من روائع التشبيه في القرآن
 
 

قال تعالى: { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس:24).

 شبه القرآن حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها، واغترار الناس بها، بحال ماء نزل من السماء وأنبت أنواع العشب، وزين بزخارفها وجه الأرض كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة، حتى إذا طمع أهلها فيها، وظنوا أنها مسلمة من الجوائح أتاها بأس الله فجأة فكأنها لم تكن بالأمس .

تأمل بعقلك وخيالك وذوقك نظم الآية الكريمة أنها مكونة من عشر جمل لو سقط منها شيء اختل التشبيه، وانظر إلى هذه الجمل تجد كل جملة تعبر عن مشهد من مشاهد الحياة الدنيا، وقد رتبت ترتيبا عجيبا ً كان كل جملة منها تلد التي تليها، وقد تكونت كل جملة من طائفة من الكلمات تألفت بأصواتها وظلالها وأجراسها فعبرت أصدق تعبير عن المشهد الذي استقلت به، أن نظمها أو حرفا بأخر اختل بمقدار، بحيث إذا أخرت أو قدمت أو غيرت كلمة بأخرى أو حرفا بآخر اختل المعنى، وتبعثرت مشاهد الصورة الدنيوية . 

قال تعالى :{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} (ابراهيم:18) .

 الذين كفروا في ضياعها، وذهابها إلى غير عودة بهيئة رماد تذروه الرياح وتذهب به بددا إلى حيث لا يتجمع أبدأ .

تأمل نظم الآية تجد كل كلمة قارة في مكانها، مطمئنة في موضعها لا تشكو قلقاً ولا اضطراب، معبرة في دقة عن معناها، وتأمل تناسق الكلمات وتألقها، وترتيب الجمل وتعانقها، ومخارج الحروف وأصواتها، وإيحاءات الألفاظ واشاراتها تجد نظماً عجيباً لا يقدر عليه إلا خالق الأرض والسماوات .

 تأمل كلمة " رماد " إنها توحي بخفة الوزن، وتأمل، " اشتدت " فإنها توحي بسرعة الرياح وتأمل كلمة " عاصف " فإنها توحي بالعنف .

و تأمل كيف أبرز لك هذا التشبيه ببديع نظمه الصورة حية متحركة كأنك تراها وتلمسها .

قال تعالى : {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة:265).

شبه القرآن الصدقات التي تنفق ابتغاء مرضات الله في كثرة ثوابها ومضاعفة أجرها بجنة فوق ربوة أصابها مطر غزير فأخصبت تربتها، وتضاعف أكلها .

تأمل نظم الآية العجيب كلمات إلهية لا يصلح في مكانها غيرها تعبر عن معانيها في دقة وإحكام، وتنبعث منها لطائف وأنوار، وينطوي تحتها الكثير من العجائب والأسرار، وجمل ربانية متناسقة متلاحقة قد فصلت على معانيها بمقدار، وحروف ذات أصوات وأنغام تبعث في الصورة الحركة وتبث فيها الحياة .

تأمل نظم الآية العجيب كلمات إلهية لا يصلح في مكانها غيرها تعبر عن معانيها في دقة وإحكام، وتنبعث منها لطائف وأنوار، وينطوي تحتها الكثير من العجائب والأسرار، وجمل ربانية متناسقة متلاحقة قد فصلت على معانيها بمقدار، وحروف وأنغام تبعث في الصورة الحركة وتبث فيها الحياة .

إن من يقرأ الآية الكريمة، يتذوق حلاوتها يخيل إليه أنه يرى هذه الصورة الغيبية الخفية أمام عينيه وأنه يلمسها بيديه .

رغم هذا التصوير يأتي مكابر مجهول يصف التشبيه القرآني بأنه عن الإعجاز معزول ؟

قال تعالى : {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت:41) .

شبه القرآن الكريم حال هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أندادا في لجوئهم واحتمائهم بهؤلاء الأنداد الضعفاء المتناهين في الضعف بحال العنكبوت حينما تأوي إلى بيتها الضعيف الواهن وتحتمي به .

صورة عجيبة تلح على الحس والوجدان، وتجتذب إليها الألتفات، وتسترعي الانتباه، وتسترق الأسماع وتبهر الألباب وتستولي على الأحاسيس والمشاعر، ويقف أمامها دهاقين الكلام حيارى يتساءلون كيف نظمت هذه الصورة ؟ وكيف تكونت ؟ ثم لا يجدون من يجيبهم على تساؤلاتهم، لأن البشر مهما أوتوا من البراعة والبيان لا يمكنهم الوصول إلى معرفة سر نظم القرآن .

إنها تصور لك هؤلاء العباد الغافلين بصورة العناكب الضئيلة الواهنة، وتصور لك هؤلاء الضعفاء العاجزين بصورة بيت العنكبوت الذي يضرب به المثل في الضعف والوهن .

قال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ(22)كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ(23)جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24)} [ سورة الرحمن ].

شبه القرآن الكريم الحور العين باللؤلؤ المكنون في الصفاء والنقاء والهدوء والصيانة .

تأمل نظم هذه الصورة الإلهية أنه فوق طاقة البشر . ثم تأمل هذه الكلمة العجيبة " اللؤلؤ " هل في مقدورك أو في مقدور أي بليغ مهما أوتي من البراعة والبيان أن يأتي بكلمة أخرى تؤدي معناها، وتصور ما صورته ؟ ثم تأمل الدقة في صفة هذا اللؤلؤ بكونه مكنونا.

إن اللؤلؤ فيه الصفاء والهدوء والنقاء، وهو أحجار كريمة من شأنها أن تصان ويحرص عليها .

تأمل الارتباط العجيب والصلة الوثيقة بين الحور العين واللؤلؤ المكنون، إنه الإعجاز يلبس ثوب التشبيه فيقف البلغاء أمامه ضعفاء قد استولت عليه الحيرة وسيطرت على عقولهم الدهشة وداعبت أنامل الإعجاب حبات قلوبهم . فخروا ساجدين لعظمته، وشهدوا بأنه البيان الإلهي الذي لا يقدر عليه بشر .

قال تعالى : {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ(4)وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ(5)فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ(6)فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(7)وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ(8)فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ(9)وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ(10)نَارٌ حَامِيَةٌ(11) }[ سورة القارعة ].

شبه القرآن الكريم الناس يوم القيامة بالفراش المبثوث في ضعفهم وضالتهم وتهافتهم .

و شبه الجبال بالعهن " الصوف " المنفوض في هشاشتها وخفتها .

مشهدان رائعان رسمتهما الريشة الإلهية فأجادت وأعجزت، وسخرت وأدهشت .

تأمل هذه الكلمة " الفراش " إنها تصور لك بظلها وجرسها، وإيحائها الناس في هذا اليوم في منتهى الضعف والضالة، وهم مستخفون من هول هذا اليوم .

و تأمل الدقة في وصف الفراش في وصف الفراش بكونه مبثوثاً أن هذا الوصف يصور لك كثرة الناس في هذا اليوم وتهافتهم . ثم حدثني بربك هل في مفردات اللغة كلمة تصور هذا المشهد سوى هذه الكلمة القرآنية ؟

و هل هناك أعجب من هذه الدقة في وصف الفراش بكونه مبثوثاً ؟.

ثم دقق نظرك في كلمة " العهن " هل في قواميس اللغة العربية كلمة أقدر على تصوير هذا المشهد من هذه الكلمة ؟ إنها بجمالها وظلها وجرسها الساحر تصور لك الجبال الضخمة الثابتة بالصوف المنقوش الذي تتقاذفه الرياح الهوج . ثم تأمل بعقلك ر خيالك الدقة والإحكام في وصف العهن بكونه منفوشاً إن هذا الوصف يصور لك الجبال الضخمة الثابتة في منتهى الهشاشة والخفة .

إنه النظم القرآني يبهر العقول، ويطير بالألباب، ويذهب بسر البلاغة وسحر البيان .

* أهم المصادر والمراجع:

ـ البرهان في علوم القرآن: للسيوطي

ـ إعجاز النظم في القرآن: لمحمود شيخون

ـ روائع القرآن الكريم:  للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم