من آداب الصلاة
 

عَنْ جابرِ بْنِ سَمُرَةَ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيَنْتَهِيَنَّ أقوامٌ يرفعونَ أبصارهم إلى السَّماء في الصَّلاة أو لا ترجعُ إليهم». رواه مسلمٌ. وله عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا صلاة بحضرة طعامٍ ولا وهو يُدافعُهُ الأخبثانِ».

 

مفردات الحديث:

لينتهين من الانتهاء: واللام جواب قسم محذوف، والنون المشددة آخره للتوكيد وهو خبر بمعنى الأمر.

أو لا ترجع: (أو) هنا للتخيير الذي قصد به التهديد، وهو خبر في معنى الأمر والمعنى ليكونن منهم الانتهاء عن رفع الأبصار، أو خطف الأبصار عند الرفع من الله تعالى، فلا تعود إليهم أبصارهم.

الأخبثان: هما البول والغائط، فمن احتبس بوله حاقن، ومن احتبس غائطه فهو حاقب، قال أهل اللغة: الحاقن مدافع البول، والحاقب مدافع الغائط، والحازق مدافع الريح، والحاقم مدافع البول والغائط.

والأخبثان: مثنى- أخبث- بالألف صار ذا خبث.

يدافعه الأخبثان: لفظ المدافعة- إشارة إلى شدة الاحتياج لقضائهما، فكأنهما يدفعان المصلي إلى قضائهما، والمصلي يدفعهما حتى يؤدي الصلاة.

 

ما يؤخذ من الحديث:

1- الخشوع هو لب الصلاة وروحها ويكون بالقلب والجوارح، والذي يرفع بصره إلى السماء ويجيل نظره ها هنا وها هنا لم يخشع قلبه ولا جوارحه، ذلك أن القلب بفكره يتبع النظر، ولذا رأى سعيد بن المسيب رجلاً يعبث بلحيته وثيابه فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.

2- النهي الأكيد والوعيد الشديد على رفع بصره إلى السماء في الصلاة، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف عنه».

3- النبي صلى الله عليه وسلم توعّد من رفع بصره إلى السماء في الصلاة بخطف بصره، ومع ذلك يوجد كثير ممن يرفعون أبصارهم ولم يُعرف أن أحداً رفع بصره إلى السماء ثم خطفت فلم يرجع إليه نظره وأصبح لا يبصر.

والجواب: أن تخلف الوعيد- كرماً ولطفاً- لا يعني أنه لن يقع الأمر.

الأمر الثاني: أنه قد لا يخطف حساً، ولكنه خطف معنى، وهذا أعظم، فإن الأول عقوبة في الدنيا، والثاني عقوبة في الدنيا والآخرة، فإن الإنسان  إذا كان لا يستفيد من نظره فيما يعود عليه بإصلاح أمره فقد خطف فائدة بصره، ولذا قال تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج:46]، وقال تعالى: ﴿وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا﴾ [الأعراف:179].

4- هذا الوعيد يدل على تحريم رفع البصر إلى السماء في الصلاة. قال النووي: أجمع العلماء على تحريمه. قلت: يريد الإجماع جمهور العلماء فإن مذهب الإمام أحمد أن رفع البصر مكروه فقط، قال في الإنصاف: وعليه الأصحاب.

5- رفع البصر مناف لأدب الصلاة ومقامها، فإن المصلي يناجي الله تعالى وهو تجاهه في قِبلته، فرفع البصر وروغانه عمن يراه بقلبه إساءة أدب تدل على أنه لا يحس أنه يعبد إلهاً يراه وأقرب إليه من حبل الوريد.

6- قال فقهاؤنا: يكره تغميض عينيه، لأنه فعل اليهود، ولأنه مظنة النعاس إلا إن احتاج إليه فتزول كراهته. قال ابن القيم: لم يكن من هديه تغميض عينيه. ثم قال: الصواب: أن يقال: إن كان فتحها لا يخل بالخشوع فهو أفضل، وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قِبلته من زخرف وتزويق أو غيره مما يشوش قلبه فهناك لا يكره التغميض قطعاً، والقول باستحبابه في هذه الحال أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة.

7- أما حديث عائشة فيدل على كراهة الصلاة في حال مدافعة الأخبثين، وهما البول والغائط، ويرى شيخ الإسلام: أن الحاقن أو الحاقب أفضل له أن يقضي حاجته ولو لم يكن عنده ماء، ويصلي بالتيمم، ويقول إن الصلاة بالتيمم وهو طهارة شرعية، أفضل من الصلاة بالماء في حال تشوش المصلي وانشغال باله.

8- مثل مدافعة الأخبثين كل ما يشغل باله من ريح في جوفه أو حر أو برد شديدين أو جوع أو عطش مفرط أو غير ذلك مما يذهب عنه الخشوع وحضور القلب، فإن حضور القلب هو لب الصلاة، فإذا لم يوجد فهي صور وأشباح تجزي صاحبها، ولكنها لم تُنِلْه مقامَ المؤمنين المفلحين الذين هم في صلاتهم خاشعون.

9- في صلاة مدافع الأخبثين خلاف، ولكن الجمهور على صحتها، ويؤولون ظاهر الحديث بأنه لا صلاة كاملة، أما الظاهرية فلا يرون صحة الصلاة عملاً بظاهر الحديث، وقول الجمهور هو الصواب إن شاء الله.

* * *

 

  • أهم المصادر والمراجع:

-          توضيح الأحكام شرح بلوغ المرام: الشيخ عبدالله البسام.

صحيح مسلم بشرح الإمام النووي.