النوع الثالث والعشرون معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترد روايته وما يتعلق بذلك من قدح وجرح وتوثيق وتعديل
 

أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على: أنه يشترط فيمن يحتج بروايته:

أن يكون عدلاً، ضابطاً لما يرويه. وتفصيله: أن يكون مسلماً، بالغاً، عاقلاً، سالماً من أسباب الفسق وخوارم المروءة، متيقظاً غير مغفل، حافظاً إن حدث من حفظه، ضابطاً لكتابه إن حدث من كتابه.

وإن كان يحدث بالمعنى: اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالماً بما يحيل المعاني، والله أعلم.

ونوضح هذه الجملة بمسائل:

أحدها: عدالة الراوي: تارة تثبت بتنصيص المعدلين على عدالته، وتارة تثبت بالاستفاضة، فمن اشتهرت عدالته فيه بذلك عن بينة شاهدة بعدالته تنصيصاً. وهذا هو الصحيح في مذهب الشافعي، وعليه الاعتماد في فن أصول الفقه.

وممن ذكر ذلك من أهل الحديث أبو بكر الخطيب الحافظ، ومثَّل ذلك بمالك وشعبة، والسفيانين والأوزاعي والليث، وابن المبارك، ووكيع، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر، فلا يسل عن عدالة هؤلاء وأمثالهم، وإنما يسأل عن عدالة من خفي أمره على الطالبين.

وتوسع ابن عبد البر الحافظ في هذا فقال: كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل، محمول في أمره أبداً على العدالة، حتى يتبين جرحه. لقوله صلى الله عليه وسلم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله». وفيما قاله اتساع غير مرضي، والله أعلم.

الثانية: يعرف كون الراوي ضابطاً بأن نعتبر رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان. فإن وجدنا رواياته موافقة – ولو من حيث المعنى – لرواياتهم، أو موافقة لها في الأغلب والمخالفة نادرة، عرفنا حينئذ كونه ضابطاً ثبْتاً. وإن وجدناه كثير المخالفة لهم، عرفنا اختلال ضبطه، ولم نحتج بحديثه، والله أعلم.

الثالثة: التعديل مقبول من غير ذكر سببه على المذهب الصحيح المشهور، لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها، فإن ذلك يحوج المعدل إلى أن يقول: لم يفعل كذا، لم يرتكب كذا، فعل كذا وكذا، فيعدد جميع ما يفسق بفعله أو بتركه، وذلك شاق جداً.

وأما الجرح فإنه لا يقبل إلا مفسراً مبين السبب، لأن الناس يختلفون فيما يجرح وما لا يجرح، فيطلق أحدهم الجرح بناء على أمر اعتقده جرحاً وليس بجرح في نفس الأمر، فلا بد من بيان سببه، لينظر فيما هو جرح أم لا .

وهذا ظاهر مقرر في الفقه وأصوله. وذكر الخطيب الحافظ: أنه مذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده، مثل البخاري، ومسلم، وغيرهما.

ولذلك احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح لهم، كعكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما، وكإسماعيل بن أبي أويس، وعاصم بن علي، وعمرو بن مرزوق، وغيرهم. واحتج مسلم بسويد بن سعيد وجماعة اشتهر الطعن فيهم. إلا إذا فسر سببه، ومذاهب النقاد للرجال غامضة مختلفة.

وعقد الخطيب باباً في بعض أخبار من استفسر في جرحه، فذكر ما لا يصلح جارحاً.

منها: عن شعبة أنه قيل له: لم تركت حديث فلان؟ فقال: رأيته يركض على برذون، فتركت حديثه.

ومنها: عن مسلم بن إبراهيم أنه سئل عن حديث الصالح المري، فقال: ما يصنع بصالح؟ ذكروه يوماً عند حماد بن سلمة فامتخط حماد، والله أعلم.

قلت:ولقائل أن يقول: إنما يعتمد الناس في جرح الرواة ورد حديثهم على الكتب التي صنعها أئمة الحديث في الجرح أو في الجرح والتعديل. وقل ما يتعرضون فيها لبيان السبب، بل يقتصرون على مجرد قولهم: فلان ضعيف، وفلان ليس بشيء، ونحو ذلك. أو: هذا حديث ضعيف، وهذا حديث غير ثابت، ونحو ذلك. فاشترط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك، وسد باب الجرح في الأغلب الأكثر.

وجوابه: أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به، فقد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك، بناء على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية، يوجب مثلها التوقف.

ثم من انزحت عنه الريبة منهم، ببحث عن حاله أوجب الثقة بعدالته، قبلنا حديثه ولم تتوقف، كالذين احتج بهم صاحبنا الصحيحين وغيرهما، ممن مسهم مثل هذا الجرح من غيرهم. فافهم ذلك، فإنه مخلص حسن، والله أعلم.

الرابعة: اختلفوا في أنه: هل يثبت الجرح والتعديل بقول واحد، أو: لا بد من اثنين. فمنهم من قال: لا يثبت ذلك إلا باثنين، كما في الجرح والتعديل في الشهادات. ومنهم من قال – وهو الصحيح الذي اختاره الحافظ أبو بكر الخطيب وغيره – إنه يثبت بواحد، لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر، فلم يشترط في جرح راويه وتعديله، بخلاف الشهادات، والله أعلم.

الخامسة: إذا اجتمع في شخص جرح وتعديل: فالجرح مقدم، لأن المعدل يخبر عما ظهر من حاله، والجارح يخبر عن باطن خفي على المعدل. فإن كان عدد المعدلين أكثر: فقد قيل: التعديل أولى. والصحيح- والذي عليه الجمهور – أن الجرح أولى، لما ذكرناه، والله أعلم.

السادسة: لا يجزئ التعديل على الإبهام من غير تسمية المعدل، فإذا قال: حدثني الثقة، أو نحو ذلك، مقتصراً عليه، لم يكتف به. فيما ذكره الخطيب الحافظ والصيرفي الفقيه وغيرهما. خلافاً لمن اكتفى بذلك: لأنه قد يكون ثقة عنده .

وغيره قد اطلع على جرحه بما هو جارح عنده، أو بالإجماع، فيحتاج إلى أن يسميه حتى يعرف. بل إضرابه عن تسميته مريب، يوقع في القلوب فيه تردداً. فإن كان القائل لذلك عالماً أجزأ ذلك في حق من يوفقه في مذهبه، على ما اختاره بعض المحققين.

وذكر الخطيب الحافظ: أن العالم لإذا قال: كل من رويت عنه فهو ثقة وإن لم أمه. ثم روى عن من لم يسمه فإنه يكون مزكياً له. غير أنا لا نعمل بتزكيته هذه، وهذا على ما قدمناه، والله أعلم.

السابعة: إذا روى العدل عن رجل وسماه، لم يجعل روايته عنه تعديلا منه له، عند أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم.

وقال بعض أهل الحديث وبعض أصحاب الشافعي: يجعل ذلك تعيلاً منه له، لأن ذلك يتضمن التعديل.

والصحيح هو الأول، لأنه يجوز أن يروي عن غير عدل فلم يتضمن روايته عنه تعديله. وهكذا نقول، إن عمل العالم، أو فتياه على وفق حديث، ليس حكماً منه بصحة ذلك الحديث. وكذلك مخالفته للحديث ليست قدحاً منه في صحته ولا في راويه، والله أعلم.

الثامنة: في رواية المجهول، وهو في غرضنا ههنا أقسام:

أحدها: المجهول العدالة من حيث الظاهر والباطن جميعاً. وروايته غير مقبولة عند الجماهير، على ما نبهنا عليه أولاً.

الثاني: المجهول الذي جهات عدالته الباطنة، وهو عدل في الظاهر، وهو المستور. فقد قال بعض أئمتنا: المستور من يكون عدلاً في الظاهر، ولا نعرف عدالة باطنه. فهذا المجهول يحتج بروايته بعض من رد رواية الأول، وهو قول بعض الشافعيين وبه قطع، منهم الإمام سليم بن أيوب الرازي. قال: لأن أمر الأخبار مبني على حسن الظن بالراوي. ولأن رواية الأخبار تكون عند من يتعذر عليه معرفة العدالة في الباطن، فاقتصر فيها على معرفة ذلك في الظاهر. وتفارق الشهادة، فإنها تكون عند الحكام، ولا يتعذر عليهم ذلك، فاعتبر فيها العدالة في الظاهر والباطن.

قلت: ويشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة، في غير واحد من الرواة الذين تقادم العهد بهم، وتعذرت الخبرة الباطنة بهم، والله أعلم.

الثالث: المجهول العين، وقد يقبل رواية المجهول العدالة من لا يقبل رواية المجهول العين، ومن روى عنه عدلان وعيّناه فقد ارتفعت عنه هذه الجهالة.

ذكر أبو بكر الخطيب البغدادي في أجوبة مسائل سئل عنها: أن المجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم تعرفه العلماء، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد. مثل: عمرو ذي مر، وجبار الطائي. وسعيد بن ذي حُدّان، لم يرو عنهم غير أبي إسحق السبيعي. ومثل الهزهاز بن ميزن، لا راوي عنه الشعبي.

ومثل جُري بن كليب، لم يرو عنه إلا قتادة.

قلت: قد روى عن الهزهاز الثوري أيضاً.

قال الخطيب: وأقل ما يرتفع به الجهالة أن يروي عن الرجل اثنان من المشهورين بالعلم، إلا أنه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه. وهذا مما قدمنا بيانه، والله أعلم.

قلت: قد خرج البخاري في صحيحه حديث جماعة ليس لهم غير راو واحد، منهم مرداس الأسلمي، لم يرو عنه غير قيس بن أبي حازم. وكذلك خرج مسلم حديث قوم لا راوي لهم غير واحد، منهم ربيعة بن كعب الأسلمي، لم يرو عنه غير أبي سلمة بن عبد الرحمن. وذلك منهما مصير إلى أن الراوي قد يخرج عن كونه مجهولاً مردوداً واحد عنه. والخلاف في ذلك متجه في التعديل نحو اتجاه الخلاف المعروف في الاكتفاء بواحد في التعديل، على ما قدمناه، والله أعلم.

اختلفوا في قبول المبتدع الذي لا يكفر في بدعته:

فمنهم من رد روايته مطلقً، لأنه فاسق ببدعته. وكما استوى في الكفر المتأول وغير المتأول يستوي في الفسق المتأول وغير المتأول.

ومنهم من قبل رواية المبتدع إذا لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه، سواء كان داعية إلى بدعته أو لم يكن. وعزا بعضهم هذا إلى الشافعي، لقوله: أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم.

وقال قوم: تقبل روايته إذا لم يكن داعية، ولا تقبل إذا كان إلى بدعته، وهذا مذهب الكثير أو الأكثر من العلماء.

وحكى بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه خلافاً بين أصحابه في قبول رواية المبتدع إذا لم يدع إلى بدعته، وقال: أما إذا كان داعية، فلا خلاف بينهم في عدم قبول روايته.

وقال أبو حاتم بن حبان البستي، أحد المصنفين من أئمة الحديث: الداعية إلى البدع لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبة، لا أعلم بينهم فيه خلافاً.

وهذا المذهب الثالث أعدلها وأولاها، والأول بعيد مباعد للشائع عن أئمة الحديث، فأن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة. وفي الصحيحين كثير من أحاديثهم في الشواهد والأصول، والله أعلم.

العاشرة: التائب من الكذب في حديث الناس وغيره من أسباب الفسق تقبل روايته، إلا التائب من الكذب متعمداً في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا تقبل روايته أبداً وإن حسنت توبته، على ذكر غير وحد من أهل العلم، منهم أحمد ابن حنبل، وأبو بكر الحميدي شيخ البخاري.

وأطلق الإمام أبو بكر الصيرفي الشافعي – فيما وجدت له في شرحه لرسالة الشافعي – فقال: كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه لم يعد لقبوله بتوبة تظهر، ومن ضعفنا نقله لم نجعله قوياً بعد ذلك. وذكر أن ذلك مما افترقت الرواية والشهادة.

وذكر الإمام أبو المظفر السمعاني المروزي: أن من كذب في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حديثه.

وهذا يضاهي من حيث المعنى ما ذكره الصيرفي، والله أعلم.

الحادية عشرة: إذا روى ثقة عن ثقة حديثاً ورجع المروي عنه فنفاه:

فالمختار أنه إن كان جازماً بنفيه بأن قال: ما رويته، أو: كذب علي، أو نحو ذلك، فقد تعارض الجزمان، والجاحد هو الأصل، فوجب رد حديث فرعه ذلك. ثم لا يكون ذلك جرحاً له يوجب رد باقي حديثه، لأنه مكذب لشيخه أيضاً، وليس قبول جرح شيخه له بأولى من قبول جرحه لشيخه فتساقطا.

أما إذا قال المروي عنه: لا أعرفه، لا أذكره، أو نحو ذلك، فذلك لا يوجب رد رواية الراوي عنه.

ومن روى حديثاً ثم نسيه: لم يكن ذلك مسقطاً للعمل به عند جمهور أهل الحديث وجمهور الفقهاء والمتكلمين.

خلافاً لقوم من أصحاب أبي حنيفة، صاروا إلى إسقاطه بذلك. وبنوا عليه ردهم حديث سليمان بن موسى، عن الزهري ، عن عروة، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا نكحت المرأة بغير إذن وليها فنكاحها باطل..» الحديث. من أجل أن ابن جريج قال: لقيت الزهري، فسألته عن هذا الحديث، فلم يعرفه.

وكذا حديث ربيعة الرأي، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين. فإن عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال: لقيت سهيلاً، فسألته عنه، فلم يعرفه.

والصحيح ما عليه الجمهور، لآن المروي عه بصدد السهو والنسيان، والراوي عنه ثقة جازم، فلا يرد بالاحتمال روايته. ولهذا كان سهيل بعد ذلك يقول: حدثني ربيعة عني، عن أبي.. ويسوق الحديث.

وقد روى كثير من الأكابر أحاديث نسوها بعد ما حدثوا بها عن من سمعها منهم، فكان أحدهم يقول:[حدثني فلان، عني، عن فلان بكذا وكذا].

وجمع الحافظ الخطيب ذلك في كتاب [أخبار من حدث ونسي].

ولأجل أن الإنسان معرض للنسيان كره من كره من العلماء الرواية عن الأحياء، منهم الشافعي رضي الله عنه، قال لابن عبد الحكم: إياك والرواية عن الأحياء، والله أعلم.

الثانية عشرة: من أخذ على التحديث أجراً منع ذلك من قبول روايته عند قوم من أئمة الحديث. وروينا عن إسحق بن إبراهيم: أنه سئل عن المحدث يحدث بالأجر؟ فقال: لا يكتب عنه. وعن أحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي نحو ذلك.

وترخص أبو نعيم الفضل بن دكين وعلي بن عبد العزيز المكي وآخرون في أخذ العوض على التحديث. وذلك شبيه بأخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه. غير أن هذا من حيث العرف للمروءة، والظن يساء بفاعله، إلا أن يقترن ذلك بعذر ينفي ذلك عنه، كمثل ما حدثنيه الشيخ أبو المظفر، عن أبيه الحافظ أبي سعيد السمعاني: أن أبا الفضل محمد بن ناصر السلامي ذكر: أن أبا الحسين بن النقور فعل ذلك، لأن الشيخ أبا إسحق الشيرازي أفتاه بجواز أخذ الأجرة على التحديث، لأن أصحاب الحديث كانوا يمنعونه عن الكسب لعياله، والله أعلم.

الثالثة عشرة: لا تقبل رواية من عرف بالتساهل في سماع الحديث أو إسماعه، كمن لا يبالي بالنوم في مجلس السماع، وكمن يحدث لا من أصل مقابل صحيح.

ومن هذا القبيل من عرف بقبول التلقين في الحديث. ولا تقبل رواية من كثرت الشواذ والمناكير في حديثه. جاء عن شعبة أنه قال: لا يجيئك الحديث إلا من الرجل الشاذ.

ولا تقبل رواية من عرف بكثرة السهو في رواياته، إذا لم يحدث من أصل صحيح. وكل هذا يخرم الثقة بالراوي وبضبطه.

وورد عن ابن المبارك، وأحمد بن حنبل، والحميدي، وغيرهم: أن من غلط في حديث وبين له غلطه، فلم يرجع عته وأصر على رواية ذلك الحديث، سقطت روايته ولم يكتب عنه. وفي هذا نظر، وهو غير مستنكر إذا ظهر أن ذلك منه على جهة العناد أو نحو ذلك، والله أعلم.

الرابعة عشرة: أعرض الناس في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بينا من الشروط ف رواة الحديث ومشايخه، فلم يتقيدوا بها في رواياتهم، لتعذر الوفاء بذلك على نحو ما تقدم، وكان عليه من تقدم.

ووجه ذلك: ما قدمناه في أول كتابنا هذا من كون المقصود المحتفظة على خصيصة هذه الأمة في الأسانيد، والمحاذرة، من انقطاع سلسلتها. فليعتبر من الشروط المذكورة ما يليق بهذا الغرض على تجرده. وليكتف في أهلية الشيخ بكونها: مسلماً بالغاً، عاقلاً، غير متظاهر بالفسق والسخف، وفي ضبطه: بوجود سماعه مثبتاً بخط غير متهم، وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه.

وقد سبق إلى نحو ما ذكرناه الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي رحمه الله تعالى، فإنه ذكر فيما رويناه عنه توسع من توسع في السماع من بعض محدثي زمانه، الذين لا يحفظون حديثهم ولا يحسنون قراءته من كتبهم، ولا يعرفون ما يقرأ عليهم بعد أن تكون القراءة عليهم من أصل سماعهم.

ووجه ذلك: بأن الأحاديث التي قد صحت، أو وقعت بين الصحة والسقم، قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث. ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم، وإن جاز أن يذهب على بعضهم، لضمان صاحب الشريعة حفظها.

قال البيهقي: فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه، ومن جاء بحديث معروف عندهم: فالذي يرويه لا ينفرد بروايته، والحجة قائمة بحديثه برواية غيره. والقصد من روايته والسمع منه أن يصير الحديث مسلسلاً [بحدثنا وأخبرنا] وتبقى هذه الكرامة التي خصت بها هذه الأمة شرفاً لنبينا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والله أعلم.

الخامسة عشرة: في بيان الألفاظ المستعملة من أهل هذا الشأن في الجرح والتعديل. وقد رتبها أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتابه في الجرح والتعديل فأجاد وأحسن. ونحن نرتبها كذلك، ونورد ما ذكره، ونضيف إليه ما بلغنا في ذلك عن غيره إن شاء الله تعالى.

أما الألفاظ التعديل فعلى مراتب:

الأولى: قال ابن أبي حاتم: إذا قيل للواحد إنه [ثقة، أو متقن] فهو ممن يحتج بحديثه.

قلت: وكذا إذا قيل [ثبت، أو: حجة]. وكذا إذا قيل في العدل إنه [حافظ، أو: ضابط]. والله أعلم.

الثانية: قال ابن أبي حاتم: إذا قيل إنه [صدوق، أو: محله الصدق، أو: لا بأس به]، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه، وهي المنزلة الثانية.

قلت: هذا كما قال، لأن هذه العبارات لا تشعر بشريطة الضبط، فينظر في حديثه ويختبر، حتى يعرف ضبطه. وقد تقدم بيان طريقه في أول هذا النوع. وإن لم يستوف النظر المعرَّف لكون ذلك المحدث في نفسه ضابطاً مطلقاً، واحتجنا إلى حديث من حديثه، اعتبرنا ذلك الحديث، ونظرنا: هل له أصل من رواية غيره؟ كما تقدم بيان طريق الاعتبار في النوع الخامس عشر.

ومشهور عن عبد الرحمن بن مهدي القدوة في هذا الشأن أنه حدث، فقال: حدثنا أبو خلدة، فقيل له: أكان ثقة؟ فقال: كان صدوقاً، وكان مأموناً، وكان خيراً – وفي رواية: وكان خياراً – الثقة شعبة وسفيان.

ثم إن ذلك مخلف لما ورد عن ابن أبي خيثمة، قال: قلت ليحيى بن معين: إنك تقول: فلان ليس به بأس، وفلان ضعيف؟ قال: إذا قلت لك: ليس به بأس فهو ثقة، وإذا قلت لك: هو ضعيف فليس هو بثقة، لا تكتب حديثه.

قلت: ليس في هذه حكاية ذلك عن غيره من أهل الحديث، فإنه نسبة إلى نفسه خاصة، بخلاف ما ذكره ابن أبي حاتم، والله أعلم.

الثالثة: قال ابن أبي حاتم: إذا قيل [شيخ] فهو بمنزلة الثالثة، يكتب حديثه وينظر فيه، إلا أنه دون الثانية.

الرابعة: قال: إذا قيل[صالح الحديث] فإنه يكتب حديثه للاعتبار.

قلت: وقد جاء عن أبي جعفر أحمد بن سنان قال: كان عبد الرحمن بن مهدي ربما جرى ذكر حديث الرجل فيه ضعف، وهو رجل صدوق، فيقول: رجل صالح الحديث، والله أعلم.

أما ألفاظهم في الجرح فهي أيضاً على مراتب:

أولاها: قولهم [لين الحديث]. قال ابن أبي حاتم: إذا أجابوا في الرجل بلين الحديث، فهو ممن يكتب حديثه، وينظر فيه اعتباراً.

قلت: وسأل حمزة بن يوسف السهمي أبا الحسن الدارقطني الإمام، فقال له: إذا قلت [ فلان لين] ايش تريد به؟ قال: لا يكون ساقطاً متروك الحديث، ولكن مجروحاً بشيء لا يسقط عن العدالة.

الثانية: قال ابن أبي حاتم: إذا قالوا [ليس بقوي] فهو بمنزلة الأول في كتب حديثه، إلا أنه دونه.

الثالثة: إذا قالوا [ضعيف الحديث] فهو دون الثاني، لا يطرح حديثه، بل يعتبر به.

الرابعة: قال: إذا قالوا [متروك الحديث، أو ذاهب الحديث، أو كذاب] فهو ساقط الحديث، لا يكتب حديثه، وهي المنزلة الرابعة.

قال الخطيب أبو بكر: أرفع العبارات في أحوال الرواة أن يقال [حجة، أو: ثقة]. وأدونها أن يقال [كذاب ساقط]. أخبرنا أبو بكر بن عبد المنعم الصاعدي الفراوي، قراءة عليه بنيسابور قال: أخبرنا محمد بن إسمعيل الفارسي قال: أخبرنا عبد الله ابن جعفر: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: سمعت أحمد بن صالح قال: لا يترك حديث رجل حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه. قد يقال: فلان ضعيف، فأما أن يقال فلان متروك، فلا، إلا أن يجتمع الجميع على ترك حديثه.

ومما لم يشرحه ابن حاتم وغيره من الألفاظ المستعملة في هذا الباب قولهم [فلان قد روى الناس عنه، فلان وسط، فلان مقارب الحديث، فلان مضطرب الحديث، فلان لا يحتج به، فلان مجهول فلان لا شيء، فلان ليس بذلك] وربما قيل [ليس بذاك القوي، فلان فيه – أو: في حديثه – ضعف]. وهو الجرح أقل من قولهم [فلان ضعيف الحديث، فلان ما أعلم به بأساً]. وهو في التعديل دون قولهم [ لا بأس به]. وما من لفظة منها ومن أشباهها إلا ولها نظير شرحناه، أو أصل أصلناه، ننبه إن شاء الله به عليها. والله أعلم.

  • المصدر:

-          مقدمة ابن الصلاح: ابن الصلاح.