نَظْرَة الإِسْلامِ لِلْمَرأةِ الحَائِض
 
 

قال الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الـْمَحِيْضِ قُلْ هُوَ أَذَىً فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الـْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الـْمُتَطَهِّرِيْنَ[سورة البقرة:222]..

الحيض (شرعاً): دمٌ فاسدٌ يَخْرُج من أقصى رحم المرأة أياماً من كل شهر.

ويُفسَّر طبياً:- بأنَّه نَزْفٌ غريزي (فيزيولوجي) يحصل نتيجة تَنَخُّرْ بطانة رحم المرأة في نهاية الدورة الشهرية عندها، حيث يُفْرِز الرَّحم إلى الخارج كمية من الدم تتراوح ما بين (60- 240 سم3).. إن الحيض دورة طبيعية تمر بها جميع بنات حواء عامةً، وللإسلام من هذه الدورة موقف رَاقٍ وَسَامٍ تميَّز به عن باقي الديانات الأخرى، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم لم يُؤَاكِلُوها ولم يُجَامِعُوها في البيوت، فسأل الصحابة رضي الله عنهم النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك فأنزل الل! ه تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْـمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذَى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْـمَحِيضِ...(1) الآية. فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام! : «اصنعوا كُلَّ شيء إلا النكاح». وفي رواية:«إلا الجماع». رواه مسلم

فهذا الحديث الشريف بَيَّن المراد من الاعتزال المذكور في الآية الكريمة، فيكون المعنى: اتركوا وامتنعوا أيها الأزواج عن جماع الحائض، وأما عدا ذلك من المؤاكلة والمجالسة والمخالطة، والسَّكَن في بيت واحد مع الحائض بل النَّوم معها في فراش واحد والاستمتاع بها (فيما عدا الجماع) فجائز ومُباح وقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يفعل كل ذلك مع أزواجه.. فلا يُكْرَه طَبْخُ الحائض ولا عَجْنُها، ولا يُك! ْرَه وَضْعُ يدها في شيء من السوائل والمائعات كما هو مُتَوَهَّمٌ لدى البعض.. وذلك لأن الإسلام يَنْظُر للمرأة الحائض على أنها ولو كانت ممنوعة من بعض الأمور فهي طاهرة جسداً وروحاً وليست نجسة كما كان ينظر اليهود للمرأة الحائض فهاهي عائشة رضي الله عنها تقول: «كنت أشرب من الإناء وأنا حائض ثم أناوله النبي عليه الصلاة والسلام فيَضَعُ فَاهُ على مَوضِعْ فَمِي» رواه مسلم.

أما قوله تعالى: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَآءَ في المحِيْض﴾ أي: أبعدوا أنفسكم عنهنَّ في أَمْرٍ يَتِيْمٍ فقط وهو الجماع، لا أن تُبعِدُوهنَّ عنكم - كما تفعل اليهود- فالخطاب مُوَجَّه للأزواج لا الزوجات في الامتناع عن الجماع،لأن الرغبة والطلب عادة يكون في هذه الفترة من الزوج لا من الزوجة.

وشَدَّدَ اليهود في وجوب اعتزالها واعتبروا أن من مَسَّها كان نجساً!!..وكانوا يعتزلونها في المأكل والمشرب والفراش، وقد جاء في كتابهم المُحَرَّف ما يلي: (إذا كانت المرأة ولها سيل-أي حيض- وكان سيلها دماً فسبعة أيام تكون في طمثها، وكل من مَسَّها يكون نجساً وكل من مَسَّ فراشها يغسل ثيابه، ويستحم بماء، وإن اضطجع معها رجل أثناء طمثها(فترة حيضها) يكون نجساً).. بل وعندهم أيضاً أن المرأة إذا حاضت ثلاثاً وكانت مع رجلها في المكان نفسه عند بدء حيضها فإنها تَطْلُق منه !!..

أما المجوس والعرب في جاهليتهم فكانوا لا يساكنون الحائض ولا يؤاكلونها، في حين كانت النصارى تتهاون في أمر الحيض ، فلا تُفَرِّق بين الحيض والطهر لا في الجماع ولا في غيره.

أما الإسلام فقد جاء بالاعتدال ونزلت الآية الكريمة فوضعت الأمور في نصابها بميزان مصلحة الفرد والمجتمع، فقرر الإسلام أن الحيض ضرر وأذىً للرجل والمرأة على حدٍ سواء، فمنع الزوج أثناء فترة حيض زوجته من كل ما فيه ضرر عليهما، ووجهت السنة الشريفة الزوجة بتوجيهات تفيدها وتقيها من كل ضرر جسمي ومعنوي يمكن أن يلحق بها، والإسلام في الوقت نفسه كرَّم المرأة، فلم يَجْعلها نَجِسَة ولا مُسْتَقذرة كما فعلت اليهود ولم يتهاون في مصلحتها كما فعلت النصرانية، بل أمر بكل ما هو مفيد للزوجين وبَيَّن وأوضح أنَّ كل ما يمكن أن يكون من تواصل وممارسات جنسية مُباحة بين المرأة وزوجها قبل الدورة الشهرية هي جائزة أثناء الدورة الشهرية إلا شيئاً واحداً هو الجماع في الفرج فهو مُحرَّم ، وأن! هذا التحريم هو في مصلحة كلٍ من الزوجين ، وليس تحريماً مجرداً عن المصلحة.

وجاءت السنة النبوية على لسان مُعَلِّم النَّاس الخير، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام لتُوَضِّح أن الاعتزال إنما يكون لموضع الأذى وهو موضع الدم فقط دون غيره وبَيَّن للناس أن من الجائز أن تُعَاشِرُوا أزواجكم وتستمتعوا بهنَّ بما يحلو لكم من وجوه الاستمتاع إلا الجماع في الفرج فقال عليه الصلاة والسلام: «واصنعوا كل شيء إلا الجماع». رواه مسلم  أي: استمتعوا بأزواجكم بأي طريقة تشاؤون إلا الجماع في مكان الدم فهو محرم وغير جائز لما فيه من الضرر الواقع على كلا الزوجين. أما ما سوى ذلك فجائز، فقالت سيدتنا عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يأمُرُني فأتَّزر، فيُبَاشرني وأنا حائض». رواه ال! بخاري

* الهدي النبوي في معاملة الزوج مع زوجته أثناء الحيض:

لقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام أَسْمَى مُعَلِّم وأروع قدوة في تعامله مع كل من هم حوله خاصة أزواجه رضي الله عنهنَّ أجمعين، ولا عجب فهو القائل عليه الصلاة والسلام: «خَيْرُكم خَيْرُكم لأهله، وأنا خَيْر! ُكم لأهلي». رواه الترمذي وقد ضرب لنا أروع الأمثلة في العشرة الزوجية مع أزواجه، خاصة إذا كُنَّ في فترة الحيض، فقد كانت أزواجه رضي الله عنهنَّ يَلْمَسْن منه عليه الصلاة والسلام المحبة والمودة وكُنَّ أيضاً ينعمن بقربه منهنَّ حتى في فترة الحيض، فلم يكن عليه الصلاة والسلام يَبْخل بعواطفه الدافئة على أي زوجة من زوجاته ولو كانت في فترة الحيض، وقد جاء في السنة الشريفة أمثلة رائعة لذلك حبذا لو يقتدي بها كل زوج منها:- أنه عليه الصل! اة والسلام كان يُقَبِّل زوجته الحائض إشعاراً لها بمودته وقربها من قلبه في كل أحوالها، بل كان يفعل ما هو أكثر وأبلغ من هذا فقد كان يأمر زوجته الحائض فتلبس إزاراً أو ما شابه ذلك لتستر به فرجها ثم يدعوها ليُبَاشرها.. ويكون بينهما ما يكون بين الزوج وزوجته من استمتاع إلا الجماع في الفرج، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: «كانت إحدانا -أي أزواجه- إذا كانت حائضاً أمَرَها رسول الله عليه الصلاة والسلام  أن تأتزر بإزار ثم يُبَاشرها». رواه البخاري

وقد روت أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها عن النبي عليه الصلاة والسلام: «أنه كان يُبَاشِر نساءه فوق الإزار وهُنَّ حُيَّض». رواه مسلم

وكان عليه الصلاة والسلام يغتسل مع زوجته الحائض من إناء واحد، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يضطجع مع زوجته الحائض في الفراش نفسه فلا يَشْمَئِز منها ولا يَبْتَعِد عنها، ويدل على ذلك حديث أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها قالت: «بينما أنا مع النبي عليه الصلاة والسلام في الخميلة(يعني الفراش) إذ حِضْتُ فانسللت (أي: خرجت) منها وأخذت ثياب حيضتي فلبستها، فقال لي رسول الله عليه الصلاة والسلام: أَنُفِسْتِ؟ - يعني حِضْت -. فقلت: نعم. فدعاني فأدخلني معه في الخ! ميلة» رواه البخاري.. وكان النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ القرآن وهو مُتَّكئ في حجر زوجته الحائض، إشعاراً لها بطهارتها وقُرْبِها من نفسه كما كان يفعل ذلك مع عائشة رضي الله عنها فقد قالت: «كان النبي عليه الصلاة والسلام يتكئ في حِجْرِي وأنا حائض ثم يقرأ القرآن». رواه البخاري وكان النبي عليه الصلاة والسلام يؤانس زوجته الحائض حتى عند الأكل فيُشَاركها حتى في لقمة الطعام التي ابتلت بريقها بل وفي الشراب أيضاً، ويدل لذلك ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أَتَعَرَّقُ العظم فأعطيه النبي عليه الصلاة والسلام فيضع فمه في الموضع الذي كُنْتُ فيه وضعته، وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه». رواه أبو داود.

أَتَعَرَّقُ العَظْمَ: يعني أتتبع قطع اللحم على العظم فآكلها. حيث كان النبي عليه الصلاة والسلام يأكل من المكان نفسه الذي كانت قد أكلت منه عائشة رضي الله عنها، وإذا شربت من كأس شرب عليه الصلاة والسلام من الم! كان نفسه الذي شربت منه زوجه عائشة رضي الله عنها، إشعاراً لها بِقُرْبِهَا من قلبه في كل أحوالها ولو كانت حائضاً.

وكان عليه الصلاة والسلام يَسْمَح لزوجته الحائض أن تَغْسل رأسه وتُمَشِّط شعره فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كنت أُرَجِّل رأس رسول الله عليه الصلاة والسلام (يعني أمشطه) وأنا حائض». رواه البخاري وقالت أيضاً: «كنت أَغْسِلُ رأس رسول الله عليه الصلاة والسلام وأنا حائض». رواه مسلم

كل هذه الأمثلة التي ذكرتها تدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يُحسن مُعَاملة أزواجه ولو كُنَّ في فترة الحيض، ولم يَمْنعه ذلك الأمر أن يقترب منهنَّ أو أن يُعَامِلهنَّ كما كان يُعَامِلهنَّ قبل الحيض، بل لم يكن يُشْعِر زوجته الحائض بِفَرْق في التعامل قبل وأثناء الحيض إلا بشيء واحد وهو عدم الجماع، لأنه وكما سيأتي معنا أنَّه مُحرَّم وغير جائز ! وفيه من الأضرار الجسيمة الشيء الكثير على كلا الزوجين.. أمَّا الأزواج الذين يُشْعِرون زوجاتهم بفرق في التعامل (فيما عدا ما حرَّم الله) أثناء الحيض فهم على خطأ كبير، فما ذنب المرأة التي يأتيها الحيض وهو جزء من بُنْيَتِهَا التي خلقها الله تعالى من غير أن يكون لها رأي في ذلك.. أن تَلْقَى من زوجها بعض الجفاء والنفور وهو أقرب الناس إليها!!..

