الشبهة: أن الصحابة لم يكونوا قبل البعثة أهل علم ونظر ودراية فكيف يؤخذ بالحديث عن أمثال هؤلاء
 

حكى الحافظ ابن قيم الجوزية رحمه الله عن بعض أصحاب الشبهات من اليهود والنصارى هذه الشبهة ومفادها أن أكثر الصحابة الذين أُخذ عنهم الحديث وبنيت على أقوالهم في الحلال والحرام والأمر والنهي أكثر الشريعة أنهم عوامٌ من الصحابة الذين ليس لهم بحث في علم ولا دراسة ولا كتابة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يدعو إلى التحفظ في الأخذ عنهم. ([1])

* جواب الشبهة:

إن الأدلة على حجية الصحابة في السنة دراية لا تقوم في مواجهتها أمثال هذه الادعاءات الباهتة، فحال الصحابة قبل البعثة النبوية شيء، وحالهم بعد أن بعث الله تعالى فيهم رسولاً يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم شيء آخر، ولقد أجاد الحافظ ابن قيم الجوزية في نقض هذه الشبهة، وأنقله بطوله لنفاسته حيث قال رحمه الله:

(إن قولكم إن المسلمين بنوا أساس دينهم على رواية عوام من الصحابة من أعظم البهت وأفحش الكذب، فإنهم وإن كانوا أميين فمذ بعث الله فيهم رسوله – صلى الله عليه وسلم - زكاهم وعلَّمهم الكتاب والحكمة وفضلهم في العلم والعمل والهدى والمعارف الإلهية والعلوم النافعة المكملة للنفوس على جميع الأمم، فلم تبق أمة من الأمم تدانيهم في فضلهم وعلومهم وأعمالهم ومعارفهم، فلو قيس ما عند جميع الأمم من معرفة وعلم وهدى وبصيرة إلى ما عندهم لم يظهر له نسبة إليه بوجه ما، وإن كان غيرهم من الأمم أعلم بالحساب والهندسة والكم المتصل والكم المنفصل والنبض والقارورة والبول والقسطة ووزن الأنهار ونقوش الحيطان ووضع الآلات العجيبة وصناعة الكيمياء وعلم الفلاحة وعلم الهيئة وتسيير الكواكب وعلم الموسيقا والألحان، وغير ذلك من العلوم التي هي بين علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة، وبين علم في العاجلة وليس من زاد المعاد، فإن أردتم أن الصحابة كانوا عواماً في هذه العلوم فنعم إذاً وتلك شكاة ظاهر عنك عارها، وإن أردتم أنهم كانوا عواماً في العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه ودينه وشرعه وتفاصيله واليوم الآخر وتفاصيله وتفاصيل ما بعد الموت وعلم سعادة النفوس وشقاوتها وعلم صلاح القلوب وأمراضها فليس بمستغرب ممَن بهت نبيَّهم بما بهته به وجحد نبوته ورسالته التي هي للبصائر أظهر من الشمس للأبصار  أن يبهت أصحابه ويجحد فضلهم ومعرفتهم، وينكر ما خصهم الله به وميزهم على من قبلهم، ومن هو كائن بعدهم إلى يوم القيامة. وكيف يكونون عواماً في ذلك وهم أذكى الناس فطرة وأزكاهم نفوساً، وهم يتلقونه غضاً طرياً ومحضاً لم يشب عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وهم أحرص الناس وأشوقهم إليه، وخبر السماء يأتيهم على لسانه في ساعات الليل والنهار والحضر والسفر، وكتابهم قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين وعلم ما كان من المبدأ والمعاد وتخليق العالم، وأحوال الأمم الماضية والأنبياء وسيرهم وأحوالهم مع أممهم ودرجاتهم ومنازلهم عند الله وعددهم وعدد المرسلين منهم، وذكر كتبهم وأنواع العقوبات التي عذب الله بها أعداءهم وما أكرم به أتباعهم، وذكر الملائكة وأصنافهم وأنواعهم وما وكلوا به واستعملوا فيه، وذكر اليوم الآخر وتفاصيل أحواله وذكر الجنة وتفاصيل نعيمها والنار وتفاصيل عذابها، وذكر البرزخ وتفاصيل أحوال الخلق فيه، وذكر أشراط الساعة والإخبار بها مفصلاً بما لم يتضمنه كتاب غيره من حين قامت الدنيا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وكيف يدعى في أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم أنهم عوام وهذه العلوم النافعة المبثوثة في الأمة على كثرتها واتساعها وتفنن ضروبها إنما هي عنهم مأخوذة، ومن كلامهم وفتاويهم مستنبطة.

وقد قال مجاهد: العلماء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة في قوله تعالى: ﴿وَيَرَىٰ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ﴾ [سبأ: 6] قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مسروق: جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكانوا كالإخاذ([2])؛ الإخاذ يروي الراكب والإخاذ يروي الراكبَين والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، وإن عبد الله من تلك الإخاذ. وقال مجاهد: كان ابن عباس إذا فسر الشيء عليه النور، وقال ابن سيرين: كانوا يرون أن الرجل الواحد يعلم من العلم ما لا يعلمه الناس أجمعون، قال ابن عون: فكأنه رآني أنكرت ذلك، قال: فقال: أليس أبو بكر كان يعلم ما لا يعلم الناس، ثم كان عمر يعلم ما لا يعلم الناس. وقال عبد الله بن مسعود: لو وُضع علم أحياء العرب في كفة وعلم عمر في كفة لرجح بهم علم عمر، قال الأعمش: فذكروا ذلك لإبراهيم فقال: عبد الله؛ إن كنا لنحسبه قد ذهب بتسعة أعشار العلم).([3])

وأحسبني أكتفي بهذا الكلام وأُحيل على ما تقدم من أدلة تفصيلية على حجية الصحابة رضوان الله عليهم في فهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرايتهم بسنته، والله أعلم.

 

  • المصدر:

كتاب حجية الصحابة في أصول الدين: د. وسيم فتح الله



([1] ) هداية الحيارى في أجوية اليهود والنصارى- ابن قيم الجوزية –1/ 157.

([2] ) الإخاذ: الغدير. (لسان العرب - 3/347).

([3] ) هداية الحيارى – ابن قيم الجوزية – 1/120-126 باختصار وتصرف يسير.