ثُمَّ
 
 

للترتيب مع التراخي، وأما قوله: ﴿لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه: 82]، والهداية سابقة على ذلك، فالمراد «ثمّ دام على الهداية» بدليل قوله: ﴿وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ﴾ [المائدة: 93].

وقد تأتي لترتيب الأخبار لا لترتيب المخبر عنه، كقوله تعالى: ﴿فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ﴾ [يونس: 46].

وقوله: ﴿وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ﴾ [هود: 90]. وتقول: «زيد عالم كريم، ثم هو شجاع».

قال ابن برّي: قد تجيء «ثم» كثيراً لتفاوت ما بين رتبتين في قصد المتكلم فيه تفاوت ما بين مرتبتي الفعل مع السكوت عن تفاوت رتبتي الفاعل، كقوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: 1]، فـ «ثم» هنا لتفاوت رتبة الخلْق والجعل من رتبة العدل مع السكوت عن وصف العادلين.

ومثله قوله تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾ [البلد: 11] إلى قوله: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البلد: 17]، دخلت لبيان تفاوت رتبة الفكّ والإطعام، من رتبة الإيمان، إلا أنّ فيها زيادة تعرّض لوصف المؤمنين بقوله: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ [البلد: 17].

وذكر غيره في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: 1]: أن «ثم» دخلت لبُعد ما بين الكفر وخلق السموات والأرض.

وعلى ذلك جرى الزمخشري في مواضع كثيرة من الكشاف كقوله تعالى: ﴿لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه: 82].

وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ [الأحقاف: 13]، قال: كلمة التراخي دلت على تباين المنزلتين؛ دلالتها على تباين الوقتين في «جاءني زيد ثم عمرو»، أعني: أنّ منزلة الاستقامة على الخير مباينة لمنزلة الخير نفسه لأنها أعلى منها وأفضل.

ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ18/فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ19/ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ [المدثر: 18__ 20]. إن قلت: ما معنى «ثم» الداخلة في تكرير الدعاء؟ قلت: الدلالة على أن الكرّة الثانية من الدعاء أبلغ من الأولى.

وقوله: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البلد: 17]، قال: جاء بـ «ثمّ» لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة على العتق والصدقة، لا في الوقت، لأن الإيمان هو السابق المقدّم على غيره.

وقال الزمخشري في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ [النحل: 123]: إن «ثم» فيها من تعظيم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله محلّه، والإيذان بأنه أولى وأشرف ما أوتي خليل الله في ملته.

واعلم أنه بهذا التقدير يندفع الاعتراض بأن «ثم» قد تخرج عن الترتيب والمهلة وتصير كالواو، لأنه إنما يتمّ على أنها تقتضي الترتيب الزماني لزوماً، أما إذا قلنا: إنها ترد لقصد التفاوت والتراخي عن الزمان، لم يحتج إلى الانفصال عن شيء مما ذكر من هذه الآيات الشريفة، لا أن تقول: إن «ثم» قد تكون بمعنى الواو.

والحاصل أنها للتراخي في الزمان، وهو المعبر عنه بالمهلة، وتكون للتباين في الصفات وغيرها من غير قصد مهلة زمانية، بل ليعلم موقع ما يعطف بها وحاله، وأنه لو انفرد لكان كافياً فيما قصد فيه، ولم يقصد في هذا ترتيب زماني، بل تعظيم الحال فيما عطف عليه وتوقعه وتحريك النفوس لاعتباره.

وقيل: تأتي للتعجب، نحو: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: 1]. وقوله: ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ15/كَلَّا﴾ [المدثر: 15- 16].

وقيل: بمعنى واو العطف، كقوله: ﴿فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ﴾ [يونس: 46] أي: هو شهيد. وقوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: 19]. والصواب أنها على بابها لما سبق قبله.

وقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ﴾ [الأعراف: 11] وقد أمر الله الملائكة بالسجود قبل خلقنا، فالمعنى: وصورناكم.

وقيل على بابها، والمعنى: ابتدأنا خلقكم؛ لأن الله تعالى خلق آدم من تراب ثم صوّره، وابتدأ خلق الإنسان من نطفة ثم صوره.

وأما قوله: ﴿خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً﴾ [الأنعام: 2]، وقد كان قضى الأجل فمعناه: أخبركم أني خلقته من طين، ثم أخبركم أني قضيت الأجل، وهذا يكون في الجمل.

فأما عطف المفردات، فلا تكون إلا للترتيب. قاله ابن فارس.

قيل: وتأتي زائدة، كقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ﴾ [التوبة: 118] إلى قوله: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 118]، لأن «تاب» جواب «إذا» من قوله: ﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ﴾ [التوبة: 118].

وتأتي للاستئناف، كقوله تعالى: ﴿وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ﴾ [آل عمران: 111].

فإن قيل: ما المانع من الجزم على العطف؟

فالجواب: أنه عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء، كأنه قال: ثم أخبركم أنهم لا ينصرون.

فإن قيل: أيّ فرق بين رفعه وجزمه في المعنى؟

قيل: لو جزم، لكان نفي النصر مقيداً بمقاتلتهم كتوليهم، وحين رفع كان النصر وعداً مطلقاً، كأنه قال: ثم شأنهم وقصتهم أني أخبركم عنها، وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون، منعت عنهم النصرة والقوة، ثم لا ينهضون بعدها بنجاح، ولا يستقيم لهم أمر.

واعلم أنها وإن كانت حرف استئناف ففيها معنى العطف، هو عطف الخبر على جملة الشرط والجزاء، كأنه قال: أخبركم أنهم يقاتلونكم فيهزمون، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون.

فإن قيل: ما معنى التراخي في «ثم»؟

قيل: التراخي في الرتبة، لأن الأخبار التي تتسلط عليهم أعظم من الإخبار بتوليهم الأدبار، وكقوله تعالى: ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ16/ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ﴾ [المرسلات: 16- 17].

***

ثَمَّ

(المفتوحة)

ظرف للبعيد بمعنى: هنالك، قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ﴾ [الإنسان: 20].

وقرئ: ﴿فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ﴾ [يونس: 46] أي: هنالك الله شهيد، بدليل: ﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ﴾ [الكهف: 44].

وقال الطبري في قوله: ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ﴾ [يونس: 51]، معناه: أهنالك، وليست «ثم» العاطفة. وهذا وهْم اشتبه عليه المضمومة بالمفتوحة.

* أهم المصادر والمراجع:

- معجم الأدوات: راجي الأسمر.

- وانظر: لسان العرب: الإمام ابن منظور.

- وانظر: الإتقان في علوم القرآن: الإمام السيوطي.

- وانظر: معجم حروف المعاني: محمد حسن الشريف.

- وانظر: جواهر الأدب: أحمد الهاشمي.

- وانظر: معجم الأدوات والضمائر في القرآن الكريم: إسماعيل عمايرة وعبدالحميد السيد

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم