البعد الإنساني لقيمة التوحيد
 
 

قالالله تعالى: [ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَالسَّمَاءِ فَتَخَطَّفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ] (الحج/ الآية:31). وقال سبحانه: [ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْيُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْبِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا] (النساء/ الآية: 48).

أريد في هذه المقالة إبرازَ القيمة الكلية الجامعة التي تتفرع عنها سائر القيم التشريعية في القرآن الكريم انطلاقا من النظر في المكانة العالية التي يشغلها التوحيد في الإسلام.
فمن المعلوم أن التوحيد جوهرُ الدين، وقطبُ رحى الإسلام، والمَقْصَدُ الأسنى لرسالة القرآن، ولا يخلو موضع أو مقطع في القرآن من تقريره وتوكيده.
والسؤال: لماذا تبوَّأ التوحيدُ هذه المنزلةَ الخطيرة العظيمة في الإسلام؟ لماذا لا يغفر الله أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء؟ وما علاقة التوحيد بحركة الإنسان في الأرض، ومعايشه وأحواله وعلاقاته ومؤسساته ونشاطه التاريخي؟
والجواب عل هذا السؤال ذو شجون، ربما لا يتسع المقامُ لبسطه وتفصيله ها هنا. ولكن لنقل بإجمال: إن التوحيد هو ناموسُ النظام الكوني، ومناطُ الاجتماع الإنساني. التوحيد هو صمَّام الأمان، والإطار الأمثل لتحقيق نظرية الإنسان الكامل بأبعاده الفردية والاجتماعية والحضارية.
إن المقصد من رسالة التوحيد في الإسلام هو حفظُ الإنسان، وصونُ حقوقه وممتلكاته وحرمته وكرامته المعنوية من جميع أشكال الهَتْكِ والعَسْفِ التي تحصل في الواقع نتيجة لباعثين اثنين هُمَا: الطغيان والاستضعاف.
الأول (الطغيان): مرضٌ نفسي يصيب النخبة اغتراراً بسلطة القوة، أو سلطة الثروة، فتطغى وتتجاوز طورها الإنساني إلى درجة التألُّه؛ أي ادعاء ملكية "الأشياء"، وتقرير مصير "الأشخاص"!! وقد يكون الطغيان ضرباً من الغرور العقدي، والتقديس الفكري الذي يُصَنِّفُ الناس إلى سعداء وأشقياء، ومقبولين ومردودين، ويحكم على مصيرهم، ويَصُكُّ لهم الصّكوك!!
وفي صحيح مسلم مرفوعا " أن رجلا قال واللَهِ لا يغفر اللهُ لفلان، وإن اللهَ تعالى قال مَنْ هذا الذي يَتَأَلَّى عَلَيَّ ألاَّ أغفرَ لفلان، فإِنِّي قد غفرتُ لفلانٍ وأحبطتُ عملَك", وفي التنزيل: [ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُوتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوءَةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ] (آل عمران/ الآية:79).
فلقد كان للمعنى التوحيدي أثرٌ عظيمٌ في وقاية الأمة من غائلة الاستبداد الديني، ومنع نظام الإكليروس، والإغراءِ بمناقشة وضعه ومشروعيته في الأديان الأخرى.
والثاني (الاستضعاف): وهو كذلك مرضٌ نفسي يصيب السوادَ الأعظم من البشر، فيفقدُها إنسانيتها، ويحيلها إلى قطعانٍ بشرية مدجَّنة، لا تستطيع أن تُعبّر عن رأي، ولا تَقدِرُ على شيء، ولا تشاركُ في تقرير مصيرها ومستقبلها، وإنما حالها كما أخبر سبحانه عن الإنسان غير المُوَحِّد إذ قال: " وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُ لَا يَاتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (النحل/ الآية: 76).
فالإنسان حينما يطغى أو يُذِلَّ نَفْسَه أو يُعَرِّضَهَا للمهانة، فإنه يَلْبِسُ إيمانَهُ بظلم، ويناقضُ رُوحَ توحيدِهِ ولُبَابَ عَقْدِه. ولذلك، كان برنامج الإسلام العقدي والثقافي والاجتماعي والسياسي الالتزامَ الخَطّ الوسط بين الطغيان والاستضعاف الموسوم ب(الاستقامة)، وهو عبارة عن خطِّ العدل الذي يُحتِّمُ على الفريقين معا (يعني الطغاة والمستضعفين) العَوْدَ إلى طاعة الله والاعتراف له بالخضوع والمِلكية الحقيقية والتصرف.
ومن ثَمَّ، عَرَّفُوا التوحيد بأنه "لا يستحقُّ الخضوعَ شيءٌ سوى الله"، وهو يتجسّد في وعي المكلفين وسلوكهم، ويتجلّى في أوضاع الأمة الفردية والمجتمعية، وتربية ناشئتها وأجيالها، وصياغة نظم حياتها وثقافتها وفنونها على عدم الإذعان والانقياد لغير الله. فكُلًّ مخلوق –عَدَا النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم- يُؤْخَذُ من كلامهِ ويُرد، وتُناقشُ أوامره، وتُعْرف وتُنْكَر، وتُنتقدُ أفعاله وتصرفاته... بمعنى أن التوحيد هو القطبُ الإيجابي المناقض بالضرورة لثقافة التقديس، وثقافات التبعية والطاعة العمياء التي تُفرزها الإيديولوجيات المختلفة لترويض أتباعها على الصّمت والخضوع المطلق!
إنها ثقافة التشريك أو الصّنمية التي تتبدّل أشكالُها ولَبُوسَاتُهَا في التجربة الإنسانية التاريخية، ولكن جوهرها واحد يتكرر في المظاهر الثلاثة الآتية:
الأول: سيطرة القوي على الضعيف، وسلبه حريته في الرأي، وحريته في التعبير، وحريته في الحركة والتصرّف...
الثاني: سلبه ممتلكاته، والاستئثار بفرص العيش وموارد الثروة دونه.
الثالث: تشكيل عقول الضعفاء وإرادتهم وثقافتهم وإعلامهم وتعليمهم ليصبح القهرُ والسلبُ والاستضعافُ جزءًا من عقيدتهم ولغتهم وقيمهم ونظام مَعَاشِهم!!
وبالمقابل يحقّق التوحيد للإنسان ثلاثة أمور أساسية:
الأول: نعمة الحرية، حرية الإنسان الحقيقية والكاملة في توحيد الله تعالى حيثُ لا حجاب ولا وسيط بينه وبين الله، ولا يستطيع أحدٌ أن يحكم عليه أو يقرر مصيره نيابة عن الله، ولا يسوغ لأحد أن يَدَّعي حقَّ السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربّه، أو ينازِعَه في طريق نظره واجتهاده، كما لا يسوغ لأحد أن يسترق إنساناً أو يستعبده، لأن "الشارعَ متشوّف إلى الحرية".
الثاني: نعمة التسامي، وهي وعي الإنسان بإنسانيته مِمَّا يمنع من تدجينه وتسخيره وتَشييئِه بمعنى تحويله إلى متاع يُمْلَك.. الإنسان في ظل التوحيد يَمْلِكُ ولا يُمْلَك، إنه ليس شخصية تسويقية قابلة للتبادل والمقايضة في كل ميدان، وليس "رقماً استدلالياً" كما تصطلح عليه المؤسسات المالية، وليس "صوتا انتخابياً" يُبَاعُ ويُشترى، ولا مسماراً في آلةٍ، إنّه الإنسان المُكَرَّم وحسب!
الثالث: نعمة المساواة مع الآخرين، فإن "الحرية إنما ينالها المرءُ بعد شعوره بوجوب مساواته مع غيره فيها، وإلا كانت الاستعبادَ الذي نُفِّرَ منه". فالتوحيد يحقق للمرء المساواة مع غيره في ضرورة تصريف شؤونه، وتقرير مصيره ومستقبله. وهو الذي يُشعره بذاته المستقلة التي تتأبَّى على الفناء في الآخرين والانمياع فيهم، ويمنحه القدرة على مراجعتهم ومفاوضتهم، وقول "لا" حيث يجب أن تقال!!
والخلاصة أن التوحيد هو القطب الإيجابي المؤتمن على حفظ إنسانية الإنسان من التورّط أو الوقوع في مَصَارِعِ الطغيان أو مشاعر الاستضعاف. والإسلام إنما أَدَارَ جميعَ أُصُولِهِ وفُرُوعِهِ على هذا المحور القطْب، وشَِدَّدَ على نبذ كل المفاهيم والأوضاع التشريعية واعتبرَهَا ظُلْماً عظيماً، وإثماً مبيناً، لأن خرق سياج التوحيد يفضي إلى مفاسد عظيمة في حياة الإنسان ووجوده وتوازنه، ونظرته إلى نفسه، وعلاقته بالآخرين. إن مغزى التكليف التوحيدي: أن تتحقق إنسانية الإنسان على النحو الفطري الذي فطره الله عليها، وان تنتفي عَوَامِلُ الفتنة والتحريف التي تَقْصِدُ إلى تشويهها وإعاقتها!

  • المصدر:

مقال كتبه: د. عبد الحميد عشاق - أستاذ بمؤسسة دار الحديث الحسنية- الرباط

(موقع مدارك)

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم