من خصال الإيمان القول الحسن ورعاية حق الضيف والجار
 

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومَنْ كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومَنْ كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» رواه البخاري ومسلم.

أهميته:

قال ابن حجر رحمه الله تعالى، في شرحه لصحيح البخاري: وهذا من جوامع الكلم. وقد اشتمل الحديث على أمور ثلاثة، تجمع مكارم الأخلاق الفعلية والقولية. وانظر ما جاء في أهمية الحديث الثالث عشر.

لغة الحديث:

«يؤمن»:الإيمان الكامل، المنجي من عذاب الله تعالى، والموصل إلى رضوانه. وأصل الإيمان التصديق والإذعان.

«اليوم الآخر»: يوم القيامة، وهو وقت الجزاء، على الأعمال.

«يصمت»: يسكت.

«فليكرم جاره»: يُحصل له الخير، ويكف عنه الأذى والشر.

»فليكرم ضيفه»:يُقدم له القرى – وهو طعام الضيف ونحوه – ويُحسن إليه.

فقه الحديث وما يرشد إليه:

1- الإنسان وعلاقته بالمجتمع: يعيش الإنسان في هذه الدنيا مع الناس، وتقوم بينه وبينهم علاقات وارتباطات، وهو يحتاجهم وهم يحتاجون إليه، والإسلام يحرص على أن تكون هذه العلاقات بينهم على أساس سليم ومنهج قويم، وذلك يتحقق عندما يكرم بعضهم بعضاً، ويلتزم كل منهم مع الآخرين آداب المعاملة وحسن المعاشرة، من كلام جميل، وجوار كريم، وضيافة لائقة، وهذا ما حثنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي نتناوله بالبحث.

2- من كمال الإيمان قول الخير والصمت عما سواه: يحثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث على أعظم خصال الخير وأنفع أعمال البر، فهو يبين لنا أن من كمال الإيمان وتمام الإسلام، أن يتكلم المسلم في الشؤون التي تعود عليه بالنفع في دنياه أو آخرته، ومن ثم تعود على المجتمع بالسعادة والهناءة، وأن يلتزم جانب الصمت في كل ما من شأنه أن يسبب الأذى أو يجلب الفساد، فيستلزم غضب الرب سبحانه وتعالى وسخطه.

روى أحمد في مسنده: عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه». وأخرجه الطبراني – أيضاً – من حديث أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه». أي يمسكه عن بعض الكلام، وهو الذي لا خير فيه.

3- الخوض في الكلام سبب الهلاك، وصون اللسان طريق النجاة: قد مَّر بك قوله صلى الله عليه وسلم:«من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، وأن الكلام فيما لا يعني قد يكون سبباً لإحباط العمل والحرمان من الجنة. فعلى المسلم إذا أراد أن يتكلم أن يفكر قبل أن يتكلم: فإن ظهر له أن ما يتكلم به خير محقق يثاب عليه تكلم به، وإن ظهر له أنه شر يثيره أو باطل ينشره، أو التبس عليه الأمر، فليمسك عن الكلام فهو خير له وأسلم، لأنه محاسب عن كل كلمة يلفظ بها، فإما مثاب أو معاقب، قال الله تعالى:﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18]. وروى البخاري: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، ما يلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى، لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم». ونذكر حديث معاذ رضي الله عنه:«وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم».

4- آداب الكلام: للكلام في الإسلام آداب كثيرة منها:

أ-حرص المسلم على أن يتكلم بما فيه نفع، وأن يمسك عن الكلام المحرم في أي حال من الأحوال. قال الله تعالى في وصف المؤمنين:﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون:3]. واللغو هو الكلام الباطل، كالغيبة والنميمة والطعن في أعراض الناس ونحو ذلك.

ب- عدم الإكثار من الكلام المباح، لأن قد يجر إلى المحرم أو المكروه. روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تعالى قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي». وقال عمر رضي الله عنه: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به.

ج- وجوب الكلام عند الحاجة إليه، وخاصة لبيان الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعتبر ذلك من أشرف الخصال، وتركه معصية وإثم، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس.

5- العناية بالجار والوصايا به: من كمال الإيمان وصدق الإسلام الإحسان إلى الجار والبر به والكف عن أذاه، كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وحسبنا دليلاً على ذلك: أن الله تعالى قرن الأمر بالإحسان إلى الجار مع الأمر بعبادته وحده سبحانه إذ قال:﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ ﴾ [النساء:36]. والجار الجنب هو البعيد في الجوار أو النسب، والصاحب بالجنب هو الرفيق في السفر أو غيره.

فالإحسان إلى الجار وإكرامه أمر مطلوب شرعاً، بل لقد وصلت العناية بالجار في لإسلام، إلى درجة لم يعهد لها مثيل في تاريخ العلاقات الاجتماعية، وانظر ما رواه البخاري: عن عائشة رضي الله عنه إذ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما زال جبريل يوصني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه». أي ظننت أنه سيجعل له نصيباً من ميراث جاره، من كثرة ما أبان لي من حقوقه عليه.

6- إيذاء الجار خلل في الإيمان يسبب الهلاك:أذى الجار محرم في الإسلام، وهو من الكبائر التي يعظم إثمها ويشتد عقابها عند الله عز وجل، وتحول بين فاعلها وبين بلوغه مراتب الفضل وكمال الإيمان. روى البخاري ومسلم: عن ابن مسعود رضي الله عنه:« أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قيل: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. قيل: ثم أي: قال: أن تزاني حليلة جارك». أي تغري زوجته حتى توافقك على الزنا وتزني بها، والند الشريك والمثيل. وروى البخاري: عن أبي شريح رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن. قيل: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بواثقه». أي لا يسلم من شروره وأذاه، والمراد بقوله: لا يؤمن، أي الإيمان الكامل المنجي عند الله عز وجل.

وأخرج أحمد والحاكم: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:«قيل يا رسول الله، إن فلانة تصلي بالليل وتصوم النهار، وفي لسانها شيء تؤذي جيرانها، سليطة؟ قال: لا خير فيها هي في النار. وقيل له إن فلانة تصلي المكتوبة وتصوم رمضان وتتصدق بالأتوار من الأقط، وليس لها شيء غيره، ولا تؤذي بلسانها جيرانها؟ قال: هي في الجنة». ومعنى سليطة: طويلة اللسان بالسب ونحوه. والأتوار من الأقط: قطع من اللبن المتجمد.

7- من وسائل الإحسان إلى الجار: وسائل البر والإحسان إلى الجار كثيرة، منها:

أ- مواساته عند حاجته، ففي مسند أحمد: عن عمر رضي الله عنه: لا يشبع المؤمن دون جاره. وروى الحاكم عنه صلى الله عليه وسلم:«ما آمن بي من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم». وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم:«إذا طبخت مرقاً فأكثر ماءه، ثم انظر إلى أهل بيت جيرانك، فأصبهم منها بمعروف». أي أعطهم منها شيئاً. والمرق ما طبخ من لحم ونحوه في الماء.

ب-مساعدته وتحصيل النفع له، وإن كان في ذلك تنازل عن حق لا يضر التنازل عنه، ففي الصحيحين: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره».

ج- الإهدار له، ولا سيما في المناسبات، روى البخاري: عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة».أي لا تستصغرن أن تهدي لها قليلاً، ولو كان المهدى فرسن شاة، وهو عظم عليه قليل من اللحم، والمعنى: فلتهد لها على أي حال.

8- إكرام الضيف من الإيمان ومن مظاهر حسن الإسلام: يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث: أن من التزم شرائع الإسلام، وسلك مسلك المؤمنين الأخيار، لزمه إكرام من نزل عنده من الضيوف، والبر بهم والإحسان إليهم، وكان ذلك دليل كمال ثقته بالله تعالى وصدق توكله عليه، فقال عليه الصلاة والسلام:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه».الضيافة حق أم إحسان؟ الضيافة من مكارم الأخلاق وآداب الإسلام، وخلق النبيين والصالحين، وهل هي كرم وإحسان من المزور، أم حق للضيف واجب عليه؟. فقد اختلف العلماء في ذلك:

فذهب أحمد والليث إلى أنها واجبة يوماً وليلة، لما رواه ابن ماجه من قوله صلى الله عليه وسلم: «ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم». وفي الصحيحين: عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله، إنك تبعثنا، فنزل بقوم لا يقروننا، فما ترى؟. فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:« إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم». ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث:«فليكرم ضيفه». فهو أمر والأمر للوجوب. وإذا قيل بوجوب الضيافة وامتنع عنها المزور، فهل يأخذ الضيف حقه من ماله بنفسه، أو يرفع ذلك إلى الحاكم ليأخذ له حقه؟. في ذلك عن أحمد رحمه الله تعالى روايتان.

والجمهور على أن الضيافة مستحبة، ومن باب مكارم الأخلاق، وليست بواجبه لقوله صلى الله عليه وسلم:«فليكرم» وفي رواية «فليحسن» وكل منهما لا يدل على الوجوب، لأن الإكرام ولإحسان من باب البر ومن مكارم الأخلاق.

9- من آداب الضيافة والضيف: من أدب الضيافة وكرمها البشر والبشاشة في وجه الضيف، وطيب الحديث معه، والمبادرة بإحضار ما تيسر عنده من الطعام وشراب، ويزيد عما يطعمه أهله وعياله في المعتاد مدة يوم وليلة، وفي اليومين الآخرين يطعمه كما يطعم عياله، من غير كلفة ولا إضرار بهم.

روى مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم:« الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه».

وأما الضيف فمن أدبه أن لا يضيق على مزوره ولا يزعجه، ومن التضييق أن يمكث عنده فوق ثلاثة أيام، أو يمكث عنده وهو يشعر أنه ليس عنده ما يضيفه به. روى مسلم من حديث أبي شريح رضي الله عنه:«ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه. قالوا يا رسول الله، كيف يؤثمه؟ قال: يقيم عنده ولا شيء له يقربه به». وفي هذه الحالة له أن يأمره بالتحول عنه، وخاصة بعد الثلاث، لأنه قد قضى ما عليه.

10- أهمية العمل بهذا الحديث: إن العمل بما عرفنا من مضمون هذا الحديث بالغ الأهمية، لأنه يحقق وحدة الكلمة، ويؤلف بين القلوب، ويذهب الضغائن والأحقاد، وذلك أن الناس جميعاً يجاور بعضهم بعضاً، وغالبهم ضيف أو مضيف، فإن أكرم كل جار جاره، وكل مضيف صلح المجتمع، واستقام أمر الناس، وسادت الألفة والمحبة، ولا سيما إذا التزم الكل أدب الحديث، فقال حسناً أو سكت.

* * *