من روائع الكناية في القرآن الكريم
 
 

قال تعالى :{ِنسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } (البقرة: 223)

لقد كنى القرآن الكريم في هذه الآية بكلمة " الحرث " عن المعاشرة الزوجية .

إن هذه الكناية الفردية مما انفرد به القرآن الكريم فهي لطيفة دقيقة راسمة مصورة، مؤدية مهذبة، فيها من روعة التعبير وجمال التصوير، وألوان الأدب والتهذيب ما لا يستقل به بيان، ولا يدركه إلا من تذوق حلاوة القرآن . إنها عبرت عن المعاشرة الزوجية التي من شأنها أن تتم في السر والخفاء بالحرث وهذا نوع من الأدب رفيع وثيق الصلة بالمعاشرة الزوجية، وتنطوي تحته معاني كثيرة تحتاج في التعبير عنها إلى عشرات الكلمات. انظر إلى ذلك التشابه بين صلة الزراعي بحرثه وصلة الزوجة في هذا المجال الخاص، ويبن ذلك النبت الذي يخرجه الحرث، وذلك النبت الذي تخرجه الزوجة، وما في كليهما من تكثير وعمران وفلاح كل هذه الصور والمعاني تنطوي تحت كلمة " الحرث " أليست هذه الكلمة معجزة بنظمها وتصورها ؟

هل في مفردات اللغة العربية ـ على كثرتها ـ ما يقوم مقامها ويؤدي ما أدته ويصور ما صورته . إن المعنى لا يتحقق إلا بها, و التصوير لا يوجد بسواها .

قال تعالى : { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}(البقرة: 24).

هذه الآية كناية عن عدم العناية عند ظهور المعجزة . أي لا تعاندوا عند ظهور المعجزة فتمسكم هذه النار العظيمة تأمل هذه الكناية ومدى ما فيها من جمال التعبير، وروعة التصوير، ولطافة الإيجاز . إنها عبرت عن العناد عند ظهور المعجزة بالنار العظيمة، وهذا التعبير فيه ما فيه من شدة التنفيذ وقوة التأثير، ثم إن هذا التعبير قد أبرز لك هذا المعنى الفكري المجرد في صورة محسوسة ملموسة ولم يقف عند هذا الحد من التجسيم والتشخيص بل تعداه إلى التصيير والتحويل . فحوله على نار ملتهبة متأججة متوهجة بل تعداه إلى أعجب من هذا التصوير، ولا أروع وألذ من هذا التعبير ؟ إنه الإعجاز يلبس ثوب الكناية فتنحني له هامات البلغاء، ويثير في النفس أسمى آيات الإعجاب .

قال تعالى :(وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً )(البقرة: 235).

في هذه الآية كنى القرآن الكريم عن الجماع بالسر . تأمل هذه الكناية ومدى ما فيها من اللطائف والأنوار والأسرار . إن في الكناية بالسر عن الجماع من ألوان الأدب والتهذيب ما يعجز عن وصفه أساطين البيان، وفيها من جمال التعبير ما يسترق الأسماع ويهز العواطف ويحرك الأحاسيس والمشاعر . لقد ألبست الجماع الذي يتم في السر ثوب السر فذهبت بسر الفصاحة والبيان

قال تعالى : {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} (الفيل:5) .

 كنى القرآن الكريم " بالعصف المأكول " عن مصيرهم إلى (العذرة ) لأن العرب تسمي الشيء باسم غيره إذا كان معه أو من سببه كما قالوا للغائط من الإنسان كان الكسائي يقول إنما سمي الغائط غائطا لأن أحدهم كان إذا أراد قضاء الحاجة قال حتى آتي الغائط فأقضي حاجتي وإنما أصل الغائط المطمئن من الأرض قال فكثر ذلك في كلامهم حتى سموا غائط الإنسان بذلك وكذلك العذرة إنما هي فناء الدار فسميت به لأنه كان يلقى بأفنية الدور أي الفناء الذي يجاور البيوت وتقضى فيه الحوائج فإن الورق إذا أكل انتهى حاله إلى ذلك .

تأمل هذه الكناية إن فيها من ألوان الأدب والجمال ما لا يستقل به بيان، وفيها من الإعجاز اللطيف ما يعجز عن وصفه مهرة صناع الكلام . أما الأدب والجمال ففي التعبير عن العذرة بالعصف المأكول وهذا التعبير مما أنفرد به القرآن فلا يوجد في غيره، وأما الإيجاز اللطيف ففي اختصار مقدمات لا أهمية لها بالتنبيه على النتيجة الحاسمة التي يتقرر فيها المصير . وفيها زيادة على ذلك التلازم الوثيق بين اللفظ والمعنى الكنائي الذي لا يتخلف أبدا فإن العصف المأكول لابد من صيرورته إلى العذرة .

فالمعنى لا يؤدي إلا بهذا اللفظ لا يصلح لهذا المعنى حتى لتكاد تصعب التفرقة بينهما فلا يدري أيهما التابع ؟ وأيهما المتبوع ؟ ومن هنا يأتي الإعجاز .

قال تعالى :{ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} (الاسراء:29) .

 كنى القرآن الكريم في هذه الآية بغل اليد إلى العنق عن البخل، وببسطها كل البسط عن الإسراف . تأمل الكنايتين تجد فيهما من روائع البيان ما لا يحيط به فكر إنسان. فيهما جمال في التعبير، وروعة في التصوير، وإيجاز وتأثير، وتنفير .

ألا ترى أن التعبير عن البخل باليد المغلولة إلى العنق فيه تصوير محسوس لهذه الخلة المذمومة في صورة بغيضة منفرة ؟ فهذه اليد التي غلت إلى العنق لا تستطيع أن تمتد، وهو بذلك يرسم صورة البخيل الذي لا تستطيع يده أن تمتد بإنفاق ولا عطية . والتعبير ببسطها كل البسط يصور هذا المبذر الذي لا يبقى من ماله شيء كهذا الذي يبسط يده فلا يبقى بها شيء . وهكذا استطاعت الكناية أن تنقل المعنى قوياً مؤثراً ثم تأمل التلازم الوثيق الذي لا يتخلف أبداً بين التعبير والمعنى الكنائي . إن هذا التلائم يدلك على أن المعنى الكنائي لا يمكن تأديته وتصويره إلا بهذا التعبير، وأن هذا التعبير لا يصلح إلا لهذا المعنى . هل في مقدور البشر أن يحاكوا هذا الأسلوب ؟

* أهم المصادر والمراجع:

ـ تفسير الطبري: لابن جرير الطبري.

ـ دراسات حول الإعجاز البياني في القرآن: للدكتور عبد العزيز الحناوي.

ـ غريب الحديث: لابن سلام الهروي.

_ من روائع البيان في القرآن: الشيخ محمد علي الصابوني.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم