الحث على التوكل على الله
 

عنْ عُمْرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه عنْ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنَّكم توكَّلونَ على الله حقَّ توكُّله لَرزوقكمْ كما يرزقَ الطَّير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً». رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حيان والحاكم وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ.

هذا الحديث خرّجه هؤلاء كلهم من رواية عبد الله بن هبيرة سمع أبا حاتم الحساني سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحدثه صلى الله عليه وسلم، قال أبو حاتم الرازي: وهذا الحديث أصل في التوكل وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا2/65وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق:2-3] وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هده الآية على أبي ذر وقال له: «لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم» يعني لو حققوا التقوى والتوكل لاكتفوا بذلك في مصالح دينهم ودنياهم.

قال بعض السلف: فحسبك من التوسل إليه أن يعلم من قلبك حسن توكلك عليه، فكم من عبد من عباده قد فوض إليه أمره وكفاه منه ما أهمه، ثم قرأ: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا2/65وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2- 3].

وحقيقة التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله عزّ وجلّ في استجلاب المنافع ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها، ووكلت الأمور كلها إليه، وفي حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله»واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافى السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه وتعالى المقدورات بها وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب عليه إيمان به، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ﴾ [النساء: 71] ثم إن الأعمال التي يعملها العبد ثلاثة أقسام:

أحدهما: الطاعات التي أمر الله عباده بها وجعلها سبباً للنجاة من النار ودخول الجنة، فهذا لا بد من فعله مع التوكل على الله فيه والاستعانة به عليه، فمن قصر في شيء مما وجب عليه من ذلك استحق العقوبة في الدنيا والآخرة شرعاً وقدراً.

والثاني: ما أجرى الله العادة به في الدنيا وأمر عباده بتعاطيه كالأكل عند الجوع والشرب عند العطش، فهذا أيضاً واجب على المرء تعاطي أسبابه ومن قصر فيه حتى تضرّر بتركه مع القدرة على استعماله فهو مفرط يستحق العقوبة،ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يواصل في صيامه وينهي عن ذلك أصحابه ويقول لهم: «إني لست كهيئتكم إني أُطعم وأسقي» والأظهر أنه أراد بذلك أن الله يقوّيه ويغذيه بما يورده من الفتوح القدسية والمنح الإلهية والمعارف الربانية التي تغنيه عن الطعام والشراب برهة من الدهر، فمن كان له قوّة على مثل هذه الأمور فعمل بمقتضى قوّته ولم يضعفه عن طاعة الله فلا حرج عليه، ومن كلف نفسه ذلك حتى أضعفها عن بعض الواجبات فأنه ينكر عليه ذلك.

القسم الثالث:ما أجرى الله العادة به في الدنيا في الأعمّ والأغلب، وقد يخرق العادة في ذلك لمن شاء من عباده وهو أنواع: منها ما يخرقه كثيراً ويغني عنه كثيراً من خلقه كالأدوية بالنسبة إلى كثير من البلدان وسكان البوادي ونحوها.

وقد اختلف العلماء هل الأفضل لمن أصابه المرض التداوي أم تركه لمن حقق التوكل على الله؟ فيه قولان مشهوران، وظاهر كلام أحمد أن التوكل لمن قوى عليه أفضل لما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، ثم قال: هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون» ومن رجح التداوي قال «إنه حال النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوي عليه وهو لا يفعل إلا الأفضل، وحمل الحديث على الرقي المكروهة التي يخشى منها الشرك بدليل أنه قرنها بالكي والطيرة وكلاهما مكروه.

ومنها: ما يخرقه لقليل من العامة كحصول الرزق لمن ترك السعي في طلبه، فمن رزقه الله صدق يقين وتوكل وعلم من الله أنه يخرق له العوائد ولا يحوجه إلى الأسباب المعتادة في طلب الرزق، وحديث يدلّ على أن الناس إنما يؤتون من قلة تحقيق التوكل ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها، فلذلك يتعبون أنفسهم في الأسباب ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد ولا يأتيهم إلا ما قدر لهم، فلو حققوا التوكل على الله بقلوبهم لساق إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب، وربما حرم الإنسان رزقه أو بعضه بذنب يصيبه كما في حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه»، قال بعض السلف: توكل تُسَقْ إليك الأرزاق بلا تعب ولا تكلف، ومن هذا البابل من قوى توكله على الله ووثقه به فدخل المفاوز بغير زاد فإنه يجوز لمن  هذه صفته دون من لم يبلغ هذه المنزلة وله في ذلك أسوة بإبراهيم الخليل عليه السلام حيث ترك هاجر وابنها إسماعيل بواد غير ذي زرع وترك عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، فلما تبعته هاجر وقالت له: إلى من تدعنا؟ قال لها: إلى الله، قالت: رضيت بالله، وهذا كان يفعله بأمر الله ووحيه، فقد يقذف الله في قلوب بعض أوليائه من الإلهام الحقّ ما يعلمون أنه حقّ ويثقون به، وروى أحمد بن الحسين بن حسان عن أحمد أنه سئل عن رجل يخرج إلى مكة بغير زاد فقال: إن كنت تطيق وإلا فلا تخرج إلا بزاد وراحلة لا تخاطر، وقد روى عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزوّدون ويقولون نحن متوكلون، فيحجون فيأتون مكة فيسألون الناس، فأنزل الله هذه الآية: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: 197] وبكل حال فمن لم يصل إلى هذه المقامات العالية فلا بدّ له من معاناة الأسباب لا سيما من له عيال لا يصبرون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت».

وروى الوضين بن عطاء عن محفوظ بن علقمة عن ابن عابد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن التوكل بعد الكيس» وهذا مرسل، ومعناه أن الإنسان يأخذ بالكيس والسعي في الأسباب المباحة ويتوكل على الله بعد سعيه.

وهذا كله إشارة إلى أن التوكل لا ينافي الإتيان بالأسباب بل قد يكون جمعها أفضل، قال معاوية بن قرة: لقي عمر بن الخطاب ناساً من أهل اليمن فقال من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: بل أنتم المتأكلون، إنما المتوكل الذي يُلقي حبة في الأرض ويتوكل على الله، ومعنى هذا الكلام أن المتوكل على الله حقّ التوكل لا يأتي ويجعله سبباً لحصول الكفاية له من الله بالرزق وغيره، فإنه لو فعل ذلك لكان كمن أتى سائر الأسباب لاستجلاب الرزق والكفاية بها وهذا نوع نقص في تحقيق التوكل، وإنما التوكل حقيقة من يعلم أن الله قد ضمن لعبده برزقه وكفايته فيصدق الله فيما ضمنه ويثق بقلبه ويحقق الاعتماد عليه فيما ضمنه من الرزق من غير أن يخرج التوكل مخرج الأسباب في استجلاب الرزق به.

والرزق مقسوم لكل أحد من برّ وفاجر ومؤمن وكافر، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا﴾ [هود: 6] هذا مع ضعف كثير من الدواب وعجزها عن السعي في طلب الرزق، قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾ [العنكبوت: 60] فما دام العبد حيّا فرزقه على الله، وقد ييسره الله له بكسب وبغير كسب، فمن توكل على الله لطلب الرزق فقد جعل التوكل سبباً وكسباً، ومن توكل عليه لثقته بضمانه فقد توكل عليه ثقة به وتصديقاً بوعده، واعلم أن ثمرة التوكل الرضاء بالقضاء، فمن وكل أموره إلى الله ورضى بما يقضيه له ويختاره فقد حقق التوكل، بلغني عن بعض الحكماء قال: التوكل على ثلاث درجات: أولها: ترك الشكاية، والثانية: الرضا، والثالثة: المحبة بترك الشكاية.

* * *

  • المصدر:

-          جامع العلوم والحكم: ابن رجب الحنبلي.