الحديث الثلاثون:حُدودُ اللهِ تعالى وحُرُماته
 

عن أبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنيِّ جُرْثُومِ بن ناشِرٍ رضي اللهُ عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللهَ تعالى فَرضَ فَرائضَ فلا تُضَيِّعُوها، وحدَّ حُدوداً فلا تَعتدُوها، وحَرَّمَ أشياءَ فلا تنتهكُوها، وسكتَ عنْ أشياءَ- رحمةً لكمْ غيرَ نسيانٍ- فلا تَبْحَثُوا عنها» حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.

 

* أهمية الحديث:

هذا الحديث من جوامع الكلم التي اختص الله تعالى بها نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فهو وجيز بليغ بل قال بعضهم: ليس في الأحاديث حديث واحد أجمع بانفراده لأصول الدين وفروعه منه، ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسَّم أحكام الله إلى أربعة أقسام: فرائض، ومحارم وحدود ومسكوت عنه. قال ابن السمعاني: من عمل به فقد حاز الثواب وأمن العقاب؛ لأن من أدى الفرائض، واجتنب المحارم، ووقف عند الحدود، وترك البحث عما غاب عنه، فقد استوفى أقسام الفضل، وأوفى حقوق الدين؛ لأن الشرائع لا تخرج عن هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث.

 

* لغة الحديث:

«فرض الفرائض»: أوجبها وحتم العمل بها.

«فلا تضيعوها»: فلا تتركوها أو تتهاونوا فيها حتى يخرج وقتها، بل قوموا بها كما فرضها الله عليكم.

«وحد حدوداً»: الحدود جمع حد، وهو لغة: الحاجز بين الشيئين، وشرعاً:  عقوبة مقدرة من الشارع تزجر عن المعصية.

«فلا تعتدوها»: لا تزيدوا فيها عما أمر به الشرع، أو لا تتجاوزوها وقفوا عندها.

«فلا تنتهكوها»: لا تقعوا فيها ولا تقربوها.

و«سكت عن أشياء»: أي لم يحكم فيها بوجوب أو حرمة، فهي شرعاً على الإباحة الأصلية.

 

* فقه الحديث وما يرشد إليه:

1- وجوب المحافظة على الفرائض والواجبات: والفرائض هي ما فرضه الله على عباده، وألزمهم بالقيام بها، كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وذهب الشافعية أن كل ما وجب بدليل شرعي من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو غيرها من أدلة الشرع فهو فرض، فالفرض والواجب عندهم مترادفان إلا في الحج: فإن الفرض فيه، كطواف الإفاضة مثلاً، ما لا ينجبر بالدم، والواجب، كطواف الوداع مثلاً، ما ينجبر به. أما الحنفية ففرقوا بينهما: بأن الفرض ما يثبت بدليل قطعي، كالصلاة والزكاة، والواجب ما يثبت بدليل ظني، كالثابت بالقياس وخبر الواحد، كصدقة الفرض.

وتنقسم الفرائض إلى قسمين: فرائض أعيان، تجب على كل مكلف بعينه؛ كالصلوات الخمس والزكاة والصوم. وفرائض كفاية إذا قام بها بعض المسلمين سقط الإثم عن الجميع، وإذا لم يقم بها أحدٌ، أثم الجميع، كصلاة الجنازة ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المكر.

2- الوقوف عند حدود الله تعالى: وهي العقوبات المقدرة الرادعة عن المحارم، كحد الزنا، وحد السرقة، وحد شرب الخمر؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة ابن زيد حين كلمه في المرأة المخزومية التي سرقت عام الفتح: «أتشفع في حد من حدود الله» يعني في القطع في السرقة؛ فهذه الحدود عقوبات مقدرة من الله الخالق سبحانه وتعالى، يجب الوقوف عندها بلا زيادة ولا نقص.وأما الزيادة في حد الخمر من جلد أربعين إلى ثمانين فليست محظورة، وإن اقتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر على حد جلد أربعين؛ لأن الناس لما أكثروا من الشرب زمن عمر رضي الله عنه ما لم يكثروا قبله، استحقوا أن يزيد في جلدهم تنكيلاً وزجراً، فكانت الزيادة اجتهاداً منه بمعنى صحيح مسوغ لها، ومن ثم قال علي بن أب طالب رضي الله عنه: «إن كلاً من الزيادة وعدمها سنة»؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء بعمر خصوصاً بقوله: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» وعموماً بقوله: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين». وقد أجمع الصحابة على هذه الزيادة، وانشرحت صدورهم لها عندما قال عليٌ لعمر: يا أمير المؤمنين: من شرب الخمر فقد هذى، ومن هذى فقد قذف، وعقوبة القاذف في كتاب الله ثمانين جلدة..، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور:4].

3- المنع من قربان المحرمات وارتكابها: وهي المحرمات المقطوع بحرمتها، المذكورة في القرآن الكريم والسنة النبوية، وقد حماها الله تعالى ومنع من قربانها وارتكابها وانتهاكها؛ كشهادة الزور، وأكل مال اليتم، والربا؛ قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ [الأنعام:151] وقال صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام» وقال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام»..

ومن يدقق النظر في هذه المحرمات، ويبحث عن علة التحريم بعقل نيِّر ومنصف؛ فإنه يجدها محدودة ومعدودة، وكلها خبائث، وكلها ما عداها فهو باق على الحل، وهو من الطيبات، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة:87].

4- رحمة الله تعالى بعباده: صرح النبي عليه الصلاة والسلام أن سكوت الله عن ذكر حكم أشياء، فلم ينص على وجوبها ولا حلها ولا تحريمها، إنما كان رحمة بعباده ورفقاً بهم، فجعلها عفواً، إن فعلوها فلا حرج عليهم، وإن تركوها فلا حرج عليهم أيضاً. ولم يكن هذا السكوت منه سبحانه وتعالى عن خطأ أو نسيان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم:64] وقال عز وجل: ﴿فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى﴾ [طه:52].

5- النهي عن كثرة البحث والسؤال: ويحتمل أن يكون النهي الوارد في الحديث عن كثرة البحث والسؤال خاصاً بزمن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن كثرة البحث والسؤال عما لم يذكر قد يكون سبباً لنزول التشديد فيه بإيجاب أو تحريم، قال تعالى: ﴿لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة:101]. ويحتمل بقاء الحديث على عمومه، ويكون النهي فيه لما من التعمق في الدين، قال صلى الله عليه وسلم:«ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» وقال صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون» والمتنطع: الباحث عما لا يعنيه، أو الذي يدقق نظره في الفروق البعيدة، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «إياكم والتنطع، إياكم والتعمق، وعليكم بالعتيق» يعني ما كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

والتعمق: التشديد في الأمر حتى يتجاوز الحد فيه.

وقد كف الصحابة رضوان الله عليهم عن إكثار الأسئلة عليه صلى الله عليه وسلم حتى كان يعجبهم أن يأتي الأعراب يسألونه فيجيبهم، فيسمعون ويعون.

ومن البحث عما لا يعني عن أمور الغيب التي أمرنا بالإيمان بها ولم تتبين كيفيتها؛ لأنه قد يوجب الحيرة والشك، وربما يصل إلى التكذيب قال ابن إسحاق: «لا يجوز التفكر في الخالق ولا في المخلوق بما لم يسمعوه فيه كأن يقال في قوله تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾ [الإسراء:44] كيف يسبح الجماد؟ لأنه تعالى أخبر به، فيجعله كيف شاء كما شاء».

وقد روى البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فلستعذ بالله ولينته».

وأخرج مسلم: «لا يزال الناس يسألون حتى يقال هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل آمنت بالله».

6- ويفيد الحديث الأمر باتباع الفرائض والتزام الحدود، واجتناب المناهي، وعدم الاستقصاء عما عدا ذلك رحمة بالناس.

* * *  

 

* أهم المصادر والمراجع:

- الوافي في شرح الأربعين النووية: د. مصطفى البغا / محي الدين مستو.

- الرياض الندية في شرح الأربعين النووية: الإمام ابن دقيق العيد / العثيمين / الإمام النووي.

- الجواهر اللؤلؤية في شرح الأربعين النووية: محمد عبدالله الجرداني.

- شرح الأربعين النووية: الإمام النووي.