النظم القرآني ... جزالته وتناسقه
 
 

ويقصد بنظم القرآن طريقة تأليف حروفه، وكلماته، وجمله، وسبكها مع أخواتها في قالب محكم، ثم طريقة استعمال هذه التراكيب في الأغراض مع أخواتها في قالب محكم، ثم طريقة استعمال هذه التراكيب في الأغراض التي يتكلم عنها، للدلالة على المعاني بأوضح عبارة في أعذب سياق وأجمل نظم.

والفرق بين الأسلوب والنظم:

 أن دائرة الأسلوب أوسع وأشمل ولا يدرك الأسلوب بالجملة الواحدة، بينما النظم يمكن إدراكه في الجملة الواحدة بل وحتى في الكلمة الواحدة.

إن المتأمل في حروف القرآن الكريم وكلماته لا يجد فيها شيئاً خارجاً عن المألوف المتداول في لغة العرب قديماً وحديثاً، ولكن عندما نتلو آيات الله نشعر أن للعبارة القرآنية كياناً خاصاً بني عليه تراكيبه ورسم معالم صورة نظمه الفريد على هذا الكيان الفريد.

فالكلام كما عهدته العرب شعر ونثر وما هو بين الشعر والنثر وهو السجع، ولو كان للإنسان عربي أن يتكلم أو يكتب أو يعلم أو يشرع أو يلفظ لما خرج في نظم كلامه أو تأليفه عن أخذ هذه الأنواع المعهودة عند ولكن القرآن جاء في ثوب غير تلك الأثواب وفي صورة غير تلك الصور، جاء نسيج وحده، وصورة ذاته، فلا هو شعور ولا هو نثر ولا هو سجع، وإنما هو قرآن، فالآية في النظم القرآني وهي ليست بيت شعر في سورة ، ولكن آية مقطع تنتهي به هو الفاصلة، وليست هذه الفاصلة قافية شعر ولا حرف سجع وإنما هي شاهد قرآني لا يوجد إلا فيه، ولا يعتدل في كلامه غيره.

إن النظم القرآن البديع بهر العرب بحسن مبادئ الآي والمقاطع وتماسك الكلمات واتساقها في التراكيب، وقد تأمّلوه آيةً آيةً وعُشراً عُشراً وسورةٌ سورة فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها ولفظة يُنكر شأنها أو يُرى غيرها أصلح هناك أو أشبه أو أحرى، بل وجدوا اتساقاً بهر العقول وأعجز أهل الحكم والبلاغات، ونظاماً والتئاماً وإتقاناً وإحكاماً بهر العقول وأعجز أهل الحكم والبلاغات، ونظاماً والتئاماً وإتقاناً وإحكاماً لم يدع في نفس واحد منهم موضع طمع حتى خرست الألسن أن تدّعي وتتقوّل.

وأقروا في قرارة أنفسهم أن هذا ليس من قول البشر وإن أنكروا ذلك بألسنتهم. ومجئ النظم القرآني على هذا الشكل من الإتقان والإحكام إنما يعود ـ كما يقول ابن عطية ـ إلى أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علماً وأحاط بالكلام كله علماً إذا ترتبت اللفظة من القرآن علم بإحاطة أي لفظة تصلح أن تبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره، والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول ومعلوم ضرورةً أن بشراً لم يكن قط محيطاً. فلهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة.

ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يضع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده ثم لا يزال ينقحها حولاً كاملاً ثم تُعطى لأحد نظيره فيأخذها بقريحة خاصة فيبذل فيها وينقّح ثم لا تزال كذلك فيها مواضع للنظر والبدل. وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد، ونحن تتبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذٍ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام.

وفيما يلي بعض مزايا النظم القرآني وأمثلة عليها:

التناسق بين العبارة والموضوع الذي يُراد تقريره:

إن الذي يتمعن النظر في النظم القرآني يلاحظ التناسق الكامل والتآلف التام بين العبارة القرآنية والمعنى الذي يُراد بيانه، وتوضيحه، فالألفاظ في النظم يُلائم بعضها بعضاً وهي كلها متوجهة إلى الغرض المنشود بحيث إذا كان المعنى غريباً كانت ألفاظه غريبة وإذا كان المعنى معروفاً مستحدثاً كانت الألفاظ تناسبها.

يقول بديع الزمان: فالكلام إذا حذا حذو الواقع وطابق نظمه نظامه حاز الجزالة بحذافيرها. ويكون ذا قوة وقدرة إذا كان أجزاؤه مصداقاً لما قيل:

عبارتنا شتى وحسنك واحد        وكل إلى ذاك الجمال يشير

بأن تتجاوب قيودات الكلام ونظمه وهيئته ويمدّ كل بقدره الغرض الكلي مع ثمراته الخصوصية.

وفي الأمثلة التالية نلقي أضواء على هذا الجانب:

         أ‌-         لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يصف حالة يعقوب عليه السلام وهو يتأسف على يوسف عليه السلام، وكانت هذه الحالة غريبة في نظر أبنائه لأنهم لم يسدوا مكان يوسف، عبر عن هذه الحالة بكلمات غريبة كلها، فقال سبحانه وتعالى على لسانهم : (قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ)[سورة يوسف:85].

حيث أتى بأغرب ألفاظ القسم بالنسبة إلى أخواتها، فإن التاء أقل استعمالاً وأبعد عن أفهام العامة، والباء والواو أعرف عند الكافة وهي أكثر دوراناً على الألسنة وأكثر استعمالاً في الكلام، ثم أتى الله سبحانه وتعالى بأغرب صيغ الأفعال التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار بالنسبة إلى أخواتها فإنّ (كان) وما قاربها أعرف عند الكافة من تفتأ.

وهم لـ (كان) وما قاربها أكثر استعمالاً منها وكذلك منها وكذلك لفظ (حرضاً) أغرب من جميع أخواتها من ألفاظ الهلاك فاقتضى حسن الوضع في النظم أن تجاوز كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة أو الاستعمال توخياً لحسن الجوار ورغبة في ائتلاف المعاني بالألفاظ ولتتعادل الألفاظ في الوضع وتتناسب في النظم.

ب. وفي هذا الباب قوله تعالى : (وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)[الأنبياء : 46]، في سياق بيان الضعف البشري أمام جبروت الخالق تبارك وتعالى فأراد بيان ضعفهم أمام العذاب الخفيف القليل فأتى ب (إن) التي تفيد التشكيك في وقوعه، وأتى بكلمة (المسّ) بدل الإصابة أو الحرق فهو دونها في المرتبة ودون الدخول، وكذلك كلمة (نفحة) مع تنوينها المشعر بضعف العذاب وحقارته و(من) المفيدة للبعضية فلم يأتهم كل العذاب وإنما هي نفحة عابرة يسيرة من جزء صغير من العذاب، ثم العذاب لم يُضف إلى اسم دال على القهر والجبروت بل أضيف إلى أرق اسم دال على الشفقة وهو (رب) ثم أضيف الرب إلى مقرّب محبوب وهو ضمير خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن الكلمات كلها مسوقة إلى هدف واحد وهو وصف هذا العذاب بالقلة والضآلة والحقارة ليبيّن بالتالي أن المذنبين يندمون ويتأسفون على ما عملوا عند تعرضهم لنفحةٍ بسيطة من عذاب الله (وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ).

وهكذا لو ذهبنا نستعرض الآيات القرآنية في موضوع من الموضوعات المذكورة فيه نجد هذا التناسق وهذا الانسجام بين المعاني والألفاظ المختارة لأدائها فلا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد، بل الألفاظ تسابق معانيها، ومعانيها تسابق ألفاظها، كما أن الألفاظ عربيّة مستعملة جارية على قوانين اللغة سليمة عن التنافر بعيدة عن البشاعة عذبة سلسة كالماء في السلاسة والعسل في الحلاوة وكالنسيم في الرقة.

ومن مزايا النظم القرآني اهتمامه بالجملة القرآنية واختيار المكان المناسب فيها للكلمة المعبرة:

بالإضافة إلى ما ذكرنا سابقاً عن التناسق بين العبارة والمعنى الذي يراد توضيحه فإن هنالك نوعاً من التناسق الرائع بين الكلمات في الجملة الواحدة وبين الحروف في الكلمة الواحدة.

فنظرة إلى تلك الحروف تبرز تناسبها لبعضها تناسباً طبيعياً في الهمس والجهر والشدة واللين والتفخيم والترقيق مما يشكل أنغاماً متناسقة متناسبة.

وهذه الخاصية تعود بلا شك إلى طريقة اختيارها وسبكها وتناسب مخارجها. كما أن وضع الكلمة في الآية واختيار موقعها والتئامها مع جارتها له الأثر الكبير في إعطاء هذا الجرس الخاص والإيقاع المؤثر في نفس السامع.

ولا يقتصر وضع الكلمة في الآية على تأثيره في اللحن والنغم وإنما لهذا الموقع والوضع المناسب تأثير على المعنى وإبرازه، لذا نجد أن كثيراً من الباحثين اقتصروا على إبراز هذه الناحية دون الإشارة إلى ناحية اللحن والإيقاع.

والحقيقة أن الكلمات القرآنية لها دور وضرورة في السياق للدلالة على المعنى، كما أن لها دوراً في تناسب الإيقاع دون أن يطغى هذا على ذاك أو يخضع النظم لأحد الأمرين.

وفي الأمثلة التالية نرى اهتمام النظم القرآني في اختيار الكلمة المناسبة ذات الجرس المعين لأداء وظيفتها في الإيقاع كما أنها تؤدي في نفس الوقت دورها في تصوير المعنى وتشخيصه وإيضاحه على أتم صورة.

         أ‌-  اختير كلمة (حرث) لتشبيه النساء به دون الأرض أو الحقل أو الزرع وغيرها من المترادفات وذلك في قوله تعالى: (نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)[سورة البقرة:223].

ولعل أختيار هذه اللفظة دون سواها لما فيها من لطف الكناية في ذلك التشابه بين صلة الزارع بحرثه وصلة الزوج بزوجه في هذا المجال الخاص، وبين ذلك النبت الذي يخرجه الحرث وذلك النبت الذي تخرجه الزوج وما في كليهما من تكثير وعمران وفلاح.

بينما هذه اللطائف لا تستفاد من كلمة (الأرض) إذ قد تكون جدباء لا تصلح لحراثة الزرع وكذلك الحقل فإنه لا يدل على عمل المالك فيه بل تدل الكلمة على شيء جاهز لا دخل فيه لبذر الحارث.

بذلك نلاحظ أن القرآن الكريم يتناول من الكلمات المترادفة أدقها دلالة على المعنى وأتمها تصويراً وتشخيصاً للصورة وأجملها وأحلاها إيقاعاً ووزناً بالنسبة إلى نظائرها.

         ب‌- ومن هذا القبيل كلمة (أغطش) في قوله تعالى:( وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا)[النازعات: 29].

فهي مساوية من حيث الدلالة اللغوية لأظلم، ولكن (أغطش) تمتاز بدلالة أخرى من وراء اللغة فالكلمة تعبر عن ظلام انتشر فيه الصمت وعمّ الركود وبدت في أنحائه مظاهر الوحشة. ولا يفيد هذا المعنى كلمة (أظلم) إذ تعبر عن السواد الحالك ليس غير.

وحينما يصف القرآن الكريم دعوة امرأة العزيز للنسوة ـ اللاتي تحدثن منتقدات عن مراودتها يوسف عن نفسه ـ إلى جلسة لطيفة في بيتها لتطلعهن فيها على يوسف وجماله فيعذرنها فيما أقدمت عليه، لقد قدمت لهن في ذلك المجلس طعاماً ولا شك. ولقد أوضح القرآن هذا، ولكنه لم يعبر عن ذلك بالطعام فهذه الكلمة إنما تصور شهرة الجوع وتنقل بالفكر إلى المطبخ بكل ما فيه من ألوان الطعام وروائحه وأسبابه، ولكن بماذا يعبّر إذن؟ وأين في اللغة الكلمة التي تؤدي معنى الطعام ولا تمس الصورة بأي تعكير أو تشويه ؟ لقد أبدع القرآن لذلك تعبيراً عجيباً رائعاً حيث قال: (لَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً)[سورة يوسف:31].

كَرِيمٌ(متكأ) كلمة تصور من الطعام ذلك النوع الذي إنما يقدّم تفكهاً وتبسطاً وتجميلاً للمجلس وتوفيراً لأسباب المتعة فيه، حتى إن الشأن فيه أن يكون الإقبال عليه في حالة من الراحة والأتكاء. ولعلها أدركت بغريزتها النسائية ما سيؤول إليه أمرهن فاختارت هذا المتكأ مما يحتاج فيه إلى سكين (وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا ).

وأحياناً يكون الاختيار للكلمة في مكان دون أماكن ويستبدل به غيرها لسرّ لطيف بالرغم من كون الموضوع واحداً، لكن الكلمة المختارة تعطي مدلولاً خاصاً لا يوفيه حقه إلا استعمال الكلمة القرآنية المختارة.

فمثلاً: جاءت الملائكة بالبشرى لزكريا عليه إسلام بيحيى، وأيضاً جاءت البشرى للسيدة مريم العذراء بالمسيح عليه السلام. لكن وضع المبشرين مختلف، وتلقّى الخبر منهما يكون له رد فعل يغاير ما في نفس الآخر، واستغراب كلّ منهما يكون لجانب أشد التصاقاً بحالة ووضعه. قال زكريا عليه السلام عندما جاءته البشرى(قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ)[سورة آل عمران:40] وقالت مريم عليها السلام عندما جاءتها البشرى (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ)[سورة آل عمران:47].

ورد في كلام زكريا عليه السلام لفظ الغلام وهو الموافق والمطابق لحاله لأنه رجل متزوج ومن شأن المتزوجين كما هي العادة أن يولد لهم، ولكن الغريب في الأمر والمعجزة أن يولد له في هذه السن المتأخرة من حياته وامرأته عاقر فكانت التي تؤدي الغرض ووجه الاستغراب هي كلمة (غلام).

أما مريم عليها السلام فالتعجب في جانب آخر إذ أنها عذراء ولم يمسسها بشر ولم تك بغياً، فالغرابة والمعجزة أن تلد وهي عذراء فكانت الكلمة المعبرة التي تؤدي المعنى بدقة وتوضح وجه الاستغراب لها هي كلمة (ولد) . فسبحان الذي أحاط علمه بسر اللغة ومكنوناتها (أَلَا

يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

          ت‌- ومن هذا القبيل استعمال كلمة (قرية) تارة واستعمال كلمة (المدينة) في موضع آخر في سورة الكهف.

فعندما كان الحديث عن بخل ولؤم السكان جاء التعبير بكلمة (أهل قرية) لأن مادة (قرى) تدل على الجمع ومن مستلزماته الإمساك والبخل، بينما عندما جاء الحديث عن الغلامين والخوف من ضياع كنزهما جاء التعبير بـ (المدينة) لأن زحمة المدينة وكثرة الوجوه الغريبة فيها أليق بإضاعة المساكن والضعفاء، كما أن التحايل والغبن يكثر في المدن أكثر منها في القرى. وكل ذلك تجده في قوله تعالى : (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا

 أَن يُضَيِّفُوهُمَا.... وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ...)[سورة الكهف:77ـ 82].

          ث‌- وفي قصة يوسف عليه السلام استعمل التعبير القرآني كلمة (فأكله الذئب) ولم يستعمل افترسه الذئب، علماً أن الشائع في الاستعمال إطلاق كلمة الافتراس على مثل هذا النوع، وذلك للطيفة دقيقة وهي أن الافتراس من فعل السبع معناه القتل فحسب، وأصل الفرس: دق العنق، والقوم إنما ادّعوا على الذئب أنه أكله أكلاً، وأتى على جميع أجزائه وأعضائه فلم يترك مفصلاً ولا عظماً. وذلك أنهم خافوا مطالبة أبيهم إيّاهم بأثر باقٍ منه يشهد بصحة ما ذكروه فادّعوا فيه الأكل ليزيلوا عن أنفسهم المطالبة، والفرس لا يعطي تمام هذا المعنى فلم يصلح على هذا أن يعبّر عنه إلا بأكل.

وبالإضافة إلى اختيار الكلمة المناسبة لأداء المعنى المعيّن فإن النظم القرآني يهتم بالإيقاع والانسجام في اللفظ والنغم:

فيؤتى بالكلمة وتوضع في مكان معيّن من العبارة بحيث لو تغيّر وضعها تقديماً أو تأخيراً أو حذفاً لاختل ذاك اللفظي وذاك الوزن الخاص.

ففي قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى {19} وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى..([سورة النجم: 19ـ 20].

لو حذفت كلمة (الأخرى) لاختلت الفاصلة ولتأثر الإيقاع، ولو قيل أفرأيتم اللات والعزى ومناة الأخرى بحذف كلمة (الثالثة) لاختل الوزن أيضاً.

وكذلك قوله تعالى: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى {21} تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى )[سورة النجم].

فلو قيل ألكم الذكر وله الأنثى تلك قسمة ضيزى، بحذف كلمة (إذن) لاختل الإيقاع المستقيم بكلمة (إذن). فكأن هذه الكلمات والحروف موزونة بميزان شديد الحساسية تميله أخف الحركات والاهتزازات.

ومن هنا يبدو لنا بجلاء سبب إطلاق العرب الأوائل في بداية نزول الوحي اسم الشعر على القرآن الكريم، لأنهم لم يعهدوا هذه الحساسية وهذا الوزن وهذا النغم إلا في الشعر. ولكنهم عندما قاسوه على أوزان الشعر المعهودة لديهم، وجدوا القرآن الكريم ـ بالرغم من اشتماله على روعة الشعر وإيقاعه وحساسيّته وتآلف كلماته واستخدامه التصوير البارع في التعبير، والمنطق الساحر في الإقناع ـ لم يتقيد بقيود الشعر الكثيرة من قافية موحدة وتفعيلة تامة. لذا وجدوا أن القرآن الكريم ملك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامة كما أنه بفواصله الخاصة به قد أوجد الإيقاع الخاص به فلم يملك قائلهم إلا أن يقول: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسلفه لمُغدق، وإن أعلاه لمُثْمر، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته.

* المصدر:

- مباحث في إعجاز القرآن : الأستاذ الدكتور مصطفى مسلم .

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم