم، ومما يؤسف له أن المسلمين قد تهاونوا في القيام بحق نصح بعضهم بعضاً وخاصةً فيما يقدمونه لآخرتهم، وقصروا جل اهتماماتهم على مصالح الدنيا وزخارفها.. ويجب أن لا تقتصر النصيحة على القول، بل يجب أن تتعدى ذلك إلى العمل، فتظهر النصيحة في المجتمع الإسلامي ستراً للعورات، وسداً للخلل، ودفعاً للضرر، وجلباً للمصالح، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وتوقيراً للكبير، ورحمةً بالصغير، وتركاً للغش والحسد، وإنْ أضر ذلك بدنيا الناصح أو بماله .

6- أعظم أنواع النصيحة: ومن أعظم أنواع النصح بين المسلمين: أن ينصح لمن استشاره في أمره، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له»، ومن أعظم أنواعه: أن ينصح أخاه في غيبته، وذلك بنصرته والدفاع عنه؛ لأن النصح في الغيب يدل على صدق الناصح، قال صلى الله عليه وسلم: «إن من حق المسلم على المسلم أن ينصح له إذا غاب».

7- أقوال فريدة للعلماء في النصيحة: قال الحسن البصري: إنك لن تبلغ حق نصيحتك لأخيك حتى تأمره بما يعجز عنه. وقال: قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن شئتم لأقسمن لكم بالله: إنَّ أحبَّ عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، ويسعون في الأرض بالنصيحة.

وقال أبو بكر المزني: ما فاق أبو بكر رضي الله عنه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء كان في قلبه، قال: الذي كان في قلبه الحب لله عز وجل والنصيحة في خلقه.

وقال الفضيل بن عياض: ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة والصيام، وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس وسلامة الصدور والنصح للأمة.

8- من أدب النصيحة: وإن من أدب النصح في الإسلام: أن ينصح المسلم أخاه المسلم ويعظه سراً، لأن من ستر ستره الله في الدنيا والآخرة، قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه. وقال الفضيل بن عياض: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير.

9- ويستفاد من الحديث كما قال ابن بطال:

- أن النصيحة دين وإسلام، وأن الدين يقع على العمل كما يقع على القول.

- النصيحة فرض كفاية يجزئ فيه من قام به ويسقط عن الباقين.

- النصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يُقبل نصحُه، ويُطاع أمره وأَمِنَ على نفسه المكروه، فإن خشي على نفسه أذىً فهو في سعة.

* أهم المصادر والمراجع:

- الوافي في شرح الأربعين النووية: د. مصطفى البغا / محي الدين مستو.

- صحيح الإمام مسلم: الإمام مسلم بن الحجاج القشيري.

- الرياض الندية في شرح الأربعين النووية: الإمام ابن دقيق العيد / العثيمين / الإمام النووي.

- الجواهر اللؤلؤية في شرح الأربعين النووية: محمد عبدالله الجرداني.

- شرح الأربعين النووية: الإمام النووي.