الحديث التاسع والثلاثون رفعُ الحرجِ في الإسلام
 

عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله تجاوزَ لي عن أُمتي: الخطأ، والنِّسيان، وما استكرهوا عليه». حديثٌ حسنٌ رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما.

أهمية الحديث:

قال النووي رحمه الله تعالى في شرح الأربعين: وهذا الحديث اشتمل على فوائد وأمور مهمة، لو جمعت بلغت مصنفاً لا يحتمله هذا الكتاب.

لغة الحديث:

«تجاوز»: عفا، من جازه إذا تعداه وعبر عليه، وهو هنا بمعنى رفع أو ترك.

«لي»: لأجلي وتعظيم أمري ورفعة قدري وحصول مَرْضِيِّ صدري.

«أمتي»: أمة الإجابة، وهي كل من آمن به صلى الله عليه وسلم واستجاب لدعوته.

«الخطأ»: ضد العمد لا ضد الصواب، كأن يقصد بفعله شيئاً فيصادف فعله غير ما قصده، مثل: أن يقصد قتل كافر فيصادف قتله مسلماً.

«النسيان»: ضد الذكر، بمعنى التذكير، كأن يكون ذاكراً لشيء فينساه عند الفعل. وقد يطلق على الترك من حيث هو، ومنه قوله تعالى: ﴿نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾[التوبة:67] وقوله سبحانه: ﴿وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ [البقرة:237]

«استكرهزا عليه»: يقال: أكرهته على كذا إذا حملته عليه قهراً، والكره المشقة، والكُره القهر. وقيل: بالفتح الإكراه، وبالضم المشقة، وقيل: لغتان.

فقه الحديث وما يرشد إليه:

1- المعنى الإجمالي للحديث: إن من أتى بشيء مما نهى الله عنه، أو أخل بشيء مما أمر الله تعالى به، دون قصد منه لذلك الفعل أو الخلل، وكذلك من صدر عنه مثل هذا نسياناً أو أجبر عليه، فإنه لا يتعلق بتصرفه ذم في الدنيا ولا مؤاخذة في الآخرة، فضلاً من الله تبارك وتعالى ونعمة.

2- فضل الله عز وجل على هذه الأمة ورفع الحرج عنها: وهكذا لقد كان فضل الله عز وجل عظيماً على هذه الأمة، إذ خفف عنها من التكليف ما كان يأخذ به غيرها فقد كان بنو إسرائيل: إذا أمروا بشيء فنسوه، أو نهوه عن شيء فأخطؤوه وقارفوه عجل الله تعالى لهم العقوبة، وآخذهم عليه، بينما استجاب لهذه الأمة دعاءها الذي ألهمها إياه، وأرشدها إليه جل وعلا، إذ قال: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ [البقرة:286].فتجاوز سبحانه عما يقع خطأً أو نسياناً فلم يؤاخذها به، قال سبحانه: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [الأحزاب:5] أي لا تؤاخدون فيما وقع منكم خطأ ومثله النسيان، ولكن تؤاخذون بما قصدتم إلى فعله. كما أنه سبحانه لم يكلفها من الأعمال ما تعجز عن القيام به في العادة، أو يحملها من التكاليف ما فيه عسر وحرج، أو يوقع التزامه في مشقة وضيق، وذلك لامتثالها أمر الله عز وجل على لسان رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ قالت: ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة:285].

3- المتجاوز عنه الإثم، لا كل ما يترتب من الحكم: إن تصرف المكلف إذا لم يأت على وفق ما جاء به الشرع ترتبت عليه أحكام: منها المؤاخذة والإثم، ومنها تدارك ما فات أو ضمان ما أتلف ونحو ذلك، ولفظ الحديث عام في رفع جميع ما يترتب من أحكام. قال القاري في شرحه على الأربعين: ولا يخفى أن حكم الخطأ أعم من إثم فعله وما يترتب عليه من تداركه، فرفع الإثم مستفاد من هذا الحديث، كما أن تداركه مأخوذ من نحو قوله تعالى: ﴿وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ [النساء:92].

4- أمثلة من الكتاب والسنة: هناك أمثلة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها رفع الإثم عن المخطئ والناسي، مع المطالبة بما يترتب من أحكام أخرى منها:

أ- قتل الخطأ: من قصد إلى رمي صيد أو عدو فأصاب مسلماً أو معصوم الدم، فإنه لا إثم عليه ولا ذنب، وإن كان هذا لا يعفيه من المطالبة بالدية والكفارة قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء:92].

ب- تأخير الصلاة عن وقتها: من أخر الصلاة عن وقتها بعذر كنوم أو نسيان فإنه لا يأثم، ولكنه يطالب بالقضاء فور الاستيقاظ أو التذكر. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه:14].

ج- التلفظ بالكفر: فإن من أكره على أن ينطق بالكفر فإنه يأتي بالمعاريض، أي بما يوهم أنه نطق بالكفر لا بما يدل عليه صريحاً، إلا إن أكره على ما يكفر صريحاً، فإنه يتكلم بذلك بلسانه، من غير أن يعتقد بنفسه مع طمأنينة قلبه بالإيمان وانشراح صدره باليقين والعرفان. قال تعالى: ﴿مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل:106]. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تشركوا بالله وإن قطعتم وحرقتم» أي لا تتلفظوا بالشرك ونحوه، إذا أكرهتم على ذلك ولو وصل بكم الحال إلى ما ذكر.

5- تفصيل القول في حكم الخطأ والنسيان: إن ما يترتب على تصرف المكلف، خطأ أو نسياناً، يختلف باختلاف الفعل أو القول الذي يقع منه، وقد لوحظ في هذه أقسام أربعة، إليك بيانها:

أولاً: إن وقع الخطأ أو النسيان في ترك مأمور به لم يسقط، بل يجب تداركه.

ثانياً: إن وقع الخطأ أو النسيان في فعل منهي عنه، ليس من باب الإتلاف، فلا شيء عليه.

ثالثاً:إن وقع الخطأ أو النسيان في فعل منهي عنه، هو من باب الإتلاف، لم يسقط الضمان.

رابعاً: إن وقع الخطأ أو النسيان في فعل منهي عنه، وكان الفعل يوجب العقوبة، كان الخطأ أو النسيان شبهة تسقط تلك العقوبة.

6- ما لا يعذر به الناسي: ما سبق من القول من رفع المؤاخذة عما وقع من تصرف نسياناً إنما هو في الناسي الذي لم يتسبب في نسيانه، أما من تسبب في ذلك كأن ترك التحفظ وأعرض عن أسباب التذكر، فإنه قد يؤاخذ عن تصرفه ولو وقع منه نسياناً، وذلك: كمن قصر في تعاهد القرآن وتهاون في مدارسة ما حفظ منه حتى نسيه، وكمن رأى نجاسة في ثوبه فتباطأ عن إزالتها حتى صلى بها ناسياً لها فإنه يعد مقصراً مع وجوب القضاء عليه.

7- مسائل فقهية في النسيان:

أ- ترك التسمية على الذبيحة والصيد نسياناً: التسمية على الذبيحة سنة عند الشافعي رحمه الله تعالى، وهو رواية عن أحمد رحمه الله تعالى، فإذا تركها عمداً أو نسياناً أكلت الذبيحة وحجته في هذا: ما رواه البراء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم يذبح على اسم الله، سمى أو لم يسم».وفي رواية عن أبي هريرة رضي اله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يذبح وينسى أن يسمى؟ فقال: «اسم الله على فم كل مسلم» رواه الدارقطني .

ب- الكلام في الصلاة سهواً: مذهب الشافعي رحمه الله تعالى أنها لا تبطل، لأن الكلام الذي يفسد الصلاة هو المنهي عنه، وهو لا يتناول كلام الناسي، وقد ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر أو العصر وسلم من ركعتين، فقال له رجل يقال له ذو اليدين: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: «لم أنس ولم تقصر»،ثم قال لأصحابه: «أكما يقول ذو اليدين». فقالوا: نعم، فتقدم فصلى ما ترك، ثم سجد سجدتين آخر صلاته وسلم. رواه البخاري. وجه الدلالة بالحديث: أنه تكلم معتقداً أنه ليس في الصلاة، وهم تكلموا على ظن النسخ، ثم بنى هو وهم على ما سبق. وهذا مقيد بالكلام القليل عرفاً، لأنه إذا طال الكلام حصل التذكر.

ج- الأكل والشرب أو الجماع في الصوم نسياناً: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن من أكل أو شرب ناسياً لصومه فإن كان الصوم واجباً يمسك فور تذكره بقية يومه، ولا يبطل صومه، ولا قضاء عليه ولا كفارة، وذلك لما رواه البخاري ومسلم، واللفظ له: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه». والظاهر: أنه حمل الحديث الوارد على صوم التطوع، فإنه قال في الموطأ: من أكل أو شرب ساهياً أو ناسياً في صيام تطوع فليس عليه، وليتم صومه الذي أكل أو شرب وهو متطوع ولا يفطره.

8- الخطأ أو النسيان في اليمين: إذا حلف على شيء وفعله ناسياً، أو جاهلاً به، أي ظاناً أنه غير المحلوف عليه، فهل يحنث في يمينه أم لا؟ ذهب الشافعي رحمه الله تعالى- في الأظهر من قوليه- إلى أنه لا يحنث، ولو كان يمينه طلاقاً أو عتاقاً، ولكنه لا ينحل يمينه على الأصح، لأن ما وجد منه لم يعتبر متناولاً ليمينه، وإلا لحنث به، وهذا رواية عن أحمد رحمه الله تعالى. وقال مالك رحمه الله تعالى: يحنث بكل حال، لأن المرفوع إثم الخطأ والنسيان لا ذاتهما أو ما يترتب عليهما.