ثم إنَّ هناك أمراً يخفى على كثير من الرجال فهْمُه وإدْرَاكه.. وهو أن هذه الدورة الشهرية ما هي إلا إِعْلام من الرَّحم باستعداده المتكرر كل شهر للحمل الذي ينتج عنه بإذن الله مولود يُسْعِد كلا الزوجين وليس المرأة فقط !!..

إذاً.. فللزوج مصلحة في ذلك (وهي الولد).. فلماذا يُسِيْءُ إلى زوجته أثناء الحيض فيشمئز منها ويجتنبها وكأنها قد ارتكبت ذنباً !!.. هل هذا جزاؤها لأنها تتحمل وحدها معاناة هذا الاستعداد المتكرر للحمل كل شهر!! اللهم فَهِّمْنا واهْدِنَا إلى سَواء السَّبِيْل..

ولابد من الإشارة في هذا المقام إلى حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي رواه ا! لإمام البخاري -رحمه الله- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «... ما رأيت من ناقصات عقل ودين أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُل الحازم من إحداكنَّ. قلن: وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُم؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان دينها». رواه البخ! اري

الذي نريد أن نَلْفِتَ النَّظَر إليه هو أنه وللأسف الشديد يَتَجَرَّأ بعض من حُرِم الفَهْمَ والتوفيق على حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام فيستخدم هذا الحديث الشريف في الإساءة إلى بنات سيدتنا حواء، فَيَطْعَن في حِكْمتهنَّ ورُجْحان عُقولهنَّ، ثم يستدل على كلامه بهذا الحديث الشريف!!!..

وهذا فيه من الخطأ الفاحش والبُعْد عن الحقيقة ما لا يخفى على أحد !!.. فالرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بَيَّن ووَضَّحَ المقصود من كلامه بما لا يدع مجالاً للشَّك وسوء الفهم إلا عندَ مَن هو مُصِرٌّ على أن يتجاوز حدوده، فوَضَّحَ أنَّ نُقْصَان العقل يعني به أن شهادتها تعدل نصف شهادة الرجل لا غيرَ ذلك، مشيراً إلى قوله تعالى: ﴿.. واسْتَشْهِدُوا شَهِيْدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم فَإِنْ لم يَ! كُونَا رَجُلَيْن فَرَجُلٌ وامْرَأتَانِ مِمِّن تَرْضَونَ مِنَ الشُّهَدَاءِ…﴾[سورة البقرة:282]... وأنَّ نُقْصَان الدين.. المقصود منه الأيام التي تمتنع فيها عن الصلاة والصوم بسبب الحيض، بينما لا يوجد مثل ذلك عند الرجال، مع التنبيه على أمر أنَّ الحيض من بنية المرأة التي خلقها الله تعالى وليس الأمر عائداً إلى المرأة نفسها.. وليس المقصود من نقصان الدين المذكور في الحديث اتهام تقوى المرأة أو التزامها بأوامر ربها بالنقصان والتقصير..فليُعْلم ذلك جيداً.. فنقصان العقل والدين المذكور في الحديث ليس عيباً أو نقصاً في المرأة كما يعتقد بعض من ليس لهم نصيب من العلم والفهم !!!..

وبالتالي فإنَّ إساءة فهم أو استخدام هذا الحديث هو اعتداء على كلام رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذه جريمة عظيمة... ولا يُعْذَر أبداً من يقول قصدت الـمُزاح لا الحقيقة... فهذا دين الله تعالى ..

 

***********************

* أهم المصادر والمراجع:

- الاستمتاع بالحائض وعباداتها:

- روائع الطب في الإسلام: د. محمد نزار الدقر.

- فتح الباري شرح صحيح البخاري: الإمام ابن حجر العسقلاني.

- توضيح الأحكام من بلوغ المرام: عبدالله البسام.

- عناية الإسلام بالصحة البدنية: السيدة كاملة الأنوار محمد صابر.

- الموسوعة الطبية الفقهية: د. أحمد كنعان.

- أصول المعاشرة الزوجية: الشيخ القاضي محمد أحمد كنعان.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم