الشبهة: كيف يكون الصحابة حجة في العقيدة، وقد اختلفوا في أصول الدين(1)
 

وأنا أذكر هذه الشبهة على سبيل الاستشكال درءاً للشبهة وإمعاناً في تقرير مسألة اجتماع الصحابة على أصول الدين وعدم اختلافهم كما تقدم بيانه. ومورد الإشكال أن يقال: لقد ثبت أن الصحابة رضوان الله عليهم قد اختلفوا في مسائل هي من المسائل العقدية المتعلقة ببعض الغيبيات، فكيف يكون الصحابة حجة في العقيدة مع هذا الاختلاف؟ وأذكر لهذا الاختلاف مثالين هما:

1.       إثبات عذاب الميت في قبره ببكاء أهله استدركته عائشة رضي الله عنها على عمر ابن الخطاب وأنكرته.([1])

2.    مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا حيث أنكرتها عائشة رضي الله عنه في حين أثبتها غيرها من الصحابة كابن عباس رضي الله عنهما وغيره، وهذا من الغيبيات المتعلقة بالعقيدة.

* جواب الشبهة الثالثة:

إن هذا الإشكال لا يعين على ما يريده منكرو حجية الصحابة في مسائل الدين والعقيدة البتة، بل إن التأمل في جزئيات الأمثلة التي ذكرتها يؤكد على اتفاق الصحابة رضوان الله عليهم على منهج تقرير مسائل العقيدة والغيبيات، ويؤكد على اتفاقهم في مسائل العقيدة خلا أمور قليلة نُقل عنهم الخلاف فيها غير أنه عند التحقيق لا نجده خلافاً قادحاً فيما نحن فيه وبيان ذلك وتوضيحه من وجهين:

§    أولاً: الجواب العام عن هذا الإشكال:

إن التحقيق في أقوال الصحابة في أصول الدين أنهم لم يختلفوا فيها، حكى هذا ونقله غير واحد من المحققين أذكر منهم:

·   الإمام البيهقي رحمه الله حيث قال: (وإنما اجتماع أصحابه([2]) على مسائل الأصول، فإنه لم يُروَ عن واحدٍ منهم خلاف ما أشرنا إليه في هذا الكتاب).([3])

·   والحافظ ابن قيم الجوزية رحمه الله: (وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيماناً، ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة من أولهم إلى آخرهم).([4])

·   وقال أبو عبد الله بن خفيف الشيرازي رحمه الله كلاماً نفيساً فيه: (فاتفقت أقوال المهاجرين والأنصار في توحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته وقضائه وقدره قولاً واحداً وشرطاً ظاهراً، وهم الذين نقلوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك حين قال «عليكم بسنتي»، فكانت كلمة الصحابة كلهم على الاتفاق من غير اختلاف. وهم الذين أُمرنا بالأخذ عنهم إذ لم يختلفوا بحمد الله في أحكام التوحيد وأصول الدين من الأسماء والصفات كما اختلفوا في الفروع، ولو كان منهم في ذلك اختلاف لنُقل إلينا كما نقل سائر الاختلاف).([5])

ومما يؤكد هذا المعنى ويدل عليه أن الصحابة رضوان الله عليهم مع انتشارهم وتفرقهم في الأمصار لا تجد تفاوتاً لدى من اتبعهم بإحسان في شتى الأمصار والبلدان في مسائل العقيدة وأصول الدين مع أنك تجد الخلاف في مسائل الفروع، وهذا إنما يدل على أنهم رضوان الله عليهم صدروا عن معين واحد وأضاؤوا الدنيا بمشكاة واحدة.

وقد روى الإمام اللالكائي من اعتقاد الإمام البخاري رحمه الله تعالى ما يؤكد على هذا المعنى أعني تطابق العقيدة الصحيحة رغم تفرق العلماء من السلف في الأمصار والبلدان، وما ذلك إلا نتيجة اتفاق الصحابة رضوان الله عليهم الذين تفرقوا في الأمصار على هذه العقيدة إذ لا سبيل لذلك إلا هذا، حيث قال الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى:

(لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر لقيتهم كَرَّات قرناً بعد قرن ثم قرناً بعد قرن[6])، أدركتهم وهم متوافرون منذ أكثر من ست وأربعين سنة؛ أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين، والبصرة أربع مرات في سنين ذوي عدد، بالحجاز ستة أعوام ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع محدثي أهل خراسان منهم:[7]) (ثم ذكر من أسماء شيوخه)فما رأيت واحداً منهم يختلف في هذه الأشياء: أن الدين قول وعمل وذلك لقول الله: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5]، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق لقوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَىٰ الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ
﴾ [الأعراف: 54]، قال أبو عبد الله محمد بن إسماعيل: قال ابن عيينة: فبين الله الخلقَ من الأمرِ لقوله: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
﴾([8])، وأن الخير والشر بقدر لقوله: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ [الفلق: 1-2]، ولقوله: ﴿وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 96]، ولقوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49]، ولم يكونوا يُكفِّرون أحداً من أهل القبلة بالذنب لقوله: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء﴾ [النساء: 48]، وما رأيت فيهم أحداً يتناول أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: أُمروا أن يستغفروا لهم وذلك قوله: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّا ً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10]، وكانوا ينهون عن البدع ما لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لقوله: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُواْ﴾ [آل عمران: 103]، ولقوله: ﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور: 54]، ويحثون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه لقوله: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153]، وأن لا ننازع الأمر أهله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب امرىء مسلم: إخلاص العلم لله، وطاعة ولاة الأمر، ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم تحيط من ورائهم»([9])، ثم أكد في قوله: ﴿أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: 59]، وأن لا يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الفضيل: لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام لأنه إذا صلح الإمام أمن البلاد والعباد، قال ابن المبارك: يا معلم الخير من يجترئ على هذا غيرك).([10])

انتهى كلامه رحمه الله، ولقد أثبتُّ هذه العقيدة كاملةً كما رواها اللالكائي رحمه الله لفائدتها. والشاهد منها هنا إشارة الإمام البخاري إلى أكثر من الألف من العلماء من كل الأقطار والأمصار وهم كلهم مجمعون على هذه العقيدة التي توارثوها عن الصحابة، فكيف يتسنى هذا لو يكن الصحابة أنفسهم متفقين على هذه العقيدة، مجمعين على هذه الأصول العظيمة !!

* ثانياً: الجواب التفصيلي عن الشبهة:

عند التدبر في بعض الأمور التي نُقل فيها كلامٌ ظاهره الخلاف في الغيبيات والعقائد، كمسألة إنكار عائشة رضي الله عنها تعذيب الميت ببكاء أهله مع إثبات عمر لها، وإنكارها رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل مع إثبات الصحابة كابن عباس وابن مسعود رضي الله عن الجميع لها، فهذه الروايات من جهة النقل والسند صحيحة ثابتة لا مجال للخوض فيها من هذا الوجه، ويبقى أن نتأمل في مدلول هذا التعارض بين قول عائشة رضي الله عنها وقول من استدركت عليه من الصحابة، فهذا بيانه وبالله التوفيق.

إن كون هاتين المسألتين من مسائل الاعتقاد الغيبية لا خلاف فيه، وكون الرواية عن الصحابة في هاتين المسألتين متعارضاً لا خلاف فيه أيضاً، أما كون هاتين المقدمتين تؤديان إلى أن الصحابة كانوا مختلفين في العقيدة وفي أصول الدين فلا يَسْلَم، لأن حقيقة الأمر أن الصحابة كانوا متفقين على عدم الخوض في مسائل العقيدة والدين إلا بنصٍ من الوحيين –أعني الكتاب والسنة– ولم يكونوا يتكلمون برأيهم فيما لا توقيف فيه من الله تعالى ولا مجال للرأي فيه. وعائشة رضي الله تعالى عنها وهي الفقيهة المحدثة كانت حبيسة بيتها، لا تطلع بطبيعة الحال على كل أحوال الوحي وتنزلاته، بل تختص هي بأحوال لا يشاركها فيها غيرها من الصحابة خلا أمهات المؤمنين، ويختص غيرها من الصحابة بأحوال لا تراها كسفره صلى الله عليه وسلم وحِلِّه وتِرحاله، وحاله بين الرجال وفي الحروب ومع الوفود، وما إلى ذلك، فعندما تُسأل أم المؤمنين عن مسألة غيبية فإنما تتكلم فيها بما وصل إلى علمها من الوحي. فهي عندما تستدرك على غيرها من جهة الرواية فإما لظنها أنه لو ورد فيها شيء من الوحي لوصل إليها وهي التي كان ينزل الوحي في بيتها، أو لتشديدها على الناس ألا يتقولوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ترهيباً وإعظاماً من أن يقول الناس في الدين برأيهم([11])، وهي عندما تستدرك على غيرها من جهة الدراية فمن باب وقوفها عند ظاهر نص من القرآن أو السنة مع عدم اطلاعها على النص الآخر الذي يُحكم المسألة، وهي في ذلك مأجورة على توقفها رضي الله عنها وأرضاها وانتهائها إلى ما علمت، ثم إذا جاء النص الصحيح عن غيرها بأمرٍ لم تعلمه لم نتركه لذلك، بل عملننا بكل النصوص لأنه الواجب علينا. فأما مثال استدراكها من جهة الدراية فما تقدم في سياق عرض الشبهة من مسألة إنكار تعذيب الميت ببكاء أهله، وأما مثال ما استدركته من جهة الرواية فإنكارها رضي الله عنها رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة أسري به، وسأتناول هذين المثالين بشيء من التفصيل كأنموذجين يدلان – عند التحقيق – على انتفاء ما قد يرِد بهما من شبهةٍ حول اتفاق الصحابة في العقيدة ومسائل أصول الدين، رب يسر وأعن:

o   أولاً: اختلاف الصحابة في تعذيب الميت ببكاء أهله.

روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة قال: توفيت ابنة لعثمان رضي الله عنه بمكة، وجئنا لنشهدها، وحضرها ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وإني لجالسٌ بينهما -أو قال جلست إلى أحدهما ثم جاء الآخر فجلس إلى جنبي- فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لعمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه»، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: قد كان عمر رضي الله عنه يقول بعض ذلك، ثم حدث فقال: صدرت مع عمر رضي الله عنه من مكة، حتى إذا كنا بالبيداء إذا هو بركب تحت ظل سمرة، فقال: اذهب فانظر من هؤلاء الركب. قال: فنظرت فإذا صهيب، فأخبرته، فقال: ادعه لي. فرجعت إلى صهيب فقلت: ارتحل فالحق أمير المؤمنين. فلما أصيب عمر دخل صهيب يبكي يقول: واأخاه واصاحباه، فقال عمر رضي الله عنه: يا صهيب أتبكي علي وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه»، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فلما مات عمر رضي الله عنه ذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها فقالت: «رحم الله عمر، والله ما حدث رسول اللهصلى الله عليه وسلم إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال: «إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه»، وقالت حسبكم القرآن: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾ [الأنعام: 164].

قال ابن عباس رضي الله عنهما عند ذلك: والله هو أضحك وأبكى، قال ابن أبي مليكة: «والله ما قال ابن عمر رضي الله عنهما شيئاً».([12])

فحاصل الخلاف في هذه المسألة الغيبية - التي تتعلق بأمر من أمور البرزخ التي لا تُعرف إلا من جهة الوحي - رواية عمر رضي الله عنه التي يثبت فيها أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، ورواية عائشة التي تنكر تعذيب الميت المؤمن ببكاء أهله عليه.

فهذا الخلاف ثابت من جهة الرواية فهو في أصح الكتب المصنفة، وهو ثابت في مسألة عقدية لأن مسائل القبر من الغيبيات التي يتوقف فيها على خبر الشرع.

* ولقد نقل المحققون أقوال أهل العلم في الجمع بين هاتين الروايتين:

أولها: طريقة الإمام البخاري حيث قيد الحديث في ترجمة الباب بقوله: (إذا كان النوح من سنته).

ثانيها: أنه يُعذب إذا أوصى الميت أهله بذلك.

ثالثها: أنه لمن أهمل نهي أهله عن ذلك، أي إذا ظن أنه يقع منهم.

رابعها: أن الميت يُعذب بنظير ما يبكيه أهله به إذا كانت هذه الأفعال من الأمور المنهية، كأن يبكوا عليه رياسته التي جار فيها وشجاعته التي صرفها في غير الحق وغيرها من المفاخر التي صرفها في غير وجهها، وكان هذا الفعل –أي: بكاء أهل الميت عليه بأفعاله الجائرة التي فعلها فيحياته– من أفعال الجاهلية.

خامسها: أن معنى التعذيب توبيخ الملائكة له بما يندبه أهله به، فإذا قالت النائحة: واعضداه واناصراه واكاسياه، قالت الملائكة أنت عضدها، أنت ناصرها، أنت كاسيها، على سبيل التوبيخ.

سادسها: أن معنى التعذيب تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة.

فهذه ستة أقوال وهناك قول سابع ذكره الحافظ ابن حجر وهو أن يجمع بين هذه التوجيهات وتنزل على اختلاف الأحوال والأشخاص([13]). ومع قوة القول الأول والثاني، فإن الراجح هو القول السادس حيث رجحه جماعة من المتقدمين كأبي جعفر الطبري والمتأخرين كابن تيمية وابن قيم الجوزية رحمة الله على الجميع([14])، قال الشوكاني رحمه الله: (واستدلوا لذلك بما أخرجه ابن أبي خيثمة وابن أبي شيبة والطبراني وغيرهم من حديث قيلة- بفتح القاف وسكون الياء التحتية- وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فوالذي نفس محمد بيده، إن أحدكم ليبكي فيستعبِر إليه صويحبه، فيا عباد الله لا تعذبوا موتاكم»([15])، قال الحافظ: وهو حسن الإسناد).([16])

والشاهد من هذا كله أن الجمع بين الروايتين من جهة الدراية ممكن دون كثير تكلف، ثم إذا عدنا إلى مسألة استدراك عائشة رضي الله عنها على عمر فهو يعبر عن التزام منهجي دقيق في باب العقيدة وهو الوقوف عند ما وصل إلى علم الصحابي وعرض ما يسمعه من غيره على الأصول الثابتة في الكتاب والسنة، فهي لم تنكر مطلق الرواية وإنما قيدت مطلقها – وهو شموله للكافر والمسلم كما كان يخشى عمر كما يدل عليه ظاهر فعله وعمله بالحديث – بالتقييد الذي سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أعني تقييد مورد الحديث بالميت الكافر([17])، فعمر رضي الله عنه عمل بمطلق الحديث احتياطاً وورعاً، وعائشة رضي الله عنها قيدت مطلقه بما وصل إلى علمها من سنة مقيدة، وهذا هو غاية المنهجية في العلم، وانظر إلى كلام ابن أبي مليكة أن ابن عمر لم يقل شيئاً لما سمع كلام عائشة وكأنه قبل احتمال تأويل الحديث الذي سمعه من أبيه رضي الله عنهما على النحو الذي حكته عائشة رضي الله عنها، أو أنه ترك المجادلة في ذلك المقام كما حكاه الحافظ ابن حجر، فليس الأمر باختلاف منهجي في تقرير مسألة غيبية وإنما هو تحقق وتثبت علمي دقيق التزم به كبار الصحابة وفقهاؤهم رضي الله عنهم أجمعين، وعمل بكل النصوص عند علم الصحابي بها أو بأحوط الأوجه عند اقتصار علمه على بعضها دون البعض الآخر، وبهذا يتبين أن لا حجة في مثل هذا الحديث للطعن في اتفاق الصحابة في العقيدة والأصول، ولله الحمد والمنة.

[1] ) الإجابة لما استدركت عائشة على الصحابة – الزركشي – 1/76.

[2] ) أي: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[3] ) يشير رحمه الله إلى مسائل الاعتقاد التي ذكرها في كتابه: [الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد].

[4] ) إعلام الموقعين –1/52.

[5] ) اجتماع الجيوش الإسلامية – ابن قيم الجوزية – 1/176.

[6] ) المقصود بالقرن هنا الطبقة من العلماء والمحدثين المتقاربين في السن والإسناد ، قال ابن جماعة: (الأقران: هم المتقاربون في السنن والإسناد وربما اكتفى الحاكم فيه بالإسناد). (المنهل الروي – 1/73).

[7] ) وذكر شيوخه: (المكي بن إبراهيم ويحيى بن يحيى وعلي بن الحسن بن شقيق وقتيبة بن سعيد وشهاب بن معمر، وبالشام محمد بن يوسف الفريابي وأبا مسهر عبد الأعلى بن مسهر = = وأبا المغيرة عبد القدوس بن الحجاج وأبا اليمان الحكم بن نافع ومن بعدهم عدة كثيرة، وبمصر يحيى بن كثير وأبا صالح كاتب الليث بن سعد وسعيد بن أبي مريم وأصبغ بن الفرح ونعيم بن حماد، وبمكة عبد الله بن يزيد المقري والحميدي وسليمان بن حرب قاضي مكة وأحمد بن محمد الأزرقي، وبالمدينة إسماعيل بن أبي أويس ومطرف بن عبد الله وعبد الله بن نافع الزبيري وأحمد بن أبي بكر أبا مصعب الزهري وإبراهيم بن حمزه الزبيري وإبراهيم بن المنذر الحزامي، وبالبصرة أبا عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني وأبا الوليد هشام بن عبد الملك والحجاج بن المنهال وعلي بن عبد الله بن جعفر المديني، وبالكوفة أبا نعيم الفضل بن دكين وعبيد الله بن موسى وأحمد بن يونس وقبيصة بن عقبة وابن نمير وعبد الله وعثمان ابنا أبي شيبة، وببغداد أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبا معمر وأبا خيثمة وأبا عبيد القاسم بن سلام، ومن أهل الجزيرة عمرو بن خالد الحراني، وبواسط عمرو بن عون وعاصم بن علي بن عاصم، وبمرو صدقة بن الفضل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي، واكتفينا بتسمية هؤلاء كي يكون مختصراً وأن لا يطول ذلك). [شرح أصول الاعتقاد – 1/193-197].

[8] ) هذه تتمة الآية السابقة.

[9] ) جزء من حديث: «نضر الله امرأ سمع منا..» أخرجه ابن حبان في صحيحه (2/455 – حديث: 680)، والحاكم في المستدرك برقم 294 (1/162- حديث: 294)، والترمذي في جامعه – أبواب العلم – باب في الحث على تبليغ السماع– حديث: (2658) ، وابن ماجة في سننه – كتاب السنة – باب من بلَّغ علماً- حديث: (230).

[10] ) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة – اللالكائي – 1/193-197.

[11] ) وليس معنى هذا أنها كانت تتهم الصحابة رضوان الله عليهم فيما يروونه ويقولونه حاشاها وحاشاهم، وإنما المقصود أن الصحابة كانوا يتشددون في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته حتى يهاب الناس الحديث وحتى يستوثق المحدث فيما يحدث به، وقد كانوا يختبرون بعضهم البعض للتوثق لا للشك، وسيأتي بيان هذه المسألة في مبحث منهج الصحابة في رواية السنة.

[12] ) صحيح البخاري – كتاب الجنائز – باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه» – حديث: (1286،1287،1288).

[13] ) فتح الباري – ابن حجر – 3/500-501، وقد نقلت هذه الأقوال التي حكاها مختصرة، والمقصود من بيان هذا دفع توهم التناقض في نصوص الشريعة، وسيأتي الكلام على تقييدعائشة رضي الله عنها للحديث بالميت الكافر.

[14] ) فتح الباري – ابن حجر – 3/501، وانظر: الروح لابن قيم الجوزية 1/80.

[15] ) المعجم الكبير – الطبراني – 25/10، وأخرجه الهيثمي وقال: (رجاله ثقات). [مجمع الزوائد – 6/12].

[16] ) نيل الأوطار – الشوكاني – 4/158.

[17] ) وعلى قولها هذا يكون معنى التعذيب في الحديث هو عذاب القبر حقيقةً، والله أعلم.