9- ما يترتب على فعل المكره: تختلف الأحكام المترتبة على فعل المكره حسب درجة الإكراه، وطبيعة الفعل المكره عليه:

أ- فقد يكون الإكراه  ملجئاً: بمعنى أن المكره يصبح في حالة لا يكون له اختيار في فعل ما أكره عليه بالكلية ولا قدرة لديه على الامتناع منه.

ب- وقد يكون الإكراه غير ملجىءٍ: بمعنى أن المكره يستطيع أن يمتنع عن فعل ما أكره عليه، فإذا كان المكره على هذه الحال فإن فعله يتعلق به التكليف.

10- مسائل فقهية في الإكراه:

أ- الإكراه على القتل أو الزنا: القتل بغير حق والزنا من الكبائر المتفق على تحريمها في جميع ما نزل على الأنبياء والمرسلين من شرائع، ولذا لا يباحان في حال من الأحوال حتى في حال الإكراه.

ب- الإكراه على الزنا: ذهب عامة العلماء: إلى أن المرأة إذا أكرهت على الزنا، لا حد عليها، فإن كان الإكراه ملجئاً لا تأثم، وإن كان غير ملجئ كانت آثمة واحتجوا على ذلك بحديث الباب، وربما رواه الأثرم: «أن امرأة استكرهت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدرأ عنها». وأتي عمر رضي الله عنه بإماء- أي نساء مملوكات- استكرههن غلمان- عبيد- فضرب الغلمان ولم يضرب الإماء. ولأن الإكراه شبهة، والشبهة تسقط الحد.

ج- الإكراه على القتل: اتفق العلماء الذين يعتد بهم على أنه: لو أكره على قتل إنسان معصوم الدم لم يجز له أن يقتله، فإن قتله كان آثماً، لأن قتله له افتداء لنفسه، فيكون باختياره. هذا مع اتفاقهم أيضاً على أن الإكراه على القتل لا يكون إلا بالتهديد بالقتل أو بما يخاف منه القتل بشروط تفصلها كتب الفقه.

ثانياً: الإكراه على غير القتل والزنا من المحرمات: كالسرقة وشرب الخمر ونحوهما:

فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن من أكره على فعل شيء من ذلك، أبيح له فعله، وعليه الضمان فيما فيه إتلاف مال غيره ويرجع بما ضمنه على المكره، ولا إثم عليه ولا عقوبة.

وقال بعض المالكية، وهو رواية عن أحمد: لا يباح له ذلك، بمعنى: أنه لو فعل شيئاً فيه عقوبة بدنية كحد السرقة والشرب أقيمت عليه، وإن كان في ذلك إتلاف لمال غيره كان الضمان عليه وعلى المكره.

ثالثاً: الإكراه على الأقوال: ذهب جمهور العلماء- منهم مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى- إلى أن الإكراه متصور في جميع الأقوال، فمن أكره بغير حق إكراهاً معتبراً على قولٍ محرمٍ كان له أن يفتدي بقوله ولا إثم عليه، وكان قوله لغواً لا يترتب عليه ما يقتضيه من الأحكام. وذلك أن الله تعالى وضع الإثم عمن أكره على التلفظ بالكفر بقوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ [النحل:106].

11- رضى المكره بما اكره عليه: إذا ظهر من المكَره ما يدل على رضاه بما يُكَره عليه، ووجدت رغبة لديه فيه، فإنه يصح منه ما يوقعه من العقود وغيرها، ولا يعتد بالإكراه ولو كان قائماً، لصحة قصده لما يصدر عنه من تصرف.

12- الإكراه بحق: إذا أكره المكلف على قول مطالب به، أو فعل يلزمه، فإن إكراهه لا يمنع من لزوم ما أكره عليه، وترتب ما يقتضيه من أحكام. من ذلك:

1- إذا أكره الحربي على الإسلام فنطق به صح إسلامه.

2- إذا آلى من زوجته- أي حلف أن لا يقربها- ثم مضت أربعة أشهر ولم يقربها وأبى أن يطلقها، وأكرهه الحاكم على الطلاق وقع طلاقه.

3- إذا حلف أن لا يؤدي دينه، فأكرهه الحاكم على الوفاء، حنث بيمينه، وكان عليه الكفارة.

4- إذا اكره الحاكم أحداً على بيع ماله ليوفي ديونه صح بيعه.

 

* أهم المصادر والمراجع:

- الوافي في شرح الأربعين النووية: د. مصطفى البغا / محي الدين مستو.

- الرياض الندية في شرح الأربعين النووية: الإمام ابن دقيق العيد / العثيمين / الإمام النووي.

- الجواهر اللؤلؤية في شرح الأربعين النووية: محمد عبدالله الجرداني.

- شرح الأربعين النووية: الإمام النووي.