الجاحظ وإعجاز القرآن بنظمه
 
 

كان الجاحظ أول من ذكر أن القرآن معجز بنظمه، وألَّف في ذلك كتاباً سماه (نظم القرآن) غير أنه سقط من يد الزمن. وفي القرآن يقول بالجزء الرابع من كتابه الحيوان:(في كتابنا المنزَّل الذي يدلنا على أنه صدق نظمُه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد) ويقصد بنظمه أسلوبه البديع من حيث بلاغته وتأثيره في النفوس والأفئدة. وكان الرسول إذا تلاه على سامعيه بدت عليهم روعة شديدة، سواء أكانوا من أنصاره المسلمين أم من أعدائه الكافرين مثل الوليد بن المغيرة الذي كان ألد خصومه فقد سمع الرسول يتلوه ذات يوم، وعاد إلى قريش فقال لهم: لقد سمعت من مُحَمّد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن أي الذي يردده عنهم الكهان، وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق أي كثير المياه والرونق. والوليد شعر بوضوح حين سمع القرآن أنه نمط واحد إذ تتوالى آياته بفواصل تطمئن عندها النفس وتشعر بأنس وعذوبة، ويقول الله تقدس اسمه فيه: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ وهو تحدٍّ إلهي بأن القرآن معجز في أسلوبه ونظمه ولا يمكن للبشر أن يأتوا بمعجزة في البيان والبلاغة مماثلة له. ويكفي أن تقارن بين بعض آياته وبين معلقة جاهلية مثل معلقة لبيد أو بينه وبين شعر قبيلة مثل هذيل لنعرف أنه نزل على الرسول في أساليب لا سابقة لها من الجزالة والعذوبة. وأساليبه دائماً من السهل الممتنع الذي يتمتع الآذان حين تستمع له، والأفواه حين تنطق به، والقلوب حين تصغي إليه. وقد استطاعت أساليبه أن تبهر العرب وتجذبهم إليه، كما استطاعت أن تفتح قلوب الناس وعقولهم حين فتح العرب الأمصار الإسلامية من أواسط آسيا إلى المحيط الأطلنطي، فإذا هم يهجرون لغاتهم المختلفة إلى لغته الصافية الشفافة، وتصبح لغة عامة للناس في غرب آسيا وشمال إفريقيا وتصعد للناس في أوربا بديار الأندلس.

ولا نعرف ماذا كتب الجاحظ عن نظم القرآن لأن كتابه عنه مفقود غير أنه يكثر من الحديث في كتابه (البيان والتبيين) عن كمال التركيب وحسن الصوغ وجودة اللفظ وبهائه، ويقول في كتابه (الحيوان): (المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وكثرة الماء أي الرونق وجودة السبك، وإنما الشعر صياغة أي أسلوب وضرب من التصوير). وتعريفه للشعر بهذه الصورة يدلنا على أنه كان يدخل التصوير وما يطوى فيه من أخيلة الصياغة أي الأسلوب إذ كان يريد به معنى أوسع من رَصْف الألفاظ لإدخاله فيه الأخيلة والتصاوير، وكأنما أحس في عمق أن المعاني وحدها لا تكوِّن الكلام البليغ، بدليل أن المترجمين في أيامه ينقلون معاني دقيقة لفلاسفة اليونان وغيرهم إلى العربية، ومع ذلك لا يمكن أن يوصف ما نقلوه إلى العربية بالبلاغة، فكلامهم يحمل معاني صحيحة دقيقة، ولكن تنقصه البلاغة من حسن السبك والصياغة.

وكان الجاحظ يعرف بدقة أن اللفظ المرادف في الأسلوب للفظ آخر لا يؤدي معناه بدقة، وذلك – في رأينا – لاختلافهما صوتاً وحروفاً، يقول: (وقد يستخف الناس ألفاظاً ويستعملونها وغيرها أحق بذلك منها) ويضرب الأمثلة على ذلك من القرآن: ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن الجوع إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر، ويسوق مثلاً قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ﴾ [البقرة: 155] والناس لا يذكرون السَّغب، ويذكرون الجوع في حالة القدرة والسلامة. وكذلك ذكر المطر، لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في مواضع الانتقام كقوله تعالى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ﴾ [الشعراء: 173]. والعامة وأكثر الناس لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث. ولفظ القرآن الذي عليه نزل إذا ذكر الأبصار لم يقل الأسماع (لأن ما يسمع لا يختلف من شخص إلى آخر فأفرده بخلاف ما يبصر ويرى). وإذا ذكر سبع سماوات لم يقل الأرضين (استثقالاً لها) وقال الأرض: ألا تراه لا يجمع الأرض أرضين ولا السمع أسماعاً. والجاري على أفواه العامة غير ذلك: لا يتفقدون من الألفاظ ما هو أولى بالذكر، وأولى بالاستعمال. ويسوق الجاحظ بعض ألفاظ مترادفة منكراً أن تكون دلالاتها في أساليبها واحدة، يقول (ويقال فلان أحمق، فإذا قالوا مائق فليس يريدون ذلك المعنى بعينه، وكذلك إذا قالوا أنْوك، وكذلك إذا قالوا رقيع. ويقولون: فلان سليم الصدر، ثم يقولون غبي، ثم يقولون أبله. وكذلك قالوا معتوه ومسلوب وأشباه ذلك. وهذا المأخذ يجري في الصفات كلها من جود وبخل وصلاح وفساد ونقصان ورجحان).

والجاحظ – بذلك – ينكر ترادف الألفاظ في الصياغة والأساليب بمعنى واحد وهو حقاً يختلف من لفظ إلى آخر مرادف – من حيث الصوت والحروف، ولم يصرِّح بما أقول، ولكنه – على كل حال – تنبه إلى ما ينبغي للألفاظ المفردة في الصياغة والأسلوب من دقة اختيارها وانتخابها في مكانها مستضيئاً بنظم القرآن وصياغته في إحكام الدقة في استعمال الألفاظ في مواضعها من الكلام.

* أهم المصادر والمراجع:

- معجزات القرآن: د. شوقي ضيف.

- انظر تفسير ان كثير: الإمام ابن كثير.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم