في عظيم حلمه وعفوه صلى الله عليه وسلم
 

قال الله تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.

وقال سبحانه: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾.

كان صلى الله عيه وسلم عظيم الحلْم، لا يقابل السيئة بالسيئة، بل يعفو ويغفر، وما انتقم لنفسه من شيءٍ قط إلَّا أن تُنتهك حرمة الله، فينتقم لله تعالى.

روى الشيخان وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلَّا أخذ أيسرَهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعدَ الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تُنتهك حرمةُ الله، فينتقم لله». ولقد اتسع حلمه صلى الله عليه وسلم لجميع خلق الله تعالى، حتى لأعدائه الذين آذوه.

فلما كانت غزوة أحد وكسرت رباعيَّتُه صلى الله عليه وسلم، وجُرح في شفته السفلى، وشُجَّ في جبهته الشريفة حتى سال منه الدم، فجعل ينشِّفه لئلا ينزل على الأرض ويقول صلى الله عليه وسلم: «لو وقع منه شيءٌ على الأرض لنزلَ عليهم العذاب من السماء».

ولقد شقَّ ذلك على الصحابة فقالوا: لو دعوتَ عليهم.

فقال: «إنما لم أُبعث لعَّاناً، ولكنْ بُعثتُ داعياً ورحمة- اللهم اغفر لقومي- وفي رواية: اللهمَّ اهد قومي- فغنهم لا يعلمون».

ومن مظاهر حلمه وعظيم عفوه صلى الله عليه وسلم: قصة زيد بن سَعنة أحد أحبار اليهود، الذين أسلموا لرؤية تلك الآيات المحمدية، والعلامات النبوية الجليَّة.

فقد ورد عن زيد بن سَعنة أنه قال: لم يبقَ من علامات النبوة إلَّا وقد عرفته في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه، إلَّا اثنتين لم أخبرهما فيه: يسبقُ حلمُه جهلَه، ولا تزيده شدَّةُ الجهل عليه إلَّا حلماً.

قال زيد بن سَعنة: فكنتُ أتلطَّفُ له- أي: لمحمد صلى الله عليه وسلم- لأن أُخالطه، فاعرفَ حلمَه وجهله، فابتعتُ- أي: اشتريت- منه تمراً إلى أجل فأعطيته الثمن- وفي رواية أبي نعيم: فأعطاه قبل إسلامه ثمانين مثقالاً ذهباً على تمر معلوم إلى أجل معلوم.

فلما كان قبل مجيء الأجل بيومين أو ثلاثة، أتيتُ محمداً صلى الله عليه وسلم فأخذتُ بمجامع قميصه، ورداؤه على عنقه، ونظرتُ إليه بوجهٍ غليظٍ ثم قلتُ: ألا تقضينَّ يا محمَّد حقي؟ فوالله إنكم يا بني عبد المطلب مطل .

فقال عمر : أي عدوَّ الله تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع ؟ فوالله لولا ما أُحاذرُ فوته لضربت بسيفي رأسك !

قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر بسكونٍ وتُؤَدةٍ وتبسُّم .

ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «أنا وهو_ أي: أنا وزيد _ كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر: أن تأمرني بحسن الأداء ، و تأمره بحسن التِّباعة» أي : المطالبة.

ثم قال صلى الله عليه وسلم : «اذهب يا عمر فاقْضه حقَّه وزِدْه عشرين صاعاً مكان ما رعته» أي: مقابل فزعه، ففعل ذلك عمر .

قال زيد: فقلت: يا عمر كلُّ علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه،إلَّا اثنتين لم أخبرهما : يسبق حلمه جهلَه ، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، فقد اختبرته بهما، فاشهد يا عمر أني قد رضيت بالله رباً؛ وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً .

وفي رواية: قال زيد: وما حملني على ما رأيتني صنعتُ يا عمر إلَّا أني كنتُ صفاته التي في التوراة كلَّها إلَّا الحلم، فاختبرتٌ حلمَه اليوم، فوجدته على وصف التوراة، وإني أُشهدك أن هذا التمرَ وشطرَ مالي إلى الفقراء المسلمين، وأسلم زيد وأهل بيته كلهم إلَّا شيخاً كبيراً غلبتْ عليه الشِّقْوة.

ومن الوقائع التي يتجلَّى فيها عفوُه صلى الله عليه وسلم وحلمه: تحمُّل أذى المؤذين، وغلظةُ المغلظين، ومقابلة ذلك بالسماحة والصفح.

روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ثم قال: فقمنا حين قام، فنظرنا إلى أعرابي قد أدركه فجذبه- وفي رواية: فجبذه- بردائه جَبْذَةً شديدة، فحمَّرَ رقبته صلى الله عليه وسلم- أي: صار فيها حمرة من أثر الجذبة- وكان رداءً خَشِناً، فالتفتَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأعرابي: احملني على بعيريّ َهذين- أي: حمِّلْهما طعاماً- من مال الله الذي عندك، فإنك لا تحملني من مالك ولا من مال أبيك!

فقال له صلى الله عليه وسلم: «لا، وأستغفر الله» أي: لا أحملك من مالي ولا مال أبي.

وفي رواية البيهقي: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: «المالُ مال الله، وأنا عبده، لا، وأستغفر الله، لا أحملك حتى تُقيدني من جَبْذَتِك التي جبذتني».

فقال له الأعرابي: والله لا أُقيدُكَها.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لِمَ؟».

فقال له الأعرابي: لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة.

فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً- وهو عمر كما في رواية- فقال له: «احمل له على بعيريه هذين: على بعير تمراً، وعلى الآخر شعيراً».

فكان صلى الله عليه وسلم إذا أُوذي في نفسه عفا وصفح، ولكن إذا انتهكت حرمةُ جانب من جوانب دين الله تعالى انتقم لله تعالى:

فلما شج وجهه الشريف يوم أحد عفا وقال: «اللهمَّ اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون».

ولما شغلوه عن الصلاة يوم الخندق لم يَعْفُ بل قال صلى الله عليه وسلم: «ملَأ الله بيوتَهم وقبورهم ناراً، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس..» الحديث كما في (الصحيحين).

 

  • أهم المصادر والمراجع:

-          سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام (شمائله المحمدية وخصاله المجيدة): الشيخ عبدالله سراج الدين.

-          الشمائل المحمدية: د. مصطفى البغا.