غنى النصوص بالمعاني والدلالات
 
 

وصف الله كتابه الكريم بأنه مبارك فقال تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [الأنعام: 92]، والبركة في هذا القرآن شاملة عامة تسري في كل نص فيه، وتبرز في كل موضوع من موضوعاته، وتُلحظ في كل جانب من جوانبه.. ولعل من مظاهر هذه البركة وصورها: البركة في نصوصه، حيث تجد النص قليلاً في كلماته قصيراً في عباراته لكنه غني في دلالاته، شامل في معانيه، عظيم في توجيهاته، عملاق في إيحاءاته..

ولهذا كان من أبرز سمات القرآن في أسلوبه – كما يقول العلامة المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه الرائد (النبأ العظيم) – القصد في اللفظ والوفاء بحق المعنى، ولذلك كل أسلوب القرآن موجز إيجازاً قاصداً، لا إطناب فيه ولا حشو ولا استطراد.. وإنك إذا نظرت إليه فستجد (بياناً قد قدِّر على حاجة النفس أحسن تقدير، فلا تحس فيه بتخمة الإسراف ولا بمخمصة التقتير) – كما يقول الدكتور دراز- وحتى يتضح لك هذا يدعوك إلى أن تقوم بتمرين عملي على نصوص القرآن: (ضع يدك حيث شئت من المصحف، وعدَّ ما أحصته كفك من الكلمات عداً، ثم أحص عدتها من أبلغ كلام تختاره، خارجاً عن الدفتين، وانظر نسبة ما حواه هذا الكلام من المعاني إلى ذاك، ثم انظر: كم كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها من هذا الكلام دون إخلال غرض قائله؟ وأي كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها هناك) [النبأ العظيم: 105].

ويتحدث الإمام سيد قطب عن غنى النصوص بدلالاتها وأصالتها وجمالها فيقول: (إن النص الواحد يحوي مدلولات متنوعة متناسقة في النص، وكل مدلول منها يستوفي حظه من البيان والوضوح دون اضطراب في الأداء أو اختلاط بين المدلولات. وكل قضية وكل حقيقة تنال الحيز الذي يناسبها.. بحيث يُستشهد بالنص الواحد في مجالات شتى، ويبدو في كل مرة أصيلاً في الموضوع الذي استشهد به فيه وكأنما هو مصوغ ابتداء لهذا المجال ولهذا الموضوع! وهي ظاهرة قرآنية لا تحتاج منا إلى أكثر من الإشارة إليها..) [الظلال: 3/1787].

ولا بد للقارئ البصير الذي يريد أن يعيش إيحاءات القرآن وظلاله ولطائفه – كما بينا في المفتاح السابق- أن ينطلق من هذه القاعدة وأن ينظر له بهذا المنظار وأن يفتح كنوزه المذخورة بهذا المفتاح، فيتعرض لها ويلحظها ويعيشها ويشير إليها.

الآية التي أوردناها قبل قليل - على سبيل المثال- كم من الدلالات والمعاني يمكن أن تستخرج منها؟ وكم من مظاهر البركة وصورها وألوانها يمكن أن تؤخذ منها؟ - على القاعدة البلاغية (حذف المعمول يفيد العموم) فالقرآن مبارك في كل شيء، بركة عامة شاملة - إنه مبارك في مصدره لأنه كلام الله، ومبارك في مكانه في اللوح المحفوظ، ومبارك في حامله جبريل عليه السلام، ومبارك في من يشيعه من الملائكة، ومبارك في من تلقاه وهو رسول الله عليه السلام، ومبارك في من استقر فيه وهو قلب الرسول عليه السلام، ومبارك في كلماته فهي قليلة

في مبناها غنية في معناها، ومبارك في حجمه القصير وعلومه الغزيرة، ومبارك في علومه ومعارفه - ومكتبة التفسير

وعلوم القرآن على طول التاريخ الإسلامي مصداق هذا –ومبارك في تشريعاته ومناهجه ومبادئه، ومبارك في رسالته ومهمته وأغراضه، ومبارك في أثره وتأثيره وآثاره.. إلى غير ذلك من صور البركة التي تجلت فيه..

يقول سيد قطب عن البركة في حجمه ومحتواه: (فإن هو إلَّا صفحات قلائل بالنسبة لضخام الكتب التي يكتبها البشر، ولكنه يحوي من المدلولاتوالإيحاءات والمؤثرات والتوجيهات في كل فقرة منه ما لا تحويه عشرات

من هذه الكتب الضخام في أضعاف أضعاف حيزه و حجمه! وإن الذي مارس فن القول عند غيره من بني

البشر وعالج قضية التعبير بالألفاظ عن المدلولات ليدرك أكثر مما يدرك الذين لا يزاولون فن القول،

ولا يعالجون قضايا التعبير.. إن هذا النسق القرآني مبارك من هذه الناحية - وإن هناك استحالة في أن يعبر البشر

في مثل هذا الحيز - ولا في أضعاف أضعافه - عن كل ما يحمله التعبير القرآني من مدلولات ومفهومات وموحيات ومؤثرات! وإن الآية الواحدة تؤدي من المعنى وتقرر من الحقائق ما يجعل الاستدلال بها على فنون شتى من أوجه التقرير والتوجيه شيئاً متفرداً لا نظير له في كلام البشر.. ) [الظلال:2/1147].

سورة العصر - على سبيل المثال- من أقصر سور القرآن، آياتها ثلاث، ومع ذلك غنية في معانيها حيث تكتب

فيها كتب ومجلدات، وصدق الإمام الشافعي في وصفها: (لو تدبر الناس سورة العصر لوسعتهم).

كم سيخرج القارئ بزاد من المعاني والدلالات، وكم سيستنبط من الحقائق والتوجيهات، وكم سيقف على

ثروة من القيم والتقريرات لهذه النصوص عندما يتعامل معها على هذا الأساس، إنه سيحتاج إلى صفحات

كثيرة ليسجل عليها ما أوحت له بها من إيحاءات...

﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: 17].

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [المجادلة: 5].

﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: 34].

﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 124].

* * *

* أهم المصادر والمراجع:

- مفاتيح التعامل مع القرآن الكريم: د. صلاح الخالدي.

- مقدمات لتفسير القرآن: الشيخ حسن البنا.

- المفردات في غريب القرآن: الراغب الأصفهاني.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم