حديث: كُلُّ خَيرٍ صَدَقة (2)
 

شفاء المؤمن وداء الكافر والمنافق: والمؤمن يجد في كتاب الله تعالى شفاء له من الأدواء المادية والمعنوية، كلما قراه وتدابره أشرقت روحه وانشرح صدره وسرى سر الحياة في عروقه. وغير المؤمن إذا سمع القرآن ارتعدت فرائصه، وغمت نفسه وظن أن الهلاك نزل به. قال تعالى: ﴿17وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا﴾ [الإسراء: 82]. قال بعض السلف: ما جالس أحد القرآن فقام عنه سالماً – أي باقياً على حاله عندما جلس – بل: إما أن يربح أو أن يخسر، ثم تلا هذه الآية.

في طريق الجنة: يختم صلى الله عليه وسلم توجيهاته الرائعة وعظاته الباهرة ببيان أصناف الناس، إذ الناس جميعاً يصبحون كل يوم ويمسون، ولكنهم ليسوا على حالة واحدة، فهناك من قضى ليله أو نهاره في طاعة الله سبحانه وتعالى ومرضاته، يلتزم الصدق في معاملته مع الله عز وجل ومع الناس، فأنقذ نفسه من الهلاك وخلصها من العذاب، فهو حر النفس، حر الفكر والعقل، حر الإرادة، لم يقبل قيمة لنفسه إلا الجنة الخالدة والنعيم الأبدي المقيم. وهناك من قضى ليله أو نهاره في معصية الله تعالى، ومخالفة أوامره في شؤونه العامة والخاصة مع الله تعالى ومع الخلق، فأهلك نفسه وأوردها المخاطر، وباعها بثمن بخس: شقاء في الدنيا وسجن في جحيم أبدي في العقبى، إذ كان أسير شهوته وهواه، وطوع شيطانه ونفسه: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها». كل إنسان: إما ساع في هلاك نفسه أو في فكاكها، فمن سعى في طاعة الله فقد باع نفسه لله وأعتقها من عذابه، ومن سعى في معصية الله تعالى فقد باع نفسه بالهوان وأوقعها بالآثام الموجبة لغضب الله عز وجل وعقابه.

قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا7/91فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا8/91قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا9/91وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الحشر: 7 – 10]. والمعنى: قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وخاب من زجها في المعاصي. فالطاعة تزكي النفس وتطهرها فترتفع بها، والمعاصي: تدسي النفس وتقمعها فتنخفض وتصير كالذي يدس في التراب. وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الزمر: 15].

شهادة مقبولة منجية: ويستعين المؤمن على عتق نفسه من النار بصقل إيمانه وتمتين يقينه بذكر الله تعالى. قال صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يصبح أو يمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك. أعتق الله ربعه من النار فمن قالها مرتين أعتق الله نصفه من النار، ومن قالها ثلاثاً أعتق ثلاثة أرباعه من النار، ومن قالها أربعاً أعتقه الله من النار». رواه أبو داود. وذلك أن هذه الشهادة تبعث في نفسه خشية الله عز وجل والرغبة في طاعته والرهبة من معصيته، فتكون سبباً في بعده عن النار وقربه من رضوان الله عز وجل. وقال صلى الله عليه وسلم: «من قال إذا أصبح: سبحان الله وبحمده ألف مرة فقد اشترى نفسه من الله وكان من آخر يومه عتيقاً من النار».

لا بيع إلا لله تعالى: إن المؤمن عزيز كريم، رفيع القدر نفيس الثمن، ولذلك يأبى أن يبيع نفسه إلا لله عز وجل، لأنه لا يجد من الخلق من يعطيه الثمن المناسب اللائق به، وكيف وقد تمت الصفقة بين المؤمن وخالقه جل وعلا من الأزل، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾ [التوبة: 111]. ولذلك هم يسعون في مرضاة الله تعالى ويعرضون عن كل ما يسخطه حتى يحصلوا الثمن كاملاً موفراً، لا تغريهم دنيا ولا يخدعهم مال، ولا يثنيهم تهديد، ولا يقعدهم خوف لقاء الموت، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة: 207] ويقول: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 23]. قضى نحبه: مات شهيداً.

8- ومما يرشد إليه الحديث:

1- الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، تزيده العمال الصالحة والطاعات، وتنقصه المعاصي والآثم.

2- أن الأعمال توزن، ولها خفة وثقل، دل على ذلك نصوص الكتاب والسنة، وعليه إجماع الأمة.

قال صلى الله عليه وسلم: «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» رواه البخاري ومسلم. وقال: «أثقل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن».

3- المحافظة على الصلوات بأوقاتها، وأدائها كاملة بأركانها وواجباتها وسننها وآدابها، بعد تحقق شروطها كاملة.

4- الإكثار من الإنفاق في وجوه الخير والمسارعة إلى سد حاجة الفقراء والمعوزين، والبحث عن الأرامل واليتامى والفقراء المتعففين والإنفاق عليهم، لتكون الصدقة خالصة لوجهه تعالى.

5- الصبر على الشدائد، وخاصة على ما ينال المسلم نتيجة الأمر بالمعروف والهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى، قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ [لقمان: 17]. وقال: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35].

6- القرآن دستور المسلم، فعليه الإقبال على تلاوته مع تفهم معناه والعمل بمقتضاه.

7- المسلم يسعى لأن يستفيد من وقته وعمره في طاعة الله عز وجل، ولا يشغل نفسه إلا بمولاه سبحانه، وما يعود عليه بالنفع في معاشه ومعاده.

* * *

* أهم المصادر والمراجع:

- الوافي في شرح الأربعين النووية: د. مصطفى البغا / محي الدين مستو.

- صحيح الإمام مسلم: الإمام مسلم بن الحجاج القشيري.

- الرياض الندية في شرح الأربعين النووية: الإمام ابن دقيق العيد / العثيمين / الإمام النووي.

- الجواهر اللؤلؤية في شرح الأربعين النووية: محمد عبدالله الجرداني.

- شرح الأربعين النووية: الإمام النووي.