الرسول يوضح معنى الخَيْطين لعَدِيِّ بن حاتم
 
 

روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه قال: لما نزلت الآية: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ﴾ [البقرة: 187]. عمدت إلى عِقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، وجعلت أنظر من الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت له فقال: إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار.

وفي روايةٍ أخرى للبخاري أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال لعدي بن حاتمٍ بعدما فعل ما فعل: «إن وسادك لعريض، أَن كان الخيط الأبيض والخيط الأسود تحت وسادتك».

وفي رواية ثالثة للبخاري أن عدي بن حاتمٍ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله: ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود؟ أهما الخيطان؟ قال: إنك لعريض القفا، أَن أبصرتَ الخيطين. ثم قال: لا، بل هما سواد الليل وبياض النهار.

إن عدي بن حاتم الطائي – رضي الله عنه – أخذ الخيطين على ظاهرهما، وفهم من الآية أن المراد هو أن يقدر على أن يميز لون الخيطين، وعندما يمسك عن الطعام، ولهذا تناول خيطين حقيقيين ووضعهما تحت الوسادة وصار ينظر إليهما.

ولقد صحَّح الرسول صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم فهمه للآية، وبيَّن له أن المراد هو سواد الليل وبياض النهار، وليس حقيقة الخيطين. ومزج هذا التصحيح والتصويب بدعابةٍ لطيفةٍ فكهة، محبَّبةٍ إلى نفس السامع لها من رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال له: «إن وسادك لعريض» و«إنك لعريض القفا» وهذان مثلان يضربان كناية عن غفلة السامع وسذاجته «وعبطه». ولا يراد الظاهر من هذين المثلين، ولا أن يُذَم عديٌ، أو يوصف بالبلاهية والسذاجة، فإنه مبرأٌ من ذلك، وإنما يراد منهما الدعابة والتفكه.

وقد يتساءل متسائل: كيف غابت هذه الاستعارة عن عدي بن حاتم، ولم يفطن لها، وهو العربي الذكي الفصيح البليغ؟؟.

بعض الناس قد يشكك في عديٍّ وبلاغته وفصاحته، ونعلم أنه فوق هذا التشكيك.

وبعض الناس قد يشكك في صحة الواقعة، ولا يسلم أنها وقعت، لأنها تتعارض مع فطنة عديٍّ وفصاحته المتفق عليها.

من هؤلاء فخر الدين الرازي، الذي استبعد هذه الواقعة، بقوله: (وأما ما حُكِيَ عن عدي بن حاتم فبعيد، لأنه يبعد أنه يبعد أن يخفى على مثله هذه الاستعارة مع قوله تعالى: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾.

ونحن نعجب لرجلٍ مثل الرازي في علمه وجلالته، كيف يقع في هذا الخطأ، ويستبعد حادثةً وردت بحديثٍ صحيح، وكيف يُجَوِّز لنفسه أن يرد رواية في الصحيحين؟ لكن لكل قلمٍ زلة، ولكل جوادٍ كبوة.

ولعل ما يصلح تفسيراً للخطأ في الفهم الذي وقع به عدي بن حاتم رضي الله عنه: أن الآية لم تنص عندما نزلت على أن المراد من الخيطين هو الليل والنهار، وأن كلمة «من الفجر» لم تنزل مع بقية الآية، وإنما تأخر نزولها لحين وقوع بعض الصحابة في خطأ في فهم الآية، فكانت توضيحاً قرآنياً للمراد بالخيطين.

فقد روى البخاري عن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه قال: أُنزلت: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ﴾ ولم ينزل « مِنَ الْفَجْرِ» فكان رجالٌ إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رِئْيُهُما، فأنزل الله بعد «من الفجر» فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار.

وهناك عبرةٌ عظيمة، ودرسً بالغ، نأخذه من موقف عدي – ومن كان مثله من الرجال – من الخيطين، حيث أخذهما على ظاهرهما، وكأنه يدعونا إلى أن نقف أمام الأوامر والنصوص موقف المنفذ لها، وليس المتفلسف عليها، المؤوِّل لها، المحرف لمعناها.

* * *

* أهم المصادر والمراجع:

- تصويبات في فهم بعض الآيات: د. صلاح الخالدي.

- مفردات الفاظ القرآتن الكريم: الراغب الأصفهاني.

- تفسير الدر المنثور: الإمام السيوطي.

- تفسير ابن كثير: الإمام ابن كثير.

 
 
دليل الأبحاث العلمية حول القرآن الكريم