لا يعاقب الله على المعصية التي وقع فيها الإنسان خطأً أو نسياناً
 

عنِ ابنِ عبَّاس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله تجاوزَ لي عن أُمتي الخطأ والنِّسيانَ وما استكرهوا عليه». (حديثٌ حسنٌ رواه ابن ماجه والبيهقيُّ وغيرهما).

هذا الحديث خرّجه ابن ماجه من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخرّجه ابن حبان في صحيحه والدارقطني، وروى يحيى بن سليم عن ابن جريج قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» خرّجه الجوزجاني، وهذا بالمرسل أشبه، وقد ورد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعاً رواه مسلم بن خالد الزنجي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى تجوّز لأمتي عن ثلاث: الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه».

وفي صحيح مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ قال الله تعالى: قد فعلت، وعن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أنها لما نزلت قال: نعم، وليس واحد منهما مصرّحاً برفعه.

فقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان...» إلى آخره، تقديره: إن الله رفع لي عن أمتي الخطأ أو ترك ذلك عنهم، فإن «تجاوز» لا يتعدى بنفسه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فأما الخطأ والنسيان فقد صرّح القرآن بالتجاوز عنهما. قال الله تعالى: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: 286ٍ وقال تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [الأحزاب: 5]، وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا حكم الحاكم ثم اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد وحكم فأخطأ فله أجر» وقال الحسن: لو لا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين: يعني داود وسليمان، لرأيت أن القضاة قد هلكوا، فإنه أثنى على هذا بعمله وعلى هذا باجتهاده، يعني قوله سبحانه: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ [الأنبياء: 78]، وأما الإكراه فصرّح القرآن أيضاً بالتجاوز عنه، قال تعالى: ﴿مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ [النحل: 106]، ونحن نتكلم إن شاء الله في هذا الحديث في فصلين: أحدهما: في حكم الخطأ والنسيان، والثاني: في حكم الإكراه.

الفصل الأول: في الخطأ والنسيان

الخطأ: هو أن يقصد بفعله شيئاً فيصادف فعله غير ما قصده، مثل أن يقصد قتل كافر فصادف قتله مسلماً، والنسيان: أن يكون ذاكراً لشيء فينساه عند الفعل، وكلاهما معفوّ عنه، يعني أنه لا إثم فيه، ولكن رفع الإثم لا ينافي أن يترتب على نسيانه حكم، كما أن من نسى الوضوء وصلى ظانّا أنه متطهر فلا إثم عليه بذلك، ثم إن تبين له أنه كان قد صلى محدثاً فإن عليه الإعادة، ولو ترك التسمية على الوضوء نسياناً وقلنا بوجوبها فهل يجب عليه إعادة الوضوء؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد،ولو ترك الصلاة نسياناً ثم ذكر فإن عليه القضاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك، ثم تلا: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ ولو أكل في صيامه ناسياً فالأكثرون على أنه لا يبطل صيامه عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه» وقال مالك: عليه الإعادة لأنه بمنزلة من ترك الصلاة ناسياً، والجمهور يقولون: إنه أتى بنية الصيام، وإنما ارتكب بعض محظوراته ناسياً فيعفى عنه.

ولو جامع ناسياً فهل حكمه حكم الآكل نسياناً أم لا؟ فيه قولان:

أحدهما: وهو المشهور عن أحمد أنه يبطل صيامه بذلك وعليه القضاء، وفي الكفارة عنه روايتان. والثاني: لا يبطل صيامه بذلك كالأكل، وهو مذهب الشافعي، وحكى رواية عن أحمد.

وكذا الخلاف في الجماع في الإحرام ناسياً هل يبطل به النسك أم لا؟ ولو حلف لا يفعل شيئاً ففعله ناسياً ليمينه أو مخطئاً ظانّا أنه غير المحلوف عليه فهل يحنث في يمينه أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد:أحدهما: لا يحنث بكل حال، ولو كانت اليمين بالطلاق والعتاق، وأنكر هذه الرواية عن أحمد الخلال وقال: هي سهو من ناقلها، وهو قول الشافعي في أحد قوليه، والثاني: يحنث بكلّ حال، وهو قول جماعة من السلف ومالك، والثالث: يفرّق بين أن يكون يمينه بطلاق أو عتاق أو بغيرهما، وإنما الحديث الذي جاء في العفو عن الخطأ والنسيان ما دام ناسياً وأقام على امراته فلا إثم عليه، فإذا ذكر فعليه اعتزال امراته فإن نسيانه قد زال، وحكى إبراهيم الحربي إجماع التابعين على وقوع طلاق الناسي، ولو قتل مؤمناً خطأ فإن عليه الكفارة والدية بنصّ الكتاب، وأن الناسي والمخطئ إنما عفي عنهما بمعنى رفع الإثم عنهما، لأن الأمر مرتب على المقاصد والنيات والناسي والمخطئ لا قصد لهما، فلا إثم عليهما، وأما رقع الأحكام عنهما فليس مراداً من هذه النصوص فيحتاج في ثبوتها ونفيها إلى دليل آخر.

الفصل الثاني: في حكم المكره

وهو نوعان: أحدهما: من لا اختيار له بالكلية ولا قدرة له على الامتناع، كمن حُمل كرهاً وأُدخل إلى مكان حلف على الامتناع من دخوله، أو حُمل كرهاً وضُرب به غيره حتى مات ذلك الغير ولا قدرة له على الامتناع.

والنوع الثاني: من أُكره بضرب أو غير حتى فعل هذا الفعل يتعلق به التكليف، فإن أمكنه أن لا يفعل فهو مختار للفعل ليس غرضه نفس الفعل بل دفع الضرر عنه، فهو مختار من وجه غير مختار من وجه آخر، ولهذا اختلف الناس هل هو مكلف أم لا؟ واتفق العلماء على أنه لو أكره على قتل معصوم لم يصحّ له أن يقتله، فإنه إنما يقتله باختياره افتداء لنفسه، هذا إجماع من العلماء المعتدّ بهم، وكان في زمن الإمام أحمد يخالف فيه من لا يعتدّ به، فإذا قتله في هذه الحال فالجمهورعلى أنهمت يشتركان في وجوب القود: المُكرِه والمُكرَه لاشتراكهما في القتل، وهو قول مالك والشافعي في المشهور عنه وأحمد، وقيل: يجب على المُكرِه وحده، لأن المُكرَه صار كالآلة، وهو قول أبي حنفية وأحد قولي الشافعي، وأولى لو أكره بالضرب ونحوه على إتلاف مال الغير والمعصوم فهل يباح له ذلك؟ فيه وجهان لأصحابنا، فإن قلنا: يباح له ذلك فضمنه المالك على المباشر المكرَه وحده، وهو ضعيف، ولو أُكره على شرب الخمر أو غيره من الأفعال المحرّمة ففي إباحته قولان: أحدهما: يباح له ذلك استدلالا بقوله تعالى: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور: 33]،وهذه نزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سلول كانت له أمتان، وكان يكرههما على الزنا وهما يأبيان ذلك وهذا قول الجمهور كالشافعي وأبي حنفية وهو المشهور عن أحمد.

والقول الثاني: إن التقاة تكون في الأموال، ولا تقاة في الأفعال ولا إكراه عليها وروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وأبي العالية.

وأما الإكراه على الأقوال، فاتفق العلماء على صحته، وأن من أكره على قول محرّم إكراها معتبراً أن له أن يفتدى نفسه به ولا إثم عليه وقد دل قول الله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ [النحل: 106]

وفرّق أبو حنيفة بين ما يقبل الفسخ عنده ويثبت فيه الخيار كالبيع ونحوه فقال: لا يلزم مع الإكراه وما ليس كذلك كالنكاح والطلاق والعتاق والإيمان فألزم بها مع الإكراه، ولو حلف لا يفعل شيئاً مكرها، فعلى قول أبي حنفية يحنث، وعلى قول الجمهور فيه قولان:

أحدهما:لا يحنث كما لا يحنث إذا فعل كرهاً ولم يقدر على الامتناع، كما سبق، وهذا قول الأكثرين منهم.

والثاني: يحنث ههنا، لأنه فعله باختياره بخلاف ما إذا حمل ولم يمكنه الامتناع، وهو رواية عن أحمد وقول الشافعي، ولو أكره على أداء ماله بغير حقّ فباع عقاره ليؤدي ثمنه فهل يصحّ الشراء منه أم لا؟ فيه روايتان عن أحمد، وعنه رواية ثالثة: إن باعه بثمن المثل اشتُرى منه، ومتى رضى المكره بما أكره عليه لحدوث رغبة له فيه بعد الإكراه، والإكراه قائم صحّ ما صدر منه من العقود وغيرها بهذا القصد، هذا هو المشهور عند أصحابنا، وفيه وجه أنه لا يصحّ، وفيه بُعد، وأما الإكراه بحقّ فهو غير مانع من لزوم ما أكره عليه، فلو أكُره الحربي على الإسلام فأسلم صحّ إسلامه.

* * *

  • المصدر:

-          جامع العلوم والحكم: ابن رجب الحنبلي